- الحداثة وتداعياتها:
سواء قلنا انّ الحداثة هي الخروج عن السائد المستهلك، أو انها وعي المتكلم المبدع والمثقف بخصوصيات عصره ولغة خطابه الثقافي وتركيبته المعقدة الراهنة، أو هي ـ كما يراها المنطق الغربي ـ العداء للتراث والاحتكام للعلم المادي والعقل وخصوصيات الحاضر. فالحداثة ليست حتمية تاريخية كما يراها المنطق الغربي بظروفه وتركيباته الفكرية والنفسية، على جميع الشعوب أن تتجه نحوها، بل هي مرحلة من مراحل التاريخ الغربي وتصور خاص عن قيمة ثقافية عالمية من الممكن أن تصاغ وفق عدة تصورات مع الحفاظ على جوهر الحداثة ومبادئها، ومن الممكن أن يبرز الإسلام نظريته تجاه هذه الظاهرة بطريقة تغاير تلك النظرية الغربية التي عادت بانتاج أزمات أخلاقية ونزعة الهيمنة والاستغلال للشعوب المستضعفة المتطلعة.
ووفقاً للتحليل المعاصر للفكر الإسلامي، فإنه لا يتفاوت من حيث الموضوع، إلا أنه يختلف عنه بلحاظ الهندسة المعرفية. الجديد كالقديم واسطة بين الوحي ومخاطبيه، وعامل على تيسير ارتباط الناس بالوحي بصفته برنامجاً تعليمياً توعوياً للدين. إنه الحقل الذي قدم لمخاطبي الوحي تعاليمه والايمان المبتنى على هذه التعاليم بشكل واضح منظم يتسم بالمعقولية.
- مفهوم الحداثة الإسلامية:
نستطيع القول بأن الحداثة ـ وفق المنظور الإسلامي ـ هي ليست رفعا لشعار الحرية والعلم والتقدم وحقوق الانسان، وليست تلفيقاً بين الإسلام هذه الأشياء، بل هي صيغة معاصرة لتفعيل هذه المبادئ الموجودة اساساً في منظومة الفكر الإسلامي بما يتلاءم مع الخصوصيات العلمية والثقافية للواقع الراهن. فالعملية ليست رفضاً للحداثة بذريعة الحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية، كما انها ليست قبولا لها بشكل يتلاءم مع تحديث الإسلام وجعله أكلة مهضومة بالنسبة للإنسان المسلم المعاصر..
وإذا أثمرت الثورة الصناعية «الحداثة»، فقد تمخضت الاتصالات المتطورة عن «ما بعد الحداثة». وإذا كان علم المعرفة النقدي الكانتي ـ البوبري، باعتباره أحد مستلزمات الحداثة، قد أوجد تحولات عميقة في فهم العقلانية والعلاقة بين الدين والعقل، فإنّ الفوضوية المعرفية لدى أمثال فايرابند، والأفكار القومية لأضراب بول واطسن، خلقت فضاء جديداً تماماً لأذهان مخاطبي الأديان في الوقت الحاضر.
والمتكلم الذي يرى دوره في إشاعة وتعليم رسالة السماء، بعدما واجه ظاهرة رسل العلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يجد نفسه اليوم أمام ظاهرة أفظع وأخطر، هي أن «كل إنسان رسول نفسه».
وإذا كان في عصر الحداثة يعالج مشكلة تهرب البشر من النزعات المعنوية، فإنه اليوم يوجه أوبة البشرية إلى النزعات المعنوية وقد أوجدت هذه العودة إلى المعنويات تعقيدات كثيرة في برامج الترويج للدين وإشاعة التعاليم السماوية.
الكلام القويم في العصر الحالي يحتفظ من ناحية بهويته الوسائطية ودوره الدعوي. ومن ناحية ثانية لابد أن يعتمد أدوات ومبان ولغة ومنهجية جديدة، تواكب التحولات المعقدة لدى مخاطبي الوحي.
وهذا ما يتوقف على أمرين: الأول؛ التحول في كافة أضلاع الفكر الإسلامي. والثاني؛ قراءة جديدة وإعادة بناء شاملة للمعرفة الدينية.
