عربي
Wednesday 25th of December 2024
0
نفر 0

كيف تعامل الإسلام مع الجسد؟

قالَ لَهُ صاحِبهُ وَهوَ يُحاورهُ أكفرتَ بالَّذي خَلَقَكَ مِنْ تُراب ثُمَّ مِنْ نُطفَة ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً ) (الكهف / 37) .
هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذلولاً فامشُوا فِي مناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ ) (الملك / 15) .
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقناكُمْ وَلا تَطْغَوا فِيهِ فَيُحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ) (طه ( 81 . تلك مجموعة قرآنية رائعة تحمل بين طيّاتها معاني تشريعية ومفهومية كثيرة تتجلّى لنا بوضوح متى حاولنا ربط معانيها، وتوحيد مفاهيمها، واستنتاج أهدافها التشريعية والفكرية التي تقودنا إلى الحقائق التالية:
أ )  إنّ الإنسان بتكوينه الجسماني، وبطبيعته البدنية، جزء من عالم الطبيعة، وإنّ الأرض هي مصدر نشوئه وتكوينه.. وهو ابن الأرض، ونتاجها الحي المترقي في تكوينه وأجهزته الجسمية المختلفة: (أكفرتَ بالَّذي خلقكَ مِن تُراب ) (الكهف / 37) .
ب )  إنّ هذا الجسد الذي نشأ من الأرض لا يستغني بطبيعته عن إمداد الأرض لوجوده، من الطعام والشراب واللباس والسكن.. الخ.
(وَما جَعَلناهُمْ جَسداً لا يأكُلون الطَّعامَ ) (الأنبياء / 8) .
جـ )  إنّ التوافق في التكوين الطبيعي بين الإنسان والطبيعة تام ومتناسق، فكلّ ما يحتاجه الإنسان لاستمرار الحياة متوفر في عالم الطبيعة ومتنام فيها:
(وَباركَ فيها() وقدّرَ فيها أقواتَها في أربعةِ أيّام سواءً للسّائلينَ ) (فصّلت / 10) .
(جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ ذَلولاً ) (الملك / 15) .
ففي رحاب الأرض تكمن أقوات المخلقوقات عموماً، والإنسانية بصورة خاصة.. مهيّأة وممهد لكلّ إنسان: (سَواءً للسّائِلينَ ) (فصّلت / 10) .
وبقدر ما يوفر له حاجته الطبيعية في الحياة: (وَقَدَّرَ فِيها أقواتها ) (فصّلت / 10) .
فهنا في نظام الخلق والتكوين تتساوى معادلة الوجود بين الحاجة الإنسانية وبين المتوفر منها في الطبيعة ولا يطرأ أي اختلال في التوازن أو الضبط: (إنّا كلَّ شيء خلقناهُ بِقَدَر ) (القمر / 49) .
د )  كلّ ما في الأرض، من خيرات وطيّبات، حلال طيّب ومباح لكافة بني الإنسان، دون تفريق أو تمييز، فحكمة الله، وعدله تقضيان بأن تتوفر لكلّ إنسان حاجته وحقّه المقرر له في الحياة: (يا أَيُّها النّاس كُلُوا مِمّا فِي الأَرضِ حَلالاً طَيِّباً ) (البقرة / 168) .
هـ )  إنّ الإنسان الفرد خلق وحدة حياتية متكاملة الأجهزة والامكانيات.. وهو عالم حياتي قائم بذاته، يمارس علاقاته الطبيعية على أساس هذه الحقيقة التكوينية بينه وبين الطبيعة في كلّ شيء، لذا كان عليه أن يمارس نشاطه الذاتي ويواصل مساعيه: (فامشوا في مناكِبِها ) (الملك / 15) .
ويتحرّك في أرجاء هذه الأرض متفاعلاً مع الطبيعة وطاقاتها وخيراتها ليشيد جسر العبور بين جسمه وبين خيرات الأرض وأرزاقها، فتأخذ هذه العناصر الطبيعية مكانها في كيانه لتؤدي دورها بصورة طاقة بشرية، بعد أن تدخل في عمليات تكييف حياتيّ، لتعود ثانية على شكل عطاء إنساني، وجهد بشري يختلف في درجة وجوده الطبيعية عن الصيغة الحرّة في الطبيعة، فيظهر هذا العطاء الإنساني على شكل تفكير، أو عبادة، أو فن، أو أعمال مختلفة أخرى: كالإعمار، وإصلاح الحياة، أو تكاثر النوع.. الخ.
وهكذا يتفاعل الإنسان بطبيعته الجسديّة مع الطبيعة ليحيل طاقاتها المادّية الساكنة إلى قوة إنسانية تفيض بالخير والحياة، وتملأ ربوع الأرض بالقيم وأسباب المدنيّة والحضارة.
و )  وكما أنّ للإنسان حاجات بنائية لإدامة الحياة، فإن له حاجات أخرى تساهم في حفظ الحياة وإدامتها كالعلاقة الزوجيّة واللباس والراحة والنوم.. الخ، يعتبر توفيرها من ضرورات تكامل نظام الحياة، لذا جعل الله سبحانه إشباعها جزءاً من نظام التكوين البشري.
