عربي
Wednesday 8th of May 2024
0
نفر 0

بطون قريش وأنصارها يستولون عمليا على مقاليد الدولة الإسلامية


قبل فتح مكة كانت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية وسط أغلبية ساحقة من المشركين والمنافقين والمرتزقة من الأعراب. وبعد فتح مكة ودخول العرب بالإسلام بقيت الفئة المؤمنة الصادقة أقلية أيضا وسط أكثرية ساحقة من المنافقين والمرتزقة من الأعراب وحديثي الدخول بالإسلام الذين يجهلون تاريخه ورجاله.
وفي الحالتين كان وجود النبي كقيادة إسلامية، والتفاف الفئة المؤمنة الصادقة حوله الضمانة الوحيدة لنقاء الحكم الإسلامي وبقائه. وهنا يكمن سر تركيز النبي المكثف على من يخلفه. لقد أدركت بطون قريش هذه الناحية، ورأت أن استغلالها هي الطريق الوحيد للوصول إلى الملك، وفصل السلطان عن الإسلام، لذلك استغلت هذه البطون سماحة الإسلام وعدالته، وجمعت حولها كافة العناصر التي اشتركت بمقاومة النبي ومحاربته سابقا، وانصب هدفها على عزل الفئة المؤمنة عن المجتمع، وتهميشها تماما ودس الوقيعة بين رموزها، واستعمال الكثرة الساحقة، كطريق فرد للاستيلاء على الدولة الإسلامية. والتفرد بالملك الذي تمخضت عنه النبوة!! وكمرحلة أولى رأت البطون أن تسند رئاسة الدولة لرموز إسلامية مقبولة ومعروفة (الخليفة الرمز) على أن تكون بطانته، وقادة جنده وعمال ولايته وأهل الحل والعقد عنده، وبعد أن تضرب جذور البطون في الأرض تلغي فكرة الخليفة الرمز وتستولي علنا ورسميا على كافة مقاليد الدولة الإسلامية، وتفرض على الناس مناهجها التربوية والتعليمية، وخلال هذه المدة تمنع رواية الحديث النبوي وكتابته، حتى تطمس كل ما يذكر الناس بالحقيقة وبالشرعية السياسية الإلهية. وسواء في عهد الخليفة الرمز، أو عندما استولت البطون على مقاليد الدولة، كانت الفئة المؤمنة مهمشة تماما. وراجت قناعة بأن أفرادها لا يصلحون للقيادة، وغير موالين لدولة البطون ومتحفزين لشق عصا الطاعة، ومفارقة الجماعة!! ومن مصلحة الإسلام والمسلمين، ومن دواعي استقرار الدولة أن تبقى هذه الفئة تحت الرقابة المباشرة للخليفة الرمز وبطانته، وأن لا يتولى أفرادها أي مصلحة من المصالح العامة، بمعنى أن الفئة المؤمنة عمليا تحت الإقامة الجبرية، فنادرا ما يأذن الخليفة لأحد من أفرادها بمغادرة العاصمة إلى الأقاليم البعيدة عن إشرافه المباشر. ولأن الخليفة عادل فقد كان يغدق على الشخصيات البارزة من أفراد هذه الفئة المؤمنة الأموال الطائلة من بيت مال المسلمين تأليفا لقلوبها، واتقاء لخطرها وطمعا باستقرار الدولة، حتى صارت تلك الشخصيات من أصحاب الملايين في مجتمع أكثريته الساحقة جائعة ومحتاجة!!.
المعايير الجديدة لتعبئة الوظائف العامة:
عندما نجح التحالف الذي قادته بطون قريش، بالاستيلاء على مقاليد الدولة اختفت المعايير التي كانت سائدة في زمن الرسول، فلم يعد منها البلاء في سبيل الله، ولا السابقة في الإسلام، ولا العلم، ولا الإخلاص لله ولرسوله، وحلت محلها معايير جديدة أهمها، موالاة دولة البطون، وإرضاء رموزها والأكثرية الساحقة، والقدرة على تنفيذ سياسة الدولة وبرامجها التربوية والتعليمية، ومعاداة أعداء الدولة، والحط من قيمتهم، بحيث لا يبقى لهم شأن ولا ذكر، وإرغام أنوفهم لتبقى دوما في التراب!