فالربط بين الحداثة والفكر الإسلامي الجديد يكمن في النظر إلى الحداثة على انها عملية استكشاف حركة الدين وقيمه الكونية المطلقة وأبعاده الممتدة في الحياة الإنسانية والاوساط الابداعية، ثم تحديث الإسلام داخلياً بتلك القيم والأبعاد المكتشفة من خلال ملأ منطقة الفراغ واستثمار الجانب المتغير للحكم والعقيدة والمبدأ، وتوظيف ذلك كله من أجل ازدهار المجتمع والارتقاء بوعيه وتنضيج قدراته واحتضان تطلعاته.
- هوية الفكر الإسلامي المعاصر:
لقد اكتسب الفكر الإسلامي اليوم هوية تنتسب إلى الفروع الوسيطة، بسبب أن المسائل المعاصرة مسائل متعددة الأصول، وتكرّس في ارتباط متقابل مع سائر فروع البحث الديني، فهذه الفروع في الوقت التالي نحتت للفكر مسائل جديدة، ساعدت من ناحية أخرى على إثرائه بأدوات وأسس جديدة.
إن الهوية الفكرية المتشابكة مع باقي العلوم تؤدي فضلاً عن تخصص المفكر الإسلامي في فهم النصوص الدينية، إلى إلمامه بعلوم الفيزياء والمعرفة والأخلاق والاساطير والاجتماع والنفس و...الخ، مما يمكنه من صياغة الفكر على أساس تحاور وتبادل لوجهات النظر مع باقي العلماء، فكيف يتسنى للمفكر بدون الاطلاع على باقي العلوم إطلاق آراء واضحة حول التدين وأشكاله ومصادره وظروفه، تقع موقع القبول في الذهنيات العارفة بمعطيات العلوم المختلفة؟
إن دراسة الفروع العلمية المختلفة تعد من أهم مقومات الفكر الإسلامي المعاصر ذات التأثير في تشكيل الهندسة المعرفية له، فبهذا التوجه نـُدخل في الحساب مناهج متنوعة ومباني مختلفة ولغات عصرية مؤثرة.
لقد اكتسب المفكر الإسلامي اليوم أدوات ومقدمات جديدة تتدخل في جميع شؤونه المعرفية كفهم وشرح تعاليم الدين، وتقديم الإيمان الديني، واثبات صحة الطروحات الدينية وغير ذلك. فهو يتحرك احياناً بخطى ظاهراتية، وتارة يتحدث بلهجة تاريخية، وفي احيان أخرى بنقد التحليلات النفسية بأدوات عصرية، ويشيد نهاية من كل هذا نظاماً معرفياً جديداً. فالمشكلة هي ذاتها، تتمثل في مدى قدرة الفكر التغييري على الاستفادة من منظومة الفكر الإسلامي لتأسيس نهضة حديثة في كافة المجالات، لا ان نتباكى من اجل تأسيس ثقافة حديثة تختلف في ماهيتها عن الغرب والسلفية.
- تعاطي الفكر مع الحداثة:
انّ الحداثة وغيرها من مقولات الراهن الثقافي بحاجة إلى عملية نقد رؤيوي كاشف عن مدى صحتها ومطابقتها للنص والتجربة الإسلامية وبديهيات العقل، وهكذا يتم تحديث الإسلام داخلياً دون استخدام العناصر المحدثة له من الخارج.
نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية وعلمية شاملة تتلاحم فيها القوى وتتكاتف فيها الرؤى، وتتجه بحركة واعية موحدة إلى الفكر الإسلامي والتجربة الإسلامية القديمة والحديثة ونصوص الشريعة لاستخراج ما يتلاءم منها مع روح الشريعة ومستجدات العصر فقهاً واصولاً وادباً وثقافة وصناعة.
في حين ان هذا العصر الذي نشهده هو عصر الحوار والتحاور، وهذه الطريقة تحتاج إلى عصب رئيسي، هو خطاب ثقافي معاصر، يفهمه الآخر ويؤمّن إيصال الايديولوجيا إلى الآخر، والتي ستكون مقدمة لتفاعل الآخر معها. ما يتطلب رؤية معاصرة مستنبطة من روح النصوص لأهم القضايا التي يواجهها ابناء الامة الإسلامية لاسيما ونحن مقبلون على خارطة تشكل مستقبلي معقدة الخطوط والايديولوجيات والاكتشافات، وهذا يتطلب حضوراً علمياً وثقافياً وسياسياً دائمياً للفكر في خضم الصراع.
- إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر:
من أبرز الاشكاليات التي تواجه عالم الفكر المعاصر، حصر الاهتمام بالتوجهات اليومية المباشرة وإغفال التوجهات المستقبلة والاستشرافية الأخرى، والإفراط والتفريط، والتعميمات الخاطئة الناتجة عن اعجاب المفكر بابداعاته الخاصة، وأخذ وجه من وجوه الشيء بدل كنهه وجوهر الفكرة، والخلط بين الدليل والعلة، ومغالطة اعتبار ما ليس بدليل دليلاً، والمزج بين الوقائع وتفسيره.
أما بعض الآفات المنهجية الخاصة بالفكر الإسلامي المعاصر فالملاك في انتقائها هو مدى تحرر الفكر من الاغلال التي تقعده عن طرح ومعالجة المعضلات الفكرية الملحة.
ويحدد الباحثون المعاصرون في الكلام والالهيات أربع آفات أساسية تهدد الفكر الإسلامي المعاصر، وهي:
1 ـ النزعة التقليدية:
قالوا أن هناك عوامل عديدة دفعت بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى الافراط في الانحياز للماضي وللافكار الكلاسيكية. إن المعرفة بالفكر التقليدي وماضي المسائل من الشروط اللازمة لتأسيس نظام فكري جديد، إلا أن التأكيد المفرط عليها، يحول دون تعاطي الفكر الإسلامي وتفاعله مع القضايا المعاصرة، فالمعرفة بالمسائل والجدليات الجديدة شرط لازم لعرض الإيمان الديني والدفاع عن طروحات الوحي في العصر الحاضر.
في هذا السياق نصوص كثيرة تؤكد على معرفة الزمان أو الأيام، وليس المقصود هو معرفة الأحداث التاريخية بشكل توثيقي وتسجيلي مـُجرد، فإن هذه الأشياء تشكـّل سطح التاريخ وأشكال الزمن، وهما متغيران حسب ما يجري من أوضاع وتحولات سياسية وطبيعية وعلمية.. بل المقصود هو وعي قيم تلك الأيام وعِبَرِها وملاحظة سير قوانينها التاريخية وسننها التي تنتظم الظواهر والافكار والاحداث، تلك القيم والقوانين والسنن التي تعيد إنتاج نفسها في كل ظرف يعاد فيه إنتاج شروطها بحركة الإنسان في مسار التاريخ والزمن.
من هنا نجد أن الإحاطة بهذه السنن التي تحملها الأيام ويخبـّئها الزمان هي المحرك للاستعداد والتخطيط للمستقبل، وأن هناك أسراراً كامنة سوف تكشفها الأيام، فينبغي الإعداد لها ليكون الإنسان فاعلاً في توجيهها لا منفعلاً بجريانها.
نجاح المفكر الإسلامي في التواصل مع الذهنيات المعاصرة من ابرز مقومات هويته، فالفكر بحسب تعريفه ذو هوية وسائطية، ومهمّة المفكر المعاصر تقديم الإيمان وتفهيم الفكر الديني لمخاطبيه العصريين، وفهم شبهاته المعاصرة. وحصول هذه الحالة منوط بالتعاطي الجاد مع العصر الراهن، والمعرفة المعمّقة بأبعاد تحولاته وتطوراته.
النزعة التقليدية تحجز المفكر عن الوعي بالعالم الحديث وملابساته واعتباراته، وتجعله يرى الشبهات الكلامية الجديدة، شبهات فارغة وشيطانية وعديمة الأهمية، ولا يجد تفاوتاً بين أذهان المعاصرين وبين نمط التفكير التقليدي.
وللنزعة التقليدية اشكال مختلفة: شكلها الصريح عدم الإقبال على المسائل والقضايا الجديدة، ومعارضة كافة المباحث الحديثة. ومثل هذا اللون من التقليدية نجده لدى من يعتبرون الفكر الإسلامي المعاصر صراحة، عبارات خالية من المضمون وعناوين بدون معنون. فهم بالتالي ينكرونه من باب أن (الناس أعداء ما جهلوا).
وعلى هذا الأساس فلابدّ لنا من ايجاد حل عصري.. ويتمثل بالنظرة التأصيلية التي توفق بين النقل والعقل، والماضي والحاضر، والفعل والانفعال.. تعد التراث رافداً ضرورياً لاضاءة الحاضر واستكشاف المستقبل، وهذا ما يجعل التراث من وجهة نظر دينية محافظاً على قداسته وهيبته من حيث ان النظرة آنفه الذكر تجزيء التراث إلى عناصر ثابتة وأخرى متحولة، وان صياغة الحاضر بكل اشكاله انما يتم وفق العناصر المتحولة، وهنا ايضاً يكمن سر التحضر والرقي لان العناصر المتحولة هي التي تمثل التطلع والتغير والاستعداد للاستجابة لمتطلبات الواقع المعاش.