وجاء الإسلام كشريعة يحرص على حفظ الحياة، ويتجاوب مع حاجات التكوين، فاستوعب بشريعته كل تلك الحاجات الإنسانية الطبيعية وقام بتنظيمها:
(وَمِن آياتهِ أن خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إلَيها )(الرّوم / 21) .
(يا بَني آدَم قَد أنزَلنا عَلَيكُم لِباساً يواري سَوآتِكُم ) (الأعراف / 26) .
(وَمِنْ آياتِهِ منامُكُمْ باللَّيلِ وَالنَّهارِ ) (الرّوم / 23) .
وهكذا استوعب الإسلام كلّ مستلزمات الإنسان الجسديّة، وشرّع من القوانين، والأحكام، وقرّر من القيم ما فيه الكفاية لاستيعابها، وجعل تشريعاته، ومفاهيمه هذه تدور على ثلاثة محاور يكمل الواحد منها دور الآخر، وتتركّز في:
1 ـ  مد الجسم بحاجاته المادّية المختلفة; من الطّعام والشراب والسكن واللباس.
2 ـ  الحفاظ على الجسم البشري وحمايته من كلّ ما يعرض وجوده للخطر.
3 ـ  توظيف قدرات الجسم في مجالها الطبيعي المحدّد لها.
وتناولها فيما يلي بالبحث.
أولاً ـ مد الجسم بحاجاته المختلفة:
أ )  الطعام والشراب:
(فَلْينظر الإنسان إلى طَعَامِهِ ) (عبس / 24) .
من عظيم آيات الله، وبديع صنعه، وعنايته بالإنسان أن جعل غذاءه الطبيعي المتوفر في الأرض متكوّناً من عنصرين اثنين:
عنصر المادة الطبيعية التي تسد الحاجة، كالأملاح والفيتامينات والكاربوهيدرات.. الخ، بشكل مساو لحاجة الحيوان والنبات أحياناً باعتبارها أجساماً حيّة.
وعنصر آخر أضافته العناية الإلهيّة إلى الغذاء الإنساني، بشكل يتلاءم مع الجانب النفسي والعقلي عند الإنسان وهو الجانب الجمالي وجانب اللذة والاستمتاع، فجعل اللذّة والشكل الجمالي الجذّاب هو المشجع، والعامل المساعد للإنسان على الارتباط النفسي بالطعام والشراب والسعي نحوه. إضافة إلى إحساسه بألم الجوع والعطش، فالفواكه والخضروات، واللحوم والعسل، والسكّر والجوز، والماء.. الخ، كلّها تتشكل ضمن إطار جمالي جذّاب، وتحمل ذوقاً لذيذاً مغرياً يملأ تلك العناصر الطبيعية، ويقدّمها للإنسان ضمن هذا الجو الجمالي المُسر، والاحساس المشبَّع باللذّة والاستمتاع. وفي كتب الحديث من الأخبار والروايات، ما خصّص له العلماء أبواباً خاصّة في مجال الأطعمة والأغذية ومنافعها، وكيفية استعمالها، والحثّ على الاستفادة منها حفظاً للصحة وعناية بالجسم.
وقد قاوم الإسلام محاربة الجسد، والحرمان من الطعام والشراب واللذائذ المحلّلة، تلك المحاربة التي دعا لها المترهّبون والمتصوّفة وأمثالهم ممّن يعتقدون أنّ محاربة الجسد، وتعذيبه بالجوع، والعطش، والحرمان يؤدي إلى تقوية الروح، وتنمية الملكات النفسيّة والأخلاقيّة.
فقد استنكر القرآن على هؤلاء المنحرفين موقفهم هذا من المتع الجسديّة، والطيّبات التي أنعم الله بها على عباده، فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينةَ اللهِ الَّتي أخرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزق )(الأعراف / 32) .
ب )  الـزوج:
راعى الإسلام كلّ جانب من جوانب الحياة بطريقة موضوعية واقعية، فأعطى الجسد حقّه والحياة حقّها.
ومن تلك الموضوعات الجسدية والحياتية التي أولاها الإسلام اهتماماً خاصاً هو موضوع الزواج والعلاقة الجنسيّة لحفظ النوع البشري، ولتوفير الاستقرار والسعادة النفسيّة، والاستمتاع الجسدي عند الإنسان.
قال تعالى:
(وَمِن آياتِهِ أن خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُم أزواجاً لِتَسكُنُوا إلَيها وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً ) (الرّوم / 21) .
(فَما استَمتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فآتُوهُنَّ اُجورهُنَّ ) (النساء / 24) .
فبالعلاقة الزوجية تكتمل فكرة الحياة، ويتوحّد شقّا النظام الجسدي الإنساني، ويتم إملاء الفراغ النفسي، والشعور بالوحدة.. فيكتمل بهذا اللقاء الزوجي والوحدة الجنسية نفسيّاً وجسديّاً.
وقد حبّب الإسلام الزواج، وحثّ عليه، واعتنى بالمتعة الجنسيّة، لتوفير الراحة النفسيّة، والشعور بالاستقرار والسعادة، وحماية الجسد من الحرمان والتوتر الذي كثيراً ما يتطوّر إلى حالات مرضيّة تنعكس على النفس والجسد. وفي ذلك قال الله تعالى: (وَمِنْ آياتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسكُمْ أزواجاً لتسكُنُوا إلَيها وَجَعَلَ بَينَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (الرّوم / 21) .
