لا نود أن نتناول مسألة الصلاة العقلية للإنسان من عمقها التاريخي طالما كانت ((فكرة)) الخروج عن الزمن التي توخيناها تكون مقترنة بالدين السماوي. وعليه فإنه يتوجب علينا أن نشخص مسألة الصلاة الروحية العملية في العبادة الدينية من جانب. والصلاة العقلية النظرية من جانب آخر. حيث يخص الله الإنسان بفكر إيماني جليل وتجتمع مع بعضها الآخر كلتا الصلاتين لتجعل من الإنسان قوة ذاتية لها الأثر الكبير والبليغ بين سائر الناس. فإن أصابت تعاظمت وإن خابت حملت رد فعل مشين.
يقول تبارك اسمه وتعالى في بعض من آياته الكريمة:
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).
(إنما يخشى الله من عباده العلماء).
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة).
ويقول رسول الله النبي محمد عليه أفضل الصلوات والسلام حيث يشير في أحاديثه ا لشريفة عن تلك المنزلة الرفيعة والتحصيل السامي لطالب العلم إذ يقول: ((تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة ودراسته تسبيح والبحث عنه جهاد وطلبه عبادة وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة)).
أما النبي عيسى بن مريم (ع) يقول: ((من عَلِم وعَمَلَ عُدَّ في الملكوت الأعظم عظيماً)).
وكذلك قول النبي إبراهيم (ع) بأن: ((العلوم أقفال والأسئلة مفاتيحها)).
ومن تلك الصورة ندرك مدى قيمة العلم وأهله. وخصوصاً الشطر الثاني حيث إن العلم مادة ذهنية موجودة تتطور بتطور العقل الإنساني. وعلى ذلك فهي شائرة على نمط تطوري صاعد. في حين يكون الإنقسام بين أهل العلم بالإيمان بوجود الله الواحد الواجد لهذا العلم والعقل أو الإنكار له تماماً.
وهنا تتجلى أكثر مسألة العلماء في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء). لأن العالِم إذا فسد عقله فكرياً فإنه يجلب الأخطاء والغلط له ولمن يتبع فكره. وعلى ذلك عندما سُئل الرسول محمد (ص) بأن: مَن أشد الناس شراً؟ قال (ص): ((العلماء إذا فسدوا)).
وإذا ركزنا أكثر على السؤال الأخير باعتباره نابعاً من ألسن بشرية ودققنا في نغمته المخيفة وكررنا كلماته الثلاث: (أشد الناس شراً). ندرك قمة جواب الرسول الكريم له: ((العلماء إذا فسدوا)). أما إذا ارتقبنا أكثر وذكرنا بدقة قوله تعالى عن خشيته (من عباده العلماء) فذلك يوضح بجلاء عن خطورة العلماء من جانب ومحاسنهم من جانب آخر عندما يطلب تعالى أن ندعو إلى سبيله ((بالحكمة)).
إن مسألة صلاة العقل عبادة ذهنية تتوقف على مدى قدرة العقل للفرد في التفكير والتأمل بعظمة الوجود كله. ولقد مرّ في هذه الحالة النبي محمد (ص) عندما كان يذهب إلى جبل حراء حيث كان يخلو بربه ويتعبد قبل أن تبعث فيه النبوة حتى قالت العرب: ((إن محمداً عشق ربه)).
إن الله الذي أعطى العقل للإنسان كيما يتفكر ويتأمل به فهذا يعني بأن الله أراد من مخلوقه الإنسان أن يجتهد في البحث عن الحقائق. فإذا آمن أو أنكر فإن حرية التفكير الذي أعطاها الله للإنسان يكون رد فعلها على ذاك الإنسان وحده في الثواب والعقاب. وعلى ذلك فإن المفكر المؤمن تكون عنده صلاة العقل صلاة نظرية عميقة لا تقل شأناً وقيمة عن الصلاة العملية في الدين من نواحيها الذاتية حيث ترشده إلى الخالق.
وعلى هذا المبدأ نفهم لماذا كان الفارابي ينادي بالتصوف العقلي وكيف إنه قد اتخذ من التأمل والتفكير طريقاً إلى التصوف رغم كونه في حياته العملية ملتزم بالزهد والتقشف. إن رفض الفارابي إلى اتخاذ بعض الأساليب والطرق في التصوف الذي يؤدي إلى قهر النفس بتعذيبها ومجاهدتها بضروب من الحرمان كان من منطلق عقلي صميم. كما وإن هذا الأمر لم يدفعه إلى رفض التصوف الروحي الذي ينادي بإذلال النفس عبر إذلال الجسد والانتصار على شهواته. بل بالعكس فإن التصوف الروحي واجب أيضاً. بيد أن الفارابي أراد أن يغير الأدوات الصوفية المتبعة. فإذا ارتكز أهل التصوف الروحي على التقشف والحرمان وتعذيب الجسد فإن ارتكاز التصوف العقلي يقوم على التأمل والتفكير والنظر العقلي المحض.
وهكذا يقدم لنا الفارابي إحدى صور صلاة العقل في طريقته الصوفية التي ظهرت متجلية تماماً عند ابن سينا وعلى نفس النمط. إنه تصوف نظري يعتمد على البحث والتأمل والتفكر العقلي.
جملة القول إن صلاة العقل تخص رجال الفكر الذين اتخذوا من العقل ارتقاء جليلاً لعبادة الله. وهي صلاة نظرية تتمجد أكثر عندما يضاف إليها الصلاة العملية الشرعية في الدين. غير تضخيم شأن العقل أدى إلى تلوث الفكر ببعض الأقوال والأفعال الإلحادية. وخصوصاً في القرن الثالث الهجري. وأيضاً تحجر أغلب الطوائف الدينية في جعل الدين مجرد فقه وأحكام. أو حولوه إلى ذلك نتيجة إلى التصارع من أجل إثبات صحة الفرقة الوحيدة الناجية. مما وصل الأمر بالإمام الغزالي أن يعيد الأمور إلى نصابها. إلا أنه قد غبن الفلسفة على حساب الدين مما دفع بالقاضي ابن رشد أن يرد عليه حججه.
على أية حال فإن صلاة العقل عند رجال الفكر تكون بلا شك كبيرة الفرق عن الصلاة النابعة من تعاليم الدين. أعني بالفرق في نقطة رئيسية هامة وذلك في الخطأ والزلل عند أهل الفكر العقلي تكمن في عالمهم النظري وحسب. فإذا خرجوا بعض الشيء بمواقفهم الفلسفية عن الشرع الديني فإنها ـ على الجملة ـ لا تخرج عن فحواها النظري. في حين تكون على العكس تماماً عند رجال الدين وصلاتهم الروحية العملية إذ تكمن فيها خطورة كبرى على الشريعة الدينية وما: البهائية والبابية والقاديانية. ببعيدة عن ذلك. صحيح أنها من رواسب الاستعمار الغربي الذي تغلف في بادئ أمره بالحركة التبشيرية للدين المسيحي. إلا إنها باقية للآن تعمل بين صفوف المسلمين.
كلمة أخيرة نقولها عن صلاة العقل بأنها قمة التدين في العالم النظري والصلاة الروحية العملية قمة الواقع الحياتي الديني. ومن لم يطيل النظر والتأمل في الواقع الموضوعي لا يدرك نكهة العبادة في صلاة العقل أنها تخص ((أولي الألباب)) كما ذكرهم الله. وهم أهل العلم الذين منحهم الله قوة العقل ورجاحة الفكر والهداية المستقيمة في العبادة بأحلى وأبهى صورها النظرية والعملية.