أما شكلها المضمر فيتمثل في الإقبال على المسائل والقضايا الجديدة دون الالتفات إلى المباني والتوجهات والمناهج المناسبة لها، فإذا كان الاهتمام بالجديد غير مرتكز على وعي صحيح بالتحولات الحديثة، ولا يقوم على معرفة واسعة بالعالم المعاصر، فسيكون جهداً ضائعاً وبحثاً لا طائل من ورائه؛ لأنه سيبقى بعيداً عن التواصل والتخاطب مع المعاصرين وذهنياتهم المعاصرة، بحيث يجد النقاد إشكالاتهم ما تزال قائمة لا تجد من يجيب دعوتها.
التقليديون لا يدركون عادة حقيقة تاريخية تقول: إن عظماء من امثال القاضي عبد الجبار والزمخشري والشيخ الطوسي والفخر الرازي والباقلاني ونصير الدين الطوسي لو أرادوا أن يكونوا تقليديين ويعتبروا أفكار أسلافهم مقدسة لا تقبل النقد، ويمتنعوا على هذا الأساس من تشييد نظام فكري جديد، لما وصل لنا اليوم تراثهم الحافل. إن السلف الذين يرى التقليديون اليوم أفكارهم خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، كانوا في الغالب نقاداً ملحين لأفكار اسلافهم، ومؤسسين مبدعين لمنظومات فكرية جديدة (في وقتها).
2 ـ معاكسة الماضي:
وهي النزعة التي تقف في مقابل النزعة التقليدية من حيث مواقفها من التراث، فإذا كانت التقليدية نزعة افراط في تبني الماضي وعدم الخروج عنه، فإن نزعة معاكسة الماضي أو (اللاتقليدية) سارت في طريق التفريط بالتراث. وقد أدى التركيز الفائض على التجديد إلى غفلة بعض المفكرين المعاصرين عن الأفكار القديمة، فدفعهم الشغف بالحداثة والتجديد إلى معارضة كل ما هو قديم، واعتبار نتاجات السلف غير ذات قيمة بالمرة.
واللاتقليدية حصيلة ظروف مأزومة، ونتيجة مؤثرات شخصية واجتماعية متعددة. وقد كانت النزعة التقليدية بحد ذاتها من العوامل المهمة في ظهور حمّى معاكسة الماضي، والانهزام الثقافي واحد آخر من هذه العوامل. وتسببت هذه النزعة في ظهور العديد من الآفات والتشويهات على مسرح الثقافة المعاصرة.
ويمكن بحث آفة اللاتقليدية في الفكر السلامي في مدارين؛ الأول: التفريط بالنقاء الديني، وتأويل الأفكار الدينية وفق الآراء الحديثة. والثاني: عدم الاطلاع على الجديد والفشل في معالجته. ذلك أن معرفة الحال في ضوء الماضي من الممارسات المهمة جداً في معرفة مسائل الفكر الجديد، ثم إن المعرفة بتجارب الماضين في تعاملهم مع القضايا يساعد كثيراً في اكتشاف المناهج الصحيحة لتحليل المسائل المطروحة.
لا يصح اعتبار الجديد منقطعاً عن التفكير التقليدي، فالجديد كسابقه يمتاز بهوية معرفية وسائطية، ولا يختلف عنه اختلافاً أساسياً من حيث كونه كلاماً. هذا من حيث التعريف، ومن حيث التحقيق فهو احدى المراحل التكاملية للفكر التقليدي.
بعض البحوث التي تطرح تحت يافطة الجديد تتبنـّى نمطاً من الانقطاع عن الماضي، يتصوّر معه الطلبة الجامعيون أن الماضين لم تطرح لديهم أساساً مثل هذه القضايا والاشكاليات.
إن طرح آراء الماضين في المسائل الجديدة من شروط البحث المنهجي المستند إلى عملية المقارنة التاريخية، إلا إذا كانت هناك مسائل لم تكن مطروحة اساساً في الماضي.