ففكرة العلاقة الزوجية في الإسلام ـ باعتبارها النفسي ـ مرتبطة بجانب إملاء الفراغ النفسي وتوفير حالة من الاستقرار والودّ والتعاطف لإشباع هذا الجانب والتجاوب معه.
ولا يخفى ما لهذا الاحساس الإنساني ـ احساس الودّ والحبّ والاستقرار من أثر على سير الحياة البشرية، وانتظام العلاقات والسلوك الإنساني في ميدان الحياة الاجتماعية والحفاظ على سلامة الصحة الجسديّة والنفسيّة، وأهمية تتناسب مع دوافعها وأهدافها، فقد ورد عن رسول الله (ص) أنّه قال: «ما أحبّ من دنياكم إلاّ النساء والطّيب»().
جـ   الملبس والأناقة:
يؤدِّي اللباس بالنسبة للإنسان دورين مهمّين في الحياة، فهو من جهة يكمل نظام الجسم الطبيعي، لأنّ للجسم درجة وجود خاصة به ـ بالنسبة لما حوله من ظروف طبيعية: من حرارة وبرودة، ورطوبة وتبخّر.. الخ.
فاللباس هو الاحتياط الواقي الذي يحافظ على استقامة الجسم، وحماية التعادل بينه وبين ظروف الطبيعة المحيطة به، لذلك فالإنسان يلجأ إلى اللباس، فيغطّي جسده ليحفظه من تلك المؤثرات الطبيعية، والعوامل المؤثرة عليه.
وبالإضافة إلى هذه المهمة الصحّية والجسميّة للّباس، فإن له مهمة أخرى وهي مهمة الزينة والجمال، وستر عورة البدن، وقبح العري الذي يظهر به الإنسان. وقد اهتمّ الإسلام باللباس، واعتنى بحسن المظهر، وبالحفاظ على الأناقة والجمال عناية فائقة. ولم يهمل القرآن الحكيم هذا الجانب من مستلزمات الحياة، وضرورات الجسد وأشواق النفس إلى الزينة والجمال، بل أكد على إقرارها، والاعتراف للإنسان بحق ممارستها، وعدّ تلك المتع نعمة من نعم الله تعالى، فقال:
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكُم لِباساً يواري سَوآتكم ) (الأعراف / 26) .
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينة اللهِ الَّتي أخرجَ لِعِبادِهِ ) (الأعراف / 32) .
وهكذا أوضح القرآن رأي الدين في الزينة والجمال، وربط بين المتع الجمالية وبين مفاهيم العقيدة والإيمان، ليؤكد أنّ ما يتمتع به الإنسان من مظاهر الزينة والجمال إن هو إلاّ نعمة من نعم الله سبحانه، توحي للنفس بالرضى والسرور، وتبعث فيها الحبّ والمتعة والإشراق، عن طريق الشعور العميق الصافي، والتقويم المتعالي للمعالي والقيم الجمالية داخل إطار الذات البشرية، وعلى أساس من وعيها لهذه القيم والموضوعات. ولا غرابة في موقف القرآن هذا، فإحساس الإنسان بالجمال، واندفاعه نحوه شعور فطري ينبع من احساس النفس، وتوججها الفطري نحو الكمال، ومن بحثها عن الاحساس بالرضى والسرور.
ووعي المسلم لموضوعات الجمال وقيمها لا يقف متحجراً عند حدّ الاحساس المادّي والغرض الانفعالي العابر، بل يتعدّى كلّ ذلك ليوقظ في النفس جذوة الإشراق الروحي، والاحساس الوجداني الذي يسحب النفس من ركودها المادي، واحساسها البهيمي المتواضع إلى عالمها العلوي، وتوجهها الأخلاقي، فيكون هذا الاحساس وسيلة من وسائل النمو الروحي، والتكامل النفسي والأخلاقي، وجعل الاستمتاع بطيبات الحياة سبيلاً إلى ربط الإنسان بخالقه. فالإنسان قادر على أن يعي كلّ تلك الحقائق حينما يعيش إحساساً يقظاً بالقيم والموضوعات الجمالية; من لباس وأناقة، وحسن مظهر، وحينما ينعكس هذا الاحساس على ذاته الباطنة، فتتفاعل معه، وتندمج لتكون صورة حيّة للحس والذوق الجميل، فيرتد هذا الحس سلوكاً، ومواقف إنسانية تترفّع عن الممارسات والمواقف الشريرة الشوهاء التي تمسخ روح الجمال، وتكرس صورة القبح والنفور.
ويكفي في احترام الإسلام لفكرة الجمال أن جعله جزاءً، ومشوّقاً للإنسان في عالم الفردوس والنعيم.
فالقرآن ما تحدّث بشيء من نعيم الآخرة إلاّ وأفاض عليه إشراقة الجمال، ولا تعرّض لجزاء المحسنين إلاّ وحبّبه بجاذبية الحسن والمتعة الجمالية، ممّا يؤكد أنّ الجمال في نظر القرآن أرقى موضوعات الوجود في عالم الإنسان إلى درجة تؤهل الجمال أن يكون جزاء المحسنين من النبيّين والشهداء والصدّيقين في عالم الفردوس.