الاستعانة بالمنافقين والفاسقين والمرتزقة:
قال ابن حجر في فتح الباري (والذي يظهر من سيرة عمر رضي الله عنه في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل كان يضم إليه الذي عنده مزيد من المعرفة السياسية، فلأجل ذلك استخلف معاوية والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم، (راجع فتح الباري، كتاب الأحكام ج 13 ص 198).
قال حذيفة: (أمين سر رسول الله) لعمر بن الخطاب يوما: (يا عمر إنك تستعين بالرجل الفاجر)، (راجع كنز العمال ج 5 ص 77) (والله يا عمر إنك تستعمل من يخون وتقول ليس عليك شيء وعاملك يفعل كذا وكذا)، (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 31)، وكان عمر يعلم أن الذين يستعين بهم ويستعملهم فجار، أو منافقون أو خونة لله ولرسوله ولكنه كان يبرر استعماله لهم بالقول: (نستعين بقوة المنافق، وإثمه عليه). (رواه ابن أبي شيبة والبيهقي، راجع كنز العمال ج 4 ص 614). وهكذا صارت الاستعانة وتأمير الفاسقين والمنافقين والفجار طمعا بقوتهم سنة ونظرية تتبناها دولة البطون وتنفذها بوفاء، فأينما وجدت القوة، استعانت بصاحبها بغض النظر عن دينه، أو علمه أو سابقته أو جهاده أو ماضيه، والقوة تعني الالتزام بسياسة الدولة العامة، والولاء لها، وكراهية أعدائها، وحرمان أولئك الأعداء وأوليائهم من كافة الوظائف العامة، والكارثة حقا أن (أعداء) الدولة ومعارضيها سواء بالعلن أم بالسر هم أولياء النبي وقرابته الأدنون، ومن قام الإسلام كله على أكتافهم!!
طواقم جديدة من الولاة:
بعد أقل من شهرين على وفاة الرسول الأعظم تم عزل كافة العمال والولاة والأمراء الذين عينهم الرسول، وقتل بعضهم شر قتلة، كمالك بن نويرة، ونجا أسامة بن زيد الذي عينه الرسول أميرا على جيش من العزل بأعجوبة!! وعينت الدولة طواقم جديدة من الولاة والأمراء بدلا من الذين عينهم رسول الله، واقتسمت بطون قريش الوظائف العامة، وحصل البطن الأموي على نصيب الأسد، لأن هذا البطن قد ساهم مساهمة فعالة بإقامة دولة البطون. وهذا البطن مشهور بعداوته للنبي وببغضه لآل النبي، وحقده عليهم، فالعرب كلهم بل العالم بأسره يعلم بأن أبا سفيان وأولاده خاصة، والأمويين عامة هم الذين قادوا جبهة الشرك ضد رسول الله طوال فترة الـ15 سنة التي سبقت الهجرة، وأنهم هم الذين جيشوا الجيوش وألبوا العرب على رسول الله وحاربوه بكل فنون القتال، وعادوه بكل وسائل العداء حتى أحيط بهم عندما فتح الرسول مكة، فاضطروا مكرهين للتلفظ بالشهادتين، وكتموا إحباطهم وحقدهم على آل محمد، لأنهم فئة موتورة، فما من بيت من بيوت البطن الأموي إلا وأصاب الهاشميون منه مقتلا، وقد بين الرسول لأصحابه، بأن الأمويين هم أكثر بطون قريش بغضا لآل محمد، وأنهم طامعون بملك النبوة لأنه رآهم ينزون على منبره نزو القردة، وطلب من الناس أن يعتزلوهم وأن يحذروا منهم، وبعد وفاة النبي بفترة وجيزة ولت الدولة يزيد