قال السرخسي: وذُكر عن مسروق(رحمه الله) قال: بعث معاوية(رض) بتماثيل من صفر تُباع بأرض الهند، فمرّ بها على مسروق رحمه الله، قال: والله
لو أني أعلم أنه يقتلني لغرّقتها، ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني، والله لا أدري أي الرجلين معاوية، رجل قد زُيّن له سوء عمله، أو رجل يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا.
وقيل: هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة، فأمر معاوية(رض) ببيعها بأرض الهند بها الاسلحة والكراع للغزاة، فيكون دليلا لأبي حنيفة في جواز بيع الصنم والصليب ممن يعبده، كما هو طريقة القياس، وقد استعظم ذلك مسروق رحمه الله، كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في كراهة ذلك.
ومسروق من علماء التابعين، وكان يزاحم الصحابة رضي الله عنهم في الفتوى، وقد رجع ابن عباس الى قوله في مسألة النذر بذبح الولد، ولكن مع هذا، قول معاوية (رض) مقدّم على قوله وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض، كما قال علي(رضي الله عنه): من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد، يعني بقول زيد(رض). وإنما قلنا هذا لأنه لا يُظن بمسروق رحمه الله أنه قال في معاوية(رض) ما قال عن اعتقاد، وقد كان هو من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين، وقد أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالملك بعده فقال له (عليه السلام) يوماً: (إذا ملكت أمر اُمتي فأحسن إليهم)، فكان هو مخطئاً في مزاحمة علي(رضي الله عنه)، تاركاً لما هو واجب عليه من الانقياد له، لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا(1).
لقد أوردت كلام السرخسي كله في هذه القضية للتذكير بأن بعض فقهاء العصر الاُموي قد قبلوا أن يبيعوا دينهم بدراهم معاوية، إلاّ أننا نجد في الفقهاء المتأخرين عن عصر بني اُمية -كأمثال السرخسي هذا- من يبيع دينه لمعاوية دون مقابل، بعد أن أضلته أساليب الدعاية الاُموية على مرّ القرون، فيستميت في الدفاع عن معاوية متأولا كلام التابعي مسروق بن الأجدع الواضح الذي لا لبس فيه ولانكارة - من باب حسن الظن بالصحابة كما درجوا على القول- ثم يفتعل لمعاوية مناقب عظيمة من كتابته الوحي وبشارة النبي المزعومة له بالملك وغيرها، وسوف اُؤجل البحث في مناقب معاوية ورأي الحفاظ والعلماء فيها إلى مباحث قادمة، إلاّ أنني اُريد فقط أن أذكر هذا الفقيه وأمثاله بقول النبي (صلى الله عليه وآله) في مسألة بيع الأصنام، مكتفياً بما أخرجه أعظم المحدثين، محمد بن اسماعيل البخاري، عن جابر بن عبدالله، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عام الفتح وهو بمكة: (إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام). فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: (لا، هو حرام)، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك: (قاتل الله اليهود، إن الله لمّا حرّم شحومها، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه)(1).
_________________________________
1- المبسوط: 24: 46 كتاب الاكراه.
2- صحيح البخاري 3: 110 باب بيع الميتة والأصنام.
source : اهل بیت