د )  الراحة والنوم:
وهذا الجسد: هو تلك الآلة الحركية التي تبذل جهداً، وطاقة لمقاومة العالم المحيط بها حين الحركة، وانجاز الأعمال، فهي تصرف كثيراً من طاقاتها، وقوّتها الذاتية، فتشعر بالتعب بسبب اختلال معادلة التوازن بين قوى الجسم الذاتية، وبين القوى الطبيعية التي يتعامل معها، وشعور الجسم هذا بالتعب يأتي من جرّاء البذل المتواصل للطاقة والجهد، ومن الاستهلاك الجسدي لهذه الطاقة مما يُضعف المقاومة، ويضطر الجسم إلى السكون والتوقف في مكان آمن مريح ليعيد بناء نفسه من جديد، ويدفع عن ذاته مردودات الحركة، وآثارها المرهقة، فيأوي إلى النوم.
والنوم ليس اختراعاً بشرياً، ولا مصادفة جسدية فرضت نفسها على الإنسان، بل هو جزء من نظام الوجود المتقن الذي دبّره الصانع الحكيم: (صُنْعَ اللهِ الَّذي أتقنَ كلَّ شيء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفعَلونَ ) (النمل / 88) .
ولو لم يكن النوم جزءاً من نظام الجسم لكان هناك نقص، وقصور في نظام التكوين، والتنظيم الجسدي عند الإنسان.
لذا فإنّ الله بعلمه وحكمته جعل النوم راحة للإنسان، وسكناً له: (وَمِنْ آياتِهِ منامكُمْ باللَّيل والنَّهار ) (الرّوم / 23) .
فالنوم آية من آيات الله يتهيّأ لها الجسم بعد كلّ فترة زمنية ليمارس الإنسان عملية غياب مؤقت عن الاحساس بمردودات العالم الخارجي التي ترهق الجسم وتتعبه، لاعطائه فرصة الاستراحة والبناء، واستعادة القوة التي افتقدها.
وقد حثّ القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة على الراحة والنوم والاستكانة في الليل، والقيلولة أثناء النهار لتتمّ للإنسان الراحة والسعادة في الحياة ولينقذ الإنسان نفسه من الجشع والشراهة في جمع المال، والسعي، والجهد المرهق الذي يذهب بصحته وراحته، ويعرّضه لكثير من الأمراض العصبية والنفسية والجسديّة.. فتضيع سعادته ومتعته في الحياة.
لذلك حدّد القرآن الكريم للإنسان نظام الراحة، والنوم، ليأخذ حاجته ونصيبه الضروري منها، فقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِباساً والنَّومَ سُباتاً ) (الفرقان / 47) .
وهذا النوم الحاجة الضرورية للجسم، حذّر الإسلام الإنسان من الاسراف فيها أو اللجوء إليها إلاّ بقدر ما يحتاج الإنسان منها، لئلاّ يتجاوز الإنسان حدّ الحاجة والاستراحة فيستولي عليه الكسل والخمول، لأنّ الإنسان في نظر الإسلام كتلة من النشاط، والانتاج، وشحنة من عطاء الخير والإبداع; لا يجوز تعطيلها، ولا العبث بها، لذا كَرِهَ الإسلام الخمول، والفراغ، وضياع الوقت والطاقة الإنسانية بالنوم والكسل. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): «كثرة النوم مذهبة للدّين والدّنيا»().
وورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) قوله: «إنّ الله عزّ وجلّ يبغض العبد النوّام الفارغ»().
هـ )  الرياضة البدنية:
الرياضة هي تعويد الجسم وتدريبه، وتمرينه على الحركات الجسدية التي تمنحه القوة والرشاقة، والخفّة، وسرعة الحركة، ليتمكن من تحمّل المتاعب والمشاق، ويتسطيع مقاومة الأمراض، وعوامل الضعف، ويقدر على انجازات أكبر، فيؤدي عطاءً أوفر في الحياة.
والرياضة تربّي الشعور بالقوة والفتوة والبأس، وتنمّي عند الإنسان روح الصبر والشجاعة والثقة بالنفس.
والإسلام يؤمن بالقوة والفتوة والنشاط، ويحارب الميوعة، والتحلّل، والكسل والترهّل والخمول فقد جاء في الحديث الشريف:
«إيّاك والكسل والضجر فإنّك إنْ كسلتَ لم تعمل، وإنْ ضجرت لم تعطِ الحقَّ»().
«تجنّبوا المُنى فإنّها تُذهب بهجة ما خولتم، وتستصغرون بها مواهب الله تعالى عندكم، وتعقبكم الحسرات فيما وهّمتم به أنفسكم»().
«إنّ الأشياء لما ازدوجت، ازدوج الكسل والعجز فتنجا بينها الفقر»().
فإلى تلك الأهداف والروح دعا القرآن اُمته، وحثّها أن تربّي أجيالها، وتزرع فيهم روح القوة، فقال تعالى: (وأعدّوا لهم ما استطعتُم مِن قوّة ) (الأنفال / 60) .
وللغاية نفسها جاءت دعوة الرّسول (ص) للمسلمين لتربية أبناءهم تربية بدنية نشطة، فقال: «علِّموا أولادكم السباحة والرماية وركوبَ الخيل».
فبهذه الدعوة إلى الفتوة والرياضة فتح الرسول الباب على مصراعيه لكلّ ألوان الاعداد البدني، والتربية الرياضية التي تساهم في بناء الجسم، والحفاظ على قدراته الجسديّة.