بن أبي سفيان قائدا عاما لجيش الشام، ولما مات يزيد عينت أخاه معاوية أميرا على الشام خلفا لأخيه، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 118، وتاريخ الطبري ج 5 ص 69، والاستيعاب ج 3 ص 596، وكنز العمال ج 13 ص 606) وأطلق عمر بن الخطاب يد معاوية في بلاد الشام، وأعطاه الحرية الكاملة ليفعل ما يشاء، وليتصرف على الوجه الذي يراه، بلا رقيب ولا حسيب، فقد قال عمر لمعاوية يوما: (... لا آمرك ولا أنهاك)، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 125، وتاريخ الطبري ج 6 ص 184)، وكان عمر يوطد له بين الناس فيقول عن معاوية: (إنه فتى قريش وابن سيدها)، (راجع البداية والنهاية ج 8 ص 125، والاستيعاب ج 8 ص 397)، وكان يقول للناس: (تذكرون كسرى وعندكم معاوية)، (راجع تاريخ الطبري ج 6 ص 184)، وخاطب عمر أصحاب الشورى قائلا: (إذا اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام)، (راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 535). وكان عمر يعرف أن معاوية يعد أهل الشام للخروج، وأنه سيخرج ذات يوم، فقد صرح عمر في يوم من الأيام قائلا: (يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق). (راجع الدلائل لابن سعد، وكنز العمال ج 12 ص 354). ومع هذا لم يتعرض له عمر، إنما تركه ليكمل استعداداته وعدته ويخرج في الوقت المناسب!! وكان وراء تأمير عمرو بن العاص، فقد أعلن عمر أمام علية القوم قائلا: (لا ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا).
(راجع الإصابة ج 5 ص 3)، واستعان عمر بقوة الوليد بن عقبة، مع أن الوليد فاسق بنص القرآن، وكان يسكر علنا وصلى بالناس وهو سكران. (راجع الإصابة.ج 3 ص 363). واستعان عمر بعبد الله بن أبي سرح، وكان من المقربين إليه، (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 59، والبداية والنهاية ج 8 ص 214). وعبد الله ابن أبي سرح هذا هو الذي افترى على الله الكذب، وأباح الرسول دمه حتى لو تعلق بأستار الكعبة، ثم أتمها عمر على بني أمية، ووضع الأساس المتين لحكمهم يوم عهد عمليا بالخلافة لعثمان.
واستعان عمر بقوة أبي الأعور السلمي الذي شهد حنين مشركا، (راجع الإصابة ج 2 ص 540، وأسد الغابة ج 6 ص 16)، وقد لعنه رسول الله (رواه أبو نعيم، راجع كنز العمال ج 8 ص 82). وكان من أشد المبغضين لعلي بن أبي طالب، وقد أمره عمر، وجعله على مقدمة جيش. (راجع الإصابة ج 2 ص 541).
وأمر عمر يعلى بن منبه على بعض بلاد اليمن، وكان من الحاقدين على علي بن أبي طالب، فقد أعان الزبير بأربعمائة ألف عندما خرج على علي، واشترى لعائشة أم المؤمنين جملا يقال له (عسكر)، وجهز سبعين رجلا من قريش لقتال علي بن أبي طالب. (راجع الاستيعاب ج 3 ص 662 ـ 663).
واستعان عمر ببسر بن أرطأة، وأياس بن صبيح، وهو من أصحاب مسيلمة الكذاب، أسلم وولاه عمر القضاء على البصرة، (راجع الإصابة ج 1 ص 120).