وللنزعة اللاتقليدية مراتب مختلفة، من مراتبها تخطئة الماضين وتسخيف آرائهم في المسائل الجديدة، والمرتبة الأخرى السكوت عن آرائهم وإهمالهم، ومن مراتبها أيضاً إصدار الأحكام الاعتباطية تلك التي تصدر على أسس معرفة اجمالية بسيطة بمقطع معين من تاريخ الفكر الإسلامي، أو بالاستناد إلى عدد محدود من نتاجات السلف.
وعليه تكون الأحداث والتواريخ والأشكال الاجتماعية الماضية هي بمثابة العناصر المتحولة التي تحاول الامساك في مجال التطبيق والافتراض، بتجسيد العناصر الثابتة ميكانيكية جامدة، بل منطقة للفراغ يدعى كل عصر إلى ملئها بما يناسبها من الاشكال التطبيقية والافتراضية الأشد التصاقاً بالواقع الراهن.
المفكرون المعاصرون لا يبدون اهتماماً لائقاً بالتراث الإسلامي الزاخر، وحتى اصحاب النزعة التقليدية ايضاً يماثلون اضدادهم في هذا الاهمال! وهناك شواهد عديدة تثبت هذا الادعاء، فالكثير من المؤلفات الفكرية للسلف ما تزال مخطوطة، لا سبيل للباحثين إليها. وما يزال الكثير من المفكرين المؤثرين في التاريخ غير معروفين ولا يجري لهم ذكر مناسب في المحافل العلمية.
وهناك العديد من المسائل الفكرية لا يزال تاريخ ظهورها وتطوراتها مجهولاً، ومعنى هذا أن المفكرين المعاصرين لا يتعاطون بطريقة منهجية بناءة مع اسلافهم، في حين أن تخصيب الفكر المعاصر بحاجة إلى مثل هذه التوجهات البحثية في التراث الإسلامي.
3 ـ الخلط بين الفكر الجديد والالهيات الحديثة:
الفكر الإسلامي والالهيات المسيحية منظومتان عقيديتان متفاوتتان أساساً. والتثنية في التسمية مؤشر على ثنائية المسمّى. فالمبنى في المنظومة العقيدية لدى المسلمين هو التلقي عن الوحي. والوحي كلام الله مع البشر، وظهور الله للناس يتم من خلال كلامه معهم.
أمّا في الرؤية المسيحية فالوحي هو ظهور الله ذاته للبشر. ونظرية التجسّد والوجود التاريخي للوحي بين المسيحيين (الوحي الخاص) من أسس العقيدة المسيحية المهمة. وعلى هذا الأساس تسمى الواسطة المعرفية بين الوحي (الله ذاته) واذهان ومدارك المخاطبين، بعلم الالهيات أو الالهيات.
إن التضلـّع في تجارب المتألهين المسيحيين في مواجهتهم للمسائل الجديدة، والتبحر في أساليبهم وحلولهم للمعضلات الجديدة، وإمعان النظر في مستويات نجاحهم ونقاط الخلل والقوة في آرائهم، هي بمثابة أدوات مفيدة جداً للفكر المعاصر، بل وضرورية حتماً لاستكمال مقوماته العلمية. غير أن الاقتصار على الاهتمام بنتاجات وتجارب المتألهين المسيحيين يستتبع بروز آفات عديدة تؤدي بالتالي إلى عقم الفكر الإسلامي، فلا مسائلهم هي بالضبط مسائل الفكر الإسلامي، ولا أجوبتهم عن المسائل هي بالضرورة صحيحة وناجعة وفق التعاليم الإسلامية.
إنّ وجه الاشتراك بين الكلام الجديد والإلهيات الحديثة يكمن في هويّتيهما الوسائطية بين الوحي ومخاطبيه، ووجه الاشتراك هذا يستوجب الكثير من المواقف المشتركة، لكن ماهية الوحي والنظام المعرفي القائم عليه لدى المتألهين المسيحيين يختلف عن المعارف المبتنية على الوحي لدى المسلمين، وهذا الاختلاف يتمخض بطبيعة الحال عن تباينات كبيرة في المنهج والمباني والأجوبة.