وقد جاءت الأحاديث والروايات، وكلّها تؤكد ذلك وتحث عليه، بل وتتحدّث عن مشاركة رسول الله في السباق، ومشاهدته وتشجيعه له. فقد ورد عن الإمام عليّ بن الحسين (ع) أنّه قال: «إنّ رسول الله (ص) أجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من فضّة»().
وروي عن الرسول (ص) أيضاً أنّه قال: «علّموا أولادكم السباحة والرّماية»().
ثانياً ـ حماية الجسم والحفاظ عليه:
وكما اهتمّ الإسلام ببناء الجسم، ومدّه بحاجاته المادّية الضرورية لبقائه، واستمرار وجوده، والتزام ذلك بالنسبة للإنسان عن طريق تبنّي هذه الحاجات، واستيعابها استيعاباً تنظيمياً بواسطة قوانينه، وتشريعاته، وقيمه الأخلاقية الواسعة، اهتمّ ذلك بالحفاظ على الجسم، وحمايته من كلّ ما يؤدي به إلى الضعف والانحطاط وتبديد طاقته، فعمل على حمايته من الأمراض والنجاسات والأوساخ وحث على الوقاية والعلاج، وسعى لإبعاده عن الارهاق، والتعب والاسراف في استعمال المباحثات، أو الاغراق في الشهوات التي تمتصّ كلّ طاقاته، وقواه البدنية، وتعرّضه للأعياء والمرض، وأكّد على منعه من استعمال كلّ ما يجلب له الضرر، والفتك بقواه وطاقاته: كالخمر، والزنا، وأكل الأطعمة الضارّة.. الخ، ليحفظ للإنسان قدراته وقواه عن طريق تنظيم حياته المادّية: من مأكل، ومشرب، وممارسة غريزية.. الخ، وبهذا المنهاج التشريعي جنّب الإسلام الجسم الإنساني مخاطر التمزّق والانهيار الصحّي، واتخذ لتنفيذ هذا المنهاج عدّة تشريعات، وأحكام منها:
1 ـ الدعوة إلى الاعتدال:
دعا الإسلام إلى الاعتدال، ومنع الإنسان من الإسراف، والشراهة في كلّ شيء: في تناول الطعام، والشراب، وفي ممارسة الجنس والشهوات، وفي استعمال المحللات، لأن إباحة الإسلام للطعام، والشراب وسائر اللذائذ والمتع ما كانت إلاّ لحفظ صحة الجسم، وحماية النوع الإنساني، وتوفير المتعة والسعادة له.
وينطلق الإسلام من دعوته إلى الاعتدال هذه من مبادئ أساسية في الحياة، وهي إنّ الإنسان لا يحتاج إلاّ إلى ما يكفيه ويقوم حياته ويحفظها، فللجسد حاجة طبيعية محدّدة من الطعام والشراب والجنس والشهوة، وقدم للإنسان تفسيراً واقعياً لفلسفته الأخلاقية في تقويم اللذّة الحسّية.. وأكد على أنها ليست غاية في الحياة، إنّما هي وسيلة لدفع الإنسان إلى السعي المشروع نحو هذه الحاجات. وبهذا التفسير حال دون تحوّل الإنسان إلى بهيمة هدفها الطعام، والشراب، والجنس، والاستغراق في الشهوات والملذّات.
ولكي يضمن الإسلام تنفيذ مبادئه السلوكية هذه، أقام نظم الحياة، وعلاقة الإنسان بحاجاته الطبيعية، وحظّه منها على اُسس معادلات، وموازنات دقيقة، لا اختلال فيها ولا تفريط، فجعل لكلّ شيء حسابه، وموضعه وحقّه، ودعا إلى الاعتدال في كلّ شيء، حتى صحّ أن نقول: إنّ منهج الإسلام في الحياة هو «منهج الاعتدال والاستقامة».
وقد تواردت الآيات، والأحاديث الكثيرة لاقرار هذا المبدأ الحياتي الخطير، مبدأ الاعتدال لحماية الإنسان من الاسراف والشراهة: الاسراف الذي ينسحب أثره على كلّ السلوك الإنساني; المادّي والمعنوي، ينسحب على الأخلاق، فيؤدي إلى تدهور سلوك الاُمم، وعلى الاقتصاد فيجرّ إلى اختلال معادلة التوازن المعيشية في المجتمع، وعلى الصحة فيؤدي إلى إنهاك الاُمة وانهيار قواها البدنية. فمن أجل حماية المجتمع من هذا الوباء النفسي الخطير وضع الإسلام قاعدته العريضة لإقرار القانون الأخلاقي المتزن ـ قانون الاعتدال وتحاشي الشراهة والاسراف ـ لذلك كانت مكافحة الإسلام للإسراف مكافحة نفسيّة وأخلاقيّة في بداية منطلقها، لتظهر فيما بعد آثارها في السلوك الإنساني.
فالإسلام يريد أن يربّي في الإنسان المسلم ملكة الاعتدال النفسي، والاستقامة الأخلاقية، ويوفّر لها هذه الملكة الذاتية التي يتعامل بواسطتها فيما بعد مع الموضوعات الحياتية المختلفة.