واستعان عمر بطليحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي، وقد أعجب عمر به ورضي عنه، وكتب إلى أمرائه أن يشاوروه. (راجع البداية والنهاية ج 7 ص 130). وابن عدي الكلبي الرجل النصراني الذي تلفظ بالشهادتين، وفورا دعا له عمر برمح فولاه الإمارة، قال عوف بن خارجة، ما رأيت رجلا لم يصل صلاة أمر على جماعة من المسلمين قبله، (راجع الإصابة ج 1 ص 116). واستعمل عمر أبا زبيد على صدقات قومه وكان نصرانيا، ولأنه قوي استعمله، ولم يستعمل نصرانيا غيره. (راجع الإستيعاب ج 4 ص 80). واستعان عمر بكعب الأحبار اليهودي الذي أسلم فصار من خلص الخليفة وأصفيائه ومرجعه وموضع أسراره، والمجيب الموثوق على كل تساؤلاته، وتولى كعب عملية القص في المساجد وصار القص سنة. (راجع الإصابة ج 3 ص 316)، فكان كعب يقص ما يحلو له.

في مسجد رسول الله، في الوقت الذي منعت فيه دولة الخلافة كتابة ورواية أحاديث رسول الله نفسه!!
ولما مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها العامة غاصة بأصحاب (القوة) من الفاسقين والمنافقين، وقد استخدمهم الخليفة ليستعين بقوتهم، كما قال ونفاقهم وفسقهم على أنفسهم.
ولما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه، رفع شعار صلة الرحم، بدلا من القوة، فعمر كان يبحث عن الأقوياء ليستعين بقوتهم، أما عثمان فقد كان يبحث عن الأرحام ليصلها، ومن نافذة الأرحام وبابها الواسع دخل الأمويون كلهم، ودخل معهم أولياؤهم إلى ولايات الدولة وأعمالها ووظائفها، فما من مصر من الأمصار، وما من عمل من الأعمال، إلا وواليه أموي، أو موال لبني أمية. وكان أول الداخلين من هذا الباب الحكم بن العاص، طريد رسول الله وعدوه اللدود، لعنه رسول الله وطرده وحرم عليه دخول المدينة، ولما آلت الخلافة لعثمان أعاده للمدينة معززا مكرما، ولما مات بنى على قبره فسطاطا، ومع الحكم دخل ابنه مروان. قالت عائشة أم المؤمنين لمروان: (أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه). قال الذهبي وابن عبد البر وغيرهما: (مروان أول من شق عصا المسلمين بلا شبهة). (راجع شذرات الذهب ابن العماد ج 1 ص 69).
وكان مروان من أسباب قتل عثمان. (راجع الإصابة ج 6 ص 157). ومع أن مروان ملعون على لسان نبيه، إلا أنه تولى الخلافة، ولقب أمير المؤمنين وتوارث أبناؤه ملك النبوة. وقد وصف مروان بن الحكم وضع دولة الخلافة بآخر أيام عثمان، وصفا دقيقا فقال لجموع الثوار الذين احتشدوا حول دار عثمان: (ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهب، شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بإذن صاحبه إلا من أريد، جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا، اخرجوا عنا، غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا). (راجع تاريخ الطبري ج 5 ص 110).
والخلاصة أن دولة الخلافة تحولت إلى ملك أموي خالص، وأن الأمويين قد غلبوا على كل شيء، وأن الأكثرية الساحقة مع بني أمية طمعا بما هم غالبون.