4 ـ الخلط بين الفكر الجديد وفلسفة الدين:
إنّ العلاقة بين الكلام الجديد وفلسفة الدين تبدو غامضة من عدة جهات، فمن ناحية لا تخلو هوية الكلام الجديد في مقام التعريف، من جوانب غامضة، كما أن الهندسة المعرفية لهذا العلم الجديد في مقام التحقيق، لم ترتسم بوضوح لحد الآن. ومن ناحية أخرى تزيد الصور المتعددة لفلسفة الدين من غموض القضية، ويعود جزء مهم من هذا الغموض إلى حداثة هذين الفرعين المعرفيين. وهذا ما يدل عليه العدد القليل من الكتب والمؤلفات التي ظهرت عن الكلام الجديد وفلسفة الدين حتى الآن. وهو غموض لا يعاني منه طلبة العلم وحسب، بل وحتى الباحثون والأساتذة، فثمة بحوث يعتبرها أحد الدراسين جديرة بعنوان فلسفة الدين، لكن باحثاً آخر لا يرى ذلك.
لهذا توجد آراء متفاوتة بخصوص طبيعة العلاقة بين الكلام الجديد وفلسفة الدين: «... ولذلك يسمى الكلام الجديد أحيانا فلسفة الدين، وفلسفة الدين اليوم ذات مفهوم أعم يشمل الكلام القديم والكلام الجديد بجانب بعضهما..»(2). وان «ما نسميه كلاماً جديداً، يسميه المتكلمون الغربيون فلسفة الدين»(3).
وقد يؤدي الغموض المضاعف في مسألة التمايز بين فلسفة الدين والكلام الجديد إلى أن يكون طرح المسألة غير مفيد وغير ضروري. وغالباً ما يقال: «من المناسب بدل البحث في ماهية هذين العلمين والتمييز بينهما، أن تطرح وتبحث مسائل معينة في الكلام الجديد وفلسفة الدين، ليمكن تشخيص شأنيهما في مقام العمل».
الاجابة عن السؤال: كيف يمكن التمييز بين الكلام الجديد وفلسفة الدين؟ منوط بالاتفاق على تفسير معين لكل من الكلام الجديد وفلسفة الدين.
ويجب قبل كل شيء التذكير بأن هذا السؤال يطرح بالنسبة للمتألهين المسيحيين على شكل سؤال عن العلاقة بين الالهيات الجديدة وفلسفة الدين، وقد أجابوا عنه إجابات متعددة.
لكن البعض يطرحه في شكل علاقة بين الكلام الجديد وفلسفة الدين، فيذهب إلى أن المتكلم عالم متدين بالضرورة، ينظم علمه بدوافع دينية من أجل تعريف الدين وتعليمه وتبليغه للناس. إنه يرمي إلى منح معنى للمفاهيم والافكار وحتى للحياة الدينية، ويجعلها متبلورة مفهومة من قبل اكبر عدد من مخاطبي الوحي. وبالتالي فإن مهمة المتكلم الاساسية توضيح واثبات وعرض الفكر الديني.
أما التعاريف المختلفة لفلسفة الدين فيمكن إرجاعها إلى تعريفين رئيسيين: التعريف الأول، أنها: «تبيين المفاهيم الفلسفية المختلفة التي يمكن أن تتضمنـّها الأديان والمعتقدات الدينية»(4).
وعلى هذا القول تكون فلسفة الدين بمعنى الدفاع الفلسفي عن المعتقدات الدينية، وهي بذلك خليفة الالهيات الطبيعية في دورها ومفعولها.
التعريف الثاني، وهو التصور الغالب لدى فلاسفة الدين: أن فلسفة الدين هي في الواقع التفكير الفلسفي حول الدين. وهي بذلك تشبه فلسفة العلوم أو فلسفة الفن وما إلى ذلك. وبالتالي فإن فلسفة الدين بهذا المعنى هي البحث العقلاني في الاديان المختلفة والظواهر الدينية(5).
إن «فلسفة الدين بصفتها بحوثاً فلسفية في الدين هي من فروع البحث الديني (study of religion) وهي كباقي هذه الفروع ـ كالبحوث الدينية المقارنة، والتاريخية، وعلم اجتماع الدين، وعلم نفس الدين ـ تدرس الظاهرة الدينية من منطلقات مستقلة خارج الدين.
في حين أن للمفكر أو المتكلم أساساً شأناً دينيّاَ، فهو لا يمارس البحث الكلامي من خارج الدين ولمجرد تحصيل المعرفة، وإنما الكلام وحسب تعريفه مسبوق بحصول معرفة وجدانية. من هنا ينطلق المتكلم من داخل الدين وبقصد عرض الدين وتقديمه للناس»(6).