لذلك جاء في الحديث الشريف المروي عن رسول الله (ص): إنّ رسول الله (ص) رأى جابر بن عبدالله الأنصاري يتوضّأ ويسرف في استعمال الماء، فقال له: «يا جابر، لا تسرف في الماء. فقال جابر: أوَ في الماء إسراف يا رسول الله؟ قال: نعم وإن كنت على شاطئ نهر».
والمتأمل في هذا الحديث النبوي الشريف يدرك أنّ هدف الرسول الأوّل في هذا النهي هو التربية النفسية والأخلاقية على الاعتدال في الصرف والانفاق، إذ ليس هدف الإسلام هو حماية الأشياء من الضياع والعبث فقط.
لذلك جاء قول الرسول (ص): «نعم وإن كنت على شاطئ نهر».
فالإسراف في الماء على شاطئ النهر لا يؤدي إلى الضرر المادّي لكثرته ولعودته ثانية إلى النهر، وإنّما يربّي في الإنسان المسرف روح الإسراف والعبث.
وقد صاغت الآية الكريمة هذا المبدأ ـ مبدأ مكافحة الإسراف ـ في نصّها الحكيم: (يا بني آدمَ خُذُوا زينتكُم عندَ كُلِّ مسجد وكُلُوا واشرَبُوا ولا تُسرِفوا إنَّه لا يُحِبُّ المسرفين ) (الأعراف / 31) .
وعلى هذا الخط سارت الأحاديث النبويّة، وجاءت مؤكدة فيما ورد عن رسول الله (ص) قوله:
«كُلوا في بعض بطونكم تصحّوا»().
«ولا تُميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء»().
«ثلاث أخافهنّ على اُمتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلاّت الفتن، وشهوة البطن والفرج»().
«ليس لابن آدم بُدُّ من أكلة يقيم بها صلبه، فإذا أكل أحدكم طعاماً فليجعل ثلث بطنه للطعام، وثلث بطنه للشراب، وثلثه للنفس، ولا تسمّنوا تسمن الخنازير للذبح»().
2 ـ تحريم المفاسد الضارّة:
والخطوة الثانية التي خطاها الإسلام لحفظ الصحة هي تحريم كلّ ما هو ضار للبدن، وقابل لجلب الأمراض والإضرار به، كالخمر، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، ولحم الكلب، والجرذ، ولحوم الحيوانات المفترسة، وممارسة الزنا، واللواط، والعادة السرّية، والمساحقة.. الخ.
ولا يجهل أحد ـ بعد تقدّم علوم الطبّ والصحّة ـ خطر هذه الأطعمة والأشربة والممارسات الشاذّة على صحّة الإنسان وقواه البدنية.
3 ـ الطهارة والنظافة:
والخطوة الثالثة في منهج الإسلام الصحي هي النظافة، لأنّ الأوساخ، والقاذورات هي مكمن الجراثيم والميكروبات، ومصدر لكثير من الأمراض والعلل الجسدية، لذا شرّع الإسلام الطهارة والنظافة، وأوجب على الإنسان الابتعاد عن النجاسات التي تعتبر مصدر خطر على الصحة: كالبول، والغائط، والدم، والمني، وميتة الإنسان والحيوان.. الخ.
فشرع الإسلام التطهير بالماء من آثار النجاسات، والوقاية من أضرارها، كما شرّع الوضوء، والأغسال الواجبة: كغسل الحائض، والنفساء، والجنب، وتغسيل الميت، وأغسالاً مستحبة: كغسل الجمعة،وغيره من الأغسال الواردة في السنّة المطهّرة، كما دعا الإسلام المسلمين إلى النظافة والطهارة في البيت، والشارع، والملبس، والمأكل، وفي كلّ موضع من مواضع حياتهم، حتى سمّى بعض الباحثين والمستشرقين الحضارة الإسلامية بأنها: «حضارة الطهارة والنظافة».
وقد شرّع القرآن الكريم القاعدة الأساسية في قانون الطهارة بقوله:
(يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاة فاغسِلُوا وجوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إِلى المرافق وامسحُوا برؤوسِكُمْ وَأرجلَكُمْ إِلى الكَعبَيْنِ وَإِنْ كُنتُم جُنُباً فاطَّهَّروا وَإِنْ كُنتُم مَرْضَى أَو عَلَى سَفَر أو جاءَ أحدٌ مِنكُم مِنَ الغائطِ أو لامستُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فتيمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، فامسَحُوا بوجوهِكُمْ وأيديكُمْ مِنْهُ، ما يُريدُ الله ليجعلَ عليكُمْ مِنْ حَرَج ولكِنْ يُريدُ ليطهّركُمْ وليُتِمَّ نعمتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُمْ تشكرونَ ) (المائدة / 6) .
(إنّ اللهَ يُحِبُّ التوّابِينَ وَيُحِبُّ المتطهِّرِينَ ) ( / ).
وعلى هذا الأساس بنى الرسول (ص) منهاج الطهارة، واهتمّ بتربية الفرد والمجتمع المسلم.
فسنّ المضمضة، والاستنشاق، وتنظيف الأسنان بالسواك، وغسل الشعر، وتنظيف الملابس، وتقليم الأظافر، والعناية بنظافة الطعام والشراب.. الخ.
فقد روى الإمام الصادق (ع) أنّ رسول الله (ص) أبصر رجلاً شعثاً شعر رأسه، وسخة ثيابه، سيِّئة حاله، فقال: «من الدّين المتعة وإظهار النعمة».