عليه، وأنه لم يبق من السلام السياسي إلا لقب الخليفة (أمير المؤمنين)، وأن الولايات والأعمال والوظائف العامة بالكامل مع بني أمية، وأموية من جميع الوجوه، بمعنى أن الدولة بكل مؤسساتها قد أصبحت تحت سيطرة الذين عادوا رسول الله وحاربوه بالأمس، وأن الفئة المؤمنة مهمشة بالكامل، وأقلية، وليس لها من أمر الدولة شيء. ولو تولى الخلافة بعد عثمان أي رجل في الدنيا غير علي بن أبي طالب لما استطاع أن يصمد بمثل هذه الظروف أكثر من ساعة من الزمان، لأن الملك الأموي، وسلطان المنافقين والفاسقين، قد توطد وضربت جذوره في الأرض وفي النفوس والمصالح طوال عهود الخلفاء الثلاثة، ووفقا للمعايير التي عممتها الدولة، فلا فرق بين أي صحابي من السابقين في الإيمان، ومن أهل البلاء وبين أبي سفيان، أو الحكم بن العاص، فهم بدون تفصيلات صحابة، لأنهم شاهدوا النبي، وكلهم عدول والتفاضل بينهم في الآخرة، وليس في الدنيا، والاهم من ذلك هو اعتقاد الأكثرية، بأن أبا سفيان والحكم بن العاص أصلح لإمارة الناس من أصحاب السابقة، ومن أهل البلاء في سبيل الله، ممن قامت الدولة النبوية على أكتافهم وبسواعدهم، أما أهل بيت النبوة، فقد تم التعتيم رسميا على كل فضائلهم، ولا يجرؤ أحد على ذكرهم بخير، وهم في أحسن الظروف صحابة مثلهم مثل أبي سفيان، ومروان بن الحكم، ومعاوية، بل إن هؤلاء وأمثالهم أعظم شانا عند الأكثرية والأولى بالطاعة من أهل بيت النبوة، لأن وسائل إعلام الدولة الرسمية نفخت الثلاثة وأمثالهم، وأعطتهم أحجاما أسطورية ليست لهم في الحق والحقيقة، بينما تجاهلت وسائل إعلام الدولة التاريخية أهل بيت النبوة، وعتمت على صورهم، وسخرت الدولة كافة مواردها لإبراز أهل بيت النبوة بصورة النكرات!!! واستقرت تلك الأوهام التي خلقتها وسائل الإعلام، وإمكانيات دولة الخلافة في قلوب الأكثرية الساحقة من أبناء الأمة، لأن تلك الأوهام كانت بمثابة القناعات الرسمية التي تبنتها دولة البطون، وعلى منوالها سارت عهود الخلافة التاريخية.
وباختصار شديد فإن أهل بيت النبوة، وأولياء النبي وهم علماء الإسلام وأساتذته الذين قامت دعوة الإسلام ودولة النبوة على أكتافهم، قد أخروا بالقوة، وصاروا رعايا ومحكومين، لا تقدم مواقفهم ولا تؤخر مع إجماع أغلبية ساحقة، أما الذين قاوموا النبي والنبوة قبل الهجرة وحاربوا النبي بعد الهجرة، وجهلوا أحكام الدين فقد غلبوا بعد وفاة النبي، وتسلموا بالقوة أو بالعهد والتسلل مقاليد الدولة، فصاروا هم السادة والحكام والأساتذة وأصحاب الكلمة المسموعة، لأن بيدهم النفوذ والجاه والمال والسلطة، ومؤهلهم الوحيد هو القوة. تلك حقيقة لا يماري فيها إلا جاهل، أو متجاهل أو عابد هواه.
وتحقق ما حذر منه النبي وتفكك الإسلام وحلت كافة عراه!!!
بينا بأن رسول الله وقبل أن ينتقل إلى جوار ربه، حذر المسلمين وبأنهم إن لم يلتزموا بما أمرهم به، فإن الإسلام سيتفكك، وستحل عراه عروة بعد عروة، فكلما انتقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها، وأن أول عرى الإسلام نقضا الحكم، وآخرها نقضا الصلاة. (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، راجع كنز العمال ج 1 ص 238).
وكرر النبي التحذير في مناسبات متعددة، وأطلعهم على ما هو كائن وبالتصوير الحي البطئ، وأحيط الجميع علما بما حذر منه الرسول، وقامت الحجة على الجميع. ولخص الرسول الموقف للجميع، وأكد هذا التلخيص بكل وسائل التأكيد، وبينه وبكل طرق البيان، وحذر المسلمين بأنهم لن ينجحوا ولن يهتدوا، ولن يتجنبوا الضلالة من بعده، إلا إذا تمسكوا بالثقلين كتاب الله، وعترة النبي أهل بيته.