وضوابط الفكر الإسلامي هي ضوابط الوحي. وحسب هذا الملاك ينقسم الفكر البشري الى ثلاثة أصناف: الأفكار المنسجمة مع تعاليم الوحي، والافكار غير المنسجمة، والافكار التي لا هي منسجمة ولا هي غير منسجمة.
في الفكر الاسلامي تسمى الافكار غير المنسجمة شبهات، والرد على الشبهات من أبرز مهمات عالم الكلام، فالمتكلم حينما يواجه الآراء المعارضة لتعاليم الوحي، لا يحث له الموائمة بينهما وبين الوحي، عبر تفريغ الأخير من محتواه أو تفسيره بطريقة مغلوطة. أما فيلسوف الدين فغير ملزم بهذه المعاني، وبإمكانه إعادة بناء الفكر الديني وفق الافكار الفلسفية الموجودة، وتقديم فهم جديد للدين المنطبق وهذه الافكار. ومثل هذه العملية قد يعتبرها المفكر الإسلامي إماتة الدين أو ممارسة إلتقاطية.
يأتي التأكيد على تمييز الفكر الإسلامي المعاصر عن فلسفة الدين في سياق الدفاع عن الهوية الدينية الفكر الجديد، من دون جفاء للتقارب لبيّن بين هاتين المعرفتين، فالفكر الجديد وفلسفة الدين علمان متقاربان متضامنان من عدة نواح، فهما متداخلان في المسألة مثلاً، وهذا ما تدل عليه مراجعة لائحة المسائل المطروحة في آثار فلاسفة الدين والمتأهلين الجدد، ولا يفيد الاشتراك في المسائل انطباق الحقلين ووحدتهما، فمع أن الفكر الجديد وفلسفة الدين متطابقان غالباً في القضايا، إلا انهما مفترقان في المباني والمناهج والتوجهات والنتائج.
فلسفة الدين تهتم بالكلام والالهيات، كما تـُعني فلسفة الفكر والعلم بالعلوم ومعطياتها. وفلسفة الدين إلى ذلك تتعمق في المفاهيم والنظم العقيدية الدينية وظواهر التجربة الدينية والمراسم العبادية.
وبناء على هذا يغدو الفكر الإسلامي المعاصر والالهيات بعض قضايا فلسفة الدين. ولا يعني هذا تحويل الفكر الإسلامي إلى فلسفة دين فقط، كما أنه لا يتعارض مع ثنائية هذين الحقلين. فعلم التاريخ مثلاً يبقى مغايراً لفلسفة التاريخ رغم أنه موضوعها.
5 ـ تحديد الخيارات المنهجية:
يذكر الباحثون المعاصرون أن المسائل الفكرية الجديدة متعددة الأصول، وهي لذلك تحتاج إلى دراسات لفروع الوسيطة، فالاقتصار على توجه خاص، وتحديد إطار معين دون غيره يشل البحث في القضايا الجديدة. ولعل أهم تبعات هذا التحديد هو النزعة «الاختزالية» الخاطئة.
وليس المقصود بتحديد الخيارات المنهجية، اعتماد رؤية احادية المنهج (Monomethodic) في مقابل تعددية المنهج (Polymethodic)، وإنما التحديد يأتي في مقابل الدراسات الوسيطة (Multipledisciplinary). ففي البحث المتعددة المناهج تستخدم مناهج متنوعة بحسب نوعية المسائل المطروحة، أما في الدراسة الوسيطة فتدرس المسألة الواحدة بمناهج متعددة، على نحو التعاطي بين الفروع المختلفة جدلياً لا ميكانيكياً، الأمر الذي يحقق فهم المسألة بشكل متكامل.
6 ـ الاختزالية:
وهي من الأخطاء العامة في الممارسة الفكرية لدى العلماء التقليديين وباقي الباحثين في قضايا الدين. ويستعمل مفهوم الاختزالية (Reductionism) للتأشير على الأخطاء المنهجية داخل آراء سمّاها أدولف رايناخ «فلسفات هذا وليس سوى هذا»، وكثيراً ما تتلخص هذه الآراء بجمل تتضمن عبارة «ليس سوى..» والجمل ادناه نماذج للأخطاء الاختزالية:
• ليس الإنسان سوى ماكنة معقدة.
• ليست القوانين المنطقية سوى القوانين النفسية.
• القواعد الأخلاقية ليست سوى تجليات اخلاق مجتمع معين.