وروي عنه (ص) أنّه قال: «بئس العبدُ القاذورة»().
كما روي عنه كذلك: «الطهور نصف الإيمان»().
و «تنظّفوا فإنّ الإسلام نظيف».
«النظافة من الإيمان»().
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة، وفي كتب الحديث روايات عديدة، مبوّبة على عدّة أبواب: النظافة، والعناية الصحّية، لا يتسع مثل هذا البحث لإيرادها، وكلّها تستهدف إشاعة الطهارة والنظافة، وإشعار الإنسان بالخلو من الدنس والقذارات البدنية والروحية، حفاظاً على نقاء الفطرة البشرية، وحماية للجسم ممّا قد يطرأ عليه من أسباب القذارة والنجاسة لحماية الصحة البدنية، وتربية الاحساس بالطهارة الروحية، والسعي نحوها، لأنّ الإنسان يتعوّد بالطهارة المادّية على التخلّص من كلّ غريب ضار بنظام الحياة، سواء في مجال الجسد أو السلوك والمعتقد.
4 ـ الوقاية والعلاج من الأمراض:
وتشكل الوقاية والعلاج من الأمراض الخطوة الأخيرة في منهاج الصحة والتربية البدنية في الإسلام.
فقد جعل الإسلام الوقاية من الأمراض مبدءاً أساسياً لحفظ الصحة البشرية، لذلك ثبت التشريع الإسلامي كلّ المبادئ الضرورية: كالنظافة، والاعتدال في تناول الأطعمة والأشربة، وعدم الاسراف فيها. وجعل التكاليف، والواجبات الإنسانية كلّها منسقة مع قدرة الإنسان وطاقته، بحيث ينسجب هذا المبدأ على كلّ شيء، حتى على العبادات والفرائض: كالصوم، والحج، والصلاة، والجهاد.. الخ.
وانطلاقاً من هذا المبدأ أعفى الإسلام العاجز، ومن يحتمل الضرر; من الصوم، والحج، والجهاد، وسائر التكاليف الشاقة عليهم، وقاية لهم من الأمراض، ودفعاً للضرر المتوقع حدوثه تمشياً مع قواعد العدل والحكمة التي رسمت حدودها الآية الكريمة: (لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وُسعَها ) (البقرة / 286) .
وثمة خطوة أخرى خطاها الإسلام في مجال الوقاية من الأمراض، وهي خطوة تشريعية للعزل والحجر، والابتعاد عن موطن المرض، فقد ورد في الحديث الشريف:
«فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»().
«إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا نزل وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها»().
وتقوم فلسفة الوقاية والعلاج الطبّي في الإسلام على أساس التسليم بوجود علاقة طبيعية وسببية بين جميع الأشياء ذات الترابط التسلسلي. فلكل حدث في الوجود علاقة بجملة من الأسباب، وربّما بسلسلة من الأسباب الطبيعية، وأنّ هذه الأشياء ـ الأسباب والنتائج ـ الواقعية في سلسلة وجودية واحدة يؤثر ويتأثر بعضها ببعض. وتنطبق هذه المفاهيم الكلّية العامة على الطبيعة الجسدية للإنسان، وعلى علاقتها الخارجية بكثير من الأشياء، فسوء التغذية، والارهاق يسببان ضعف الجسم وهزاله.
والجراثيم والكحول تسبب أمراضاً للجسم، وخللاً في سلامة نظامه.
والأدوية والعقايير وبعض الأغذية تؤدي إلى مساعدة الجسم على الحفاظ على نظامه الطبيعي، أو تؤدي إلى مطاردة الجراثيم المرضية وقتلها.. الخ.
لذلك ورد في الحديث الشريف: «لكلّ داء دواء، فإذا أصاب دواء، الداء بَرِئ بإذن الله عزّ وجلّ»().
ووجود هذه العلاقة الطبيعية بين الأشياء من تمام حكمة الله سبحانه، ودقة إبداعه وصنعه لهذا العالم الذي يسير وجوده على أنظمة مترابطة من القوانين.
ولولا وجود الدواء، وإمكانية إصلاح الجسم بعد اختلال نظامه لتعرّضت الحياة البشرية لاضطراب وانهيار سريع، ولكان ذلك خللاً في نظام الخلق والتكوين، وتنزّه الله عن ذلك، فهو الحكيم الخبير الذي أتقن كلّ شيء بحكمة وتقدير: (وَتَرَى الجبالَ تَحسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تمرُّ مَرَّ السَّحاب صُنْعَ اللهِ الَّذي أتقَنَ كُلَّ شَيء إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفعَلون ) (النمل / 88) .
ثالثاً ـ توظيف قدرات الجسم في مجالها المناسب:
وهكذا يتخذ المنهاج الإسلامي صيغة تكاملية منظمة تستوعب نظام الجسم، وحاجاته المادّية المختلفة، مبتدئاً بتوفير حاجات الجسم المادية والغريزية في المرحلة الاُولى، ومخططاً لحمايته، والحفاظ عليه في المرحلة الثانية لينتهي إلى أخطر مراحل التنظيم في المرحلة الثالثة، وهي مرحلة توظيف الطاقة البشرية، وبيان كيفية استعمالها، واستثمارها.