ثم بعد ذلك مرض النبي، وكان ما كان، فما أن مرض النبي حتى تنكرت له الأكثرية الساحقة رغبة أو رهبة، وقالوا له وجها لوجه: (أنت تهجر!! والقرآن وحده يكفينا، ولسنا بحاجة لوصيتك)!! بل والأعظم من ذلك أن هذه الأكثرية بعد أن استولت على مقاليد الحكم منعت رواية وكتابة أحاديث رسول الله منعا باتا، ورفعت شعار (حسبنا كتاب الله)!! وصارت رواية أحاديث الرسول من الجرائم الكبرى التي يستحق مرتكبها القتل، فكان حذيفة يقول: (لو كنت على شاطئ نهر، وقد مددت يدي لاغترف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل). (راجع كنز العمال ج 3 ص 345 نقلا عن ابن عساكر) وروى البخاري في صحيحه (كتاب العلم ج 1 ص 34) عن أبي هريرة أنه قد قال:
(حفظت من رسول الله وعائين، فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)!! وقال: (إني لأحدث أحاديثا لو تكلمت بها في زمن عمر أو عند عمر لشج رأسي). (راجع البداية لابن كثير ج 8 ص 107) وفي عهد عمر بن الخطاب عزم أبي بن كعب أن يتكلم في الذي لم يتكلم به بعد وفاة الرسول فقال: (لأقولن قولا لا أبالي أستحييتموني عليه أو قتلتموني). (راجع ابن سعد، الطبقات الكبرى ج 3 ص 501 والحاكم باختصار ج 2 ص 329 و ج 3 ص 303). ووعد أن يكشف الحقائق أمام الناس يوم الجمعة، وترقب الناس ذلك اليوم الذي يكشف فيه أبي بن كعب حقائق ما سمعه من رسول الله، ولكن في يوم الأربعاء مات الصحابي العظيم الذي وعد بكشف الحقائق. قال قيس بن عباد: رأيت الناس يموجون، فقلت: ما الخبر؟ فقالوا: مات سيد المسلمين أبي بن كعب، فقلت: ستر الله على المسلمين حيث لم يقم الشيخ ذلك المقام). (راجع المسترشد لابن جرير الطبري ص 28، ومعالم الفتن لسعيد أيوب ج 1 ص 257).
والخلاصة أن منع رواية وكتابة أحاديث الرسول قد تحول إلى قانون أساسي، نافذ المفعول في كل أرجاء دولة الخلافة، ولكن لا بأس برواية الأحاديث التي تمدح القائمين على الحكم، وتضفي طابع الشرعية والمشروعية على تصرفاتها، فرواية مثل هذه الأحاديث مباحة حتى وإن كانت مختلقة، ورواة هذه الأحاديث من المقربين، حتى وإن كانوا أعداء لله ولرسوله!! وبمدة وجيزة، حلت عرى الإسلام كلها عروة بعد عروة، ولم يبق غير الصلاة، وحشر المؤمنون الذين كانوا يصلون على طريقة رسول الله، وضيق الخناق عليهم على اعتبار (أنهم شواذ) يخالفون جماعة المسلمين وإمامهم، ويتفردون بصلاة تختلف عن صلاة الأمة!! قال حذيفة أمين سر رسول الله: (لقد ابتلينا حتى أن الرجل ليصلي وحده وهو خائف). (راجع صحيح البخاري ج 1 ص 180 كتاب الجهاد والسير). وقال حذيفة أيضا: (فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا). (راجع صحيح مسلم ج 2 ص 179، ورواه أحمد في الفتح الرباني ج 23 ص 40، و ج 2 ص 462 من معالم الفتن). وروى البخاري أن الزهري قد دخل على أنس بن مالك فوجده يبكي، فقال له ما يبكيك؟ فقال أنس: لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. (راجع الفتح الرباني ج 1 ص 200). وقال أنس بن مالك مرة أخرى: (لا أعرف شيئا اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله!! فقلنا: فأين الصلاة؟ فقال أو لم تضعوا بالصلاة ما قد علمتم؟)! (رواه أحمد والترمذي، وحسنه وقال في الفتح الرباني ج 1 ص 199 روي عن أنس من غير وجه).