• ليست الأشياء المادية سوى مجموعات مركبة من كيفيات نفسية.
• ليس الفكر الإسلامي المعاصر سوى مسائل كلامية جديدة.
ويقصد هنا أن عبارة «ليس سوى..» عبارة كاذبة، أو أنها وليدة خطأ اختزالي وإنما المراد بالإختزالية خطأ يشغل الإنسان عن البحث ليدفعه صوب فلسفة «ليس سوى كذا وكذا».
ويذكر لهذا الخطأ في الواقع منبعان:
أولاً: لا يدرس الباحث الموضوع الذي أصدر حكمه حوله بشكل دقيق وشامل، ولذلك لن تتكئ نتائجه على أدلة كافية.
وثانياً: الذي يستدرج الباحث لاتخاذ هذه المواقف قبليات كلية معينة. وخطأ الاختزالية يبدو أخطر في البحوث الخاصة بالأديان، ذلك أن الدين والظواهر الدينية متعددة الأضلاع ولها أبعادها المختلفة، فرؤية ضلع واحد، وإنكار باقي الجوانب والأضلاع يؤدي بطبيعة الحال إلى الطريقة الاختزالية، فتارة يختزل الدين إلى أخلاق، وتارة يختزل إلى الاصلاح الاجتماعي، وأخرى تحال التجربة الدينية إلى أرضيتها البايولوجية أو النفسية، وأحياناً يختصر الدين بتجربة دينية، وتارة يخفض إلى المعرفة الدينية، وآخرون يختزلون الدين إلى ايديولوجيا(7).
إن شيوع النزعة الاختزالية في الفكر الاسلامي والبحوث الدينية مردّه إلى تعددية جذور المسائل في هذه المجالات البحثية.
والحل الناجع لهذه المشكلة يتمثل في اعتبار الاختزالية وليدة كون البحوث حول الدين متعددة الأصول، والمسائل متعددة الأصول تستلزم دراسات الفروع الوسيطة. أما تكريس الاهتمام في إطار فرع معين دون غيره، فتنجم عنه بالطبع مثل هذه المزالق والأخطاء(8).
- وأخيراً.. فالخلاصة:
إنّ الاستلاب في الشخصية والفكر والتحديات التي واجهها المسلمون انتج تطرفا في النظرة إلى التراث العلمي الإسلامي، فجاءت نظرة تمجيدية وافتخارية صرفة، كما أنتج جموداً على مستوى اللغة والخطاب نتيجة الجمود عند حدود النصوص والاخبار، وهذا ما دعت إليه السلفية في برنامج عملها السياسي والثقافي، بحيث ذهبوا إلى أن حاضر الأمة لا يصلح الا بما صلح به ماضيها، متغافلين عن الشروط والظروف الموضوعية والمناسبات التي تحيط بالحكم والواقعة وتؤطرها باطارها الخاص. وهو ما يحاول الفكر الإسلامي المعاصر بمعونة فلسفة الدين أن يقرأها ويستكشف دلالاتها الواقعية والإنسانية.
***************
الهوامش
(*) عن: مجلة النهج، العدد الأول، ربيع 2007 (باختصار يسير).
(1) انظر: أحد قراملكي، توجهات الفروع العلمية والتعيّن المعرفي للفلسفة الصدرائية، دورية مقالات ودراسات، العدد 63، 1999م.
(2) عبدالكريم سروش، القبض والبسط النظري للشريعة: 71.
(3) محمد اسفندياري، «ببليوغرافيا وصفية للكلام الجديد»، مجلة «نقد ونظر» ربيع 1995م، العدد 2 : 211ـ248.
(4) هوبلينغ، «مفاهيم ومسائل فلسفة الدين»، مجلة قبسات، السنة الأولى، العدد 2، شتاء 1997م:68.
(5) هوبلينغ: 69.
(6) عبدالكريم سروش، دروس في فلسفة علم الاجتماع: 406ـ428.
(7) رولف هود، «التجربة الدينية، علم نفس الدين والإلهيات»، تدوين وترجمة: أحمد قراملكي، مجلة قبسات، 1998م.
(8) للبحث في الإشكاليات الفكرية العامة النظر: قراملكي، أحد، ستار الوهم: 164ـ200، تحليل اللغفلة في ضوء الخطبة رقم 174 من نهج البلاغة. و(ندوة) فلسفة الدين، مجلة قبسات، العدد2، شتاء 1997م: 2ـ35.