يرجى الانتظار

الحداثة والفكر الإسلامي المعاص

- الحداثة وتداعياتها:
سواء قلنا انّ الحداثة هي الخروج عن السائد المستهلك، أو انها وعي المتكلم المبدع والمثقف بخصوصيات عصره ولغة خطابه الثقافي وتركيبته المعقدة الراهنة، أو هي ـ كما يراها المنطق الغربي ـ العداء للتراث والاحتكام للعلم المادي والعقل وخصوصيات الحاضر. فالحداثة ليست حتمية تاريخية كما يراها المنطق الغربي بظروفه وتركيباته الفكرية والنفسية، على جميع الشعوب أن تتجه نحوها، بل هي مرحلة من مراحل التاريخ الغربي وتصور خاص عن قيمة ثقافية عالمية من الممكن أن تصاغ وفق عدة تصورات مع الحفاظ على جوهر الحداثة ومبادئها، ومن الممكن أن يبرز الإسلام نظريته تجاه هذه الظاهرة بطريقة تغاير تلك النظرية الغربية التي عادت بانتاج أزمات أخلاقية ونزعة الهيمنة والاستغلال للشعوب المستضعفة المتطلعة.
ووفقاً للتحليل المعاصر للفكر الإسلامي، فإنه لا يتفاوت من حيث الموضوع، إلا أنه يختلف عنه بلحاظ الهندسة المعرفية. الجديد كالقديم واسطة بين الوحي ومخاطبيه، وعامل على تيسير ارتباط الناس بالوحي بصفته برنامجاً تعليمياً توعوياً للدين. إنه الحقل الذي قدم لمخاطبي الوحي تعاليمه والايمان المبتنى على هذه التعاليم بشكل واضح منظم يتسم بالمعقولية.
- مفهوم الحداثة الإسلامية:
نستطيع القول بأن الحداثة ـ وفق المنظور الإسلامي ـ هي ليست رفعا لشعار الحرية والعلم والتقدم وحقوق الانسان، وليست تلفيقاً بين الإسلام هذه الأشياء، بل هي صيغة معاصرة لتفعيل هذه المبادئ الموجودة اساساً في منظومة الفكر الإسلامي بما يتلاءم مع الخصوصيات العلمية والثقافية للواقع الراهن. فالعملية ليست رفضاً للحداثة بذريعة الحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية، كما انها ليست قبولا لها بشكل يتلاءم مع تحديث الإسلام وجعله أكلة مهضومة بالنسبة للإنسان المسلم المعاصر..
وإذا أثمرت الثورة الصناعية «الحداثة»، فقد تمخضت الاتصالات المتطورة عن «ما بعد الحداثة». وإذا كان علم المعرفة النقدي الكانتي ـ البوبري، باعتباره أحد مستلزمات الحداثة، قد أوجد تحولات عميقة في فهم العقلانية والعلاقة بين الدين والعقل، فإنّ الفوضوية المعرفية لدى أمثال فايرابند، والأفكار القومية لأضراب بول واطسن، خلقت فضاء جديداً تماماً لأذهان مخاطبي الأديان في الوقت الحاضر.
والمتكلم الذي يرى دوره في إشاعة وتعليم رسالة السماء، بعدما واجه ظاهرة رسل العلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يجد نفسه اليوم أمام ظاهرة أفظع وأخطر، هي أن «كل إنسان رسول نفسه».
وإذا كان في عصر الحداثة يعالج مشكلة تهرب البشر من النزعات المعنوية، فإنه اليوم يوجه أوبة البشرية إلى النزعات المعنوية وقد أوجدت هذه العودة إلى المعنويات تعقيدات كثيرة في برامج الترويج للدين وإشاعة التعاليم السماوية.
الكلام القويم في العصر الحالي يحتفظ من ناحية بهويته الوسائطية ودوره الدعوي. ومن ناحية ثانية لابد أن يعتمد أدوات ومبان ولغة ومنهجية جديدة، تواكب التحولات المعقدة لدى مخاطبي الوحي.
وهذا ما يتوقف على أمرين: الأول؛ التحول في كافة أضلاع الفكر الإسلامي. والثاني؛ قراءة جديدة وإعادة بناء شاملة للمعرفة الدينية.
فالربط بين الحداثة والفكر الإسلامي الجديد يكمن في النظر إلى الحداثة على انها عملية استكشاف حركة الدين وقيمه الكونية المطلقة وأبعاده الممتدة في الحياة الإنسانية والاوساط الابداعية، ثم تحديث الإسلام داخلياً بتلك القيم والأبعاد المكتشفة من خلال ملأ منطقة الفراغ واستثمار الجانب المتغير للحكم والعقيدة والمبدأ، وتوظيف ذلك كله من أجل ازدهار المجتمع والارتقاء بوعيه وتنضيج قدراته واحتضان تطلعاته.
- هوية الفكر الإسلامي المعاصر:
لقد اكتسب الفكر الإسلامي اليوم هوية تنتسب إلى الفروع الوسيطة، بسبب أن المسائل المعاصرة مسائل متعددة الأصول، وتكرّس في ارتباط متقابل مع سائر فروع البحث الديني، فهذه الفروع في الوقت التالي نحتت للفكر مسائل جديدة، ساعدت من ناحية أخرى على إثرائه بأدوات وأسس جديدة.
إن الهوية الفكرية المتشابكة مع باقي العلوم تؤدي فضلاً عن تخصص المفكر الإسلامي في فهم النصوص الدينية، إلى إلمامه بعلوم الفيزياء والمعرفة والأخلاق والاساطير والاجتماع والنفس و...الخ، مما يمكنه من صياغة الفكر على أساس تحاور وتبادل لوجهات النظر مع باقي العلماء، فكيف يتسنى للمفكر بدون الاطلاع على باقي العلوم إطلاق آراء واضحة حول التدين وأشكاله ومصادره وظروفه، تقع موقع القبول في الذهنيات العارفة بمعطيات العلوم المختلفة؟
إن دراسة الفروع العلمية المختلفة تعد من أهم مقومات الفكر الإسلامي المعاصر ذات التأثير في تشكيل الهندسة المعرفية له، فبهذا التوجه نـُدخل في الحساب مناهج متنوعة ومباني مختلفة ولغات عصرية مؤثرة.
لقد اكتسب المفكر الإسلامي اليوم أدوات ومقدمات جديدة تتدخل في جميع شؤونه المعرفية كفهم وشرح تعاليم الدين، وتقديم الإيمان الديني، واثبات صحة الطروحات الدينية وغير ذلك. فهو يتحرك احياناً بخطى ظاهراتية، وتارة يتحدث بلهجة تاريخية، وفي احيان أخرى بنقد التحليلات النفسية بأدوات عصرية، ويشيد نهاية من كل هذا نظاماً معرفياً جديداً. فالمشكلة هي ذاتها، تتمثل في مدى قدرة الفكر التغييري على الاستفادة من منظومة الفكر الإسلامي لتأسيس نهضة حديثة في كافة المجالات، لا ان