هذه شهادة حذيفة أمين سر رسول الله، وتكتسب شهادته أهمية خاصة لأنه أمين سر رسول الله بإجماع المسلمين، ولأنه بقي على عهد رسول الله لم يبدل ولم يتبدل، ولم يرجع القهقرى على عقبيه، تدعمها شهادة أنس بن مالك الذي وعى عمليا الصلاة بحكم خدمته للنبي، وكان أنس إلى جانب السلطة دائما عايشها وتعايش معها، ولم يثنه عن الولاء لهذه السلطة تبدلها ولا تغيرها، وكان يسمع مسبته من رجالها بصبر بالغ.
فإذا ثبت بأن المخلصين من الصحابة كانوا يصلون سرا، وهم في حالة خوف، من غضب السلطة، أو من غضب الجماهير الموالية لها، وإذا كان أحد الذين خدموا الرسول فترة طويلة، وشاهد رسول الله مئات المرات وهو يصلي عمليا يشهد ويقر ويعترف بأن الصلاة قد ضيعت بالفعل ونقضت من أصولها، ففي هذا دليل قاطع على أن آخر عروة من عرى الإسلام، وهي الصلاة قد حلت تماما بشهادة شهود عيان عاصروا حكومة الرسول، وحكومة الخلفاء الثلاثة، وحكومة بني أمية، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله قد أخبر الأمة بما هو كائن، مثلما أخبر الأمة بأن عرى الإسلام ستنقض عروة بعد عروة، وأن نقض نظام الحكم هو أول عرى الإسلام نقضا، وأن نقض الصلاة هو آخر عرى الإسلام نقضا، ولا خلاف بين اثنين من المسلمين على أن رسول الله صادق فيما أخبر، وأنه لم ينطق عن الهوى ـ على الأقل في هذه الأخبار ـ حتى نتجنب معارضة أولئك الذين يزعمون بأن محمدا بشر يتكلم في الغضب والرضى!! ثم إنه من المحال.
عقلا أن يخبر الرسول الأمة بهذه الأخبار الخطيرة على مسؤوليته، وباجتهاد منه، وبدون تفويض إلهي!! ومن الناحية الواقعية فقد تحقق ما أخبر به الرسول وحذر منه، فلا أحد من أولياء الخلفاء، ومن شيعة الخلافة التاريخية يمكنه أن يزعم بأن الإسلام كله قد بقي على حاله. أو ينكر بأن عرى الإسلام كلها لم تنقض. لقد بين الرسول ما هو كائن وما سيكون إشفاقا ورحمة بالأمة، وقياما بواجب البيان، ولقد حذر وأنذر إقامة للحجة على المكذبين والمكابرين، وإرشادا للصادقين ليبقوا دائما على الصراط المستقيم. وكان الرسول صادقا في بيانه ورحمته، وتحذيره وإنذاره، وأنه لم يخبر بتلك الأخبار المستقبلية اجتهادا منه كما كانوا يتصورون، أو تحليلا شخصيا، إنما كانت تلك الأخبار الموثوقة ثمرة وحي إلهي، صدقه ما وقع في المستقبل، لأن الله ورسوله لا يقولان إلا الحق والحقيقة..

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المدرسة السجادية
حرف الطاء المهملة
الملكية المعنوية .. حقوق الإبداع والابتكار
تاريخ وفاة السيدة زينب عليها السلام
دعاء الامام الصادق عليه السلام
عطايا الرحمن في شهر الخيرات
مبـادئ التأميـن الإسـلامي
التلبيس‏
عظمة الحج و منافعه
الاذكار والاحراز والطلاسم وخواص الايات

 
user comment