فالطاقة الإنسانية هي طاقة في هذا الوجود، وهي أرقى من أية قوة مخلوقة، بنوعها، وقيمتها، وطبيعتها، إذا ما استغلت استغلالاً سليماً وفق منهج الله وحكمته.
ولكي تتوفر للإنسان المعرفة الاستعمالية الكاملة، ولكي يتمكّن الإنسان من استثمار هذه الطاقة البشرية الضخمة وتوظيفها في مشاريع الخير والبناء والإعمار.
لكي يستطيع الإنسان ذلك، حدّد الإسلام منهاج السلوك والحياة، لئلاّ ينحرف باستعمال هذه الطاقة البشرية، فيسلك بها مسار الشر والعدوان، ويستهلكها في ممارسة العبث والهدم والضياع بدلاً من استعمالها في مجالات الخير والصلاح والإنماء.
ولكي يحقق الإسلام ذلك نبّه الإنسان إلى قضية بالغة الخطورة والأهمية، وهي أنّ شعور الإنسان المتزايد بالقوة وإحساسه بالتفوّق، وامتلاك القدرة يجب أن لا يسوقه إلى الغرور والفوضى والفساد، فيقوده هذا الطيش والغرور لاستعمال طاقاته في مواضع التخريب والعدوان، واستهلاكها في مجالات العبث والانحراف، بل يجب عليه أن يوظّفها في عمليات تؤهّلها لاحتلال موقعها اللاّئق بها بين قواعد الوجود والحياة لتكون قوة خلاّقة، وحركة رائدة في مجال الخير والبناء.
فالإسلام يعتبر استعمال هذه القدرات الإنسانية استعمالاً منحرفاً: عدواناً على نظام الوجود، وخروجاً على إرادة الحق والخير، وهدراً لقيمة الإنسان وأهدافه النبيلة، وتضييعاً لها في هذه الحياة.
لذا تعالى صوت القرآن الكريم محذّراً من السقوط في هذا الهوّة السلوكية المدمرة فقال تعالى: (وابتغ فيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخرَةَ، ولا تنسَ نَصيبكَ مِنَ الدُّنيا، وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللهُ إلَيكَ، ولا تبغِ الفَسادَ في الأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المفسِدينَ ) (القصص / 77) .
وقال تعالى:
(كلاّ إِنَّ الإنسانَ لَيَطغى * أَنْ رَآهُ استغنَى ) (العلق / 6 ـ 7) .
وبالنظرة المتأملة الفاحصة لهذه النصوص القرآنية الكريمة نستطيع أن نستنتج أنّ:
البغي، الفساد، الكبرياء، الطغيان، الظلم، والغرور كلّها حالات نفسيّة شاذّة، وشعور إنساني منحرف، وتقويم سيئ لقدرة الإنسان وطاقته دفعت بالإنسان إلى استعمال طاقاته وقدراته الجسدية والعقلية والنفسية استعمالاً طائشاً وهدّاماً. لذا حذّر القرآن الإنسان من هذا الشعور، والاستعمال الشاذ الذي قاد البشرية على مرّ عصور التاريخ إلى هاوية السقوط، وساقها إلى منحدر المآسي والآلام.
ولكي يعرف الإنسان قيمته الحقيقية، ويضعها في موضعها اللاّئق بها، راح القرآن يلفت نظره إلى عظمة خالقه، وقدرة موجده، وتفاهة شأن الإنسان بالنسبة للخالق العظيم، ويرد على مسامعه: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذي خلقهُمْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً )(فصّلت / 15) .
ويأتي الحديث الشريف صياغة ثانية لهذا المفهوم القرآني النبيل فيقول: «إذا دعتك قدرتك إلى ظلم أحد من النّاس فتذكّر قدرة الله عليك».
.. كلّ ذلك ليستعمل الإنسان قوته وطاقته لصالح نفسه، ولخير البشرية جمعاء وفق منهج القرآن، وموازينه السلوكية الرائعة: (وأحسِنْ كَما أحْسَنَ اللهُ إلَيكَ وَلا تبغ الفَسادَ فِي الأَرض إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المفسدينَ ) (القصص / 77) .
هذا وقد عرض القرآن الكريم نموذجاً رائعاً لشخصية الإنسان المؤمن الذي يُحسن استعمال طاقته، ويعرف كيف يتصرّف بها، فقال: (الَّذينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الأَرض أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوا الزَّكاةَ وَأَمَروا بِالمعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَر وَللهِ عاقِبَةُ الأُمورِ ) (الحج / 41) .
وهكذا أتقن الإسلام منهاجه لتنظيم حياة الإنسان الجسدية والغريزية بشكل دقيق ومتوازن، ليكون الجسم في وضع طبيعي من حيث تزوّده بحاجته، أو حمايته والحفاظ عليه، واستعماله وصرفه لطاقته.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عوامل التربية
باب في خبر أبي المويهب الراهب
علی علی فراش النبی
المهمة الكبرى للمهدي المنتظر
الحسين(ع) إماماً و مصباح الهداية
وردنا سؤال‌ من‌ الجزائر حول‌ الاساس‌ الذي‌ ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
من سنن النبي (ص ) الصلاة على محمد وآل محمد (ص )
أبو حامد محمد الغزّالي
الخلفاء و المنظومة الإلهية

 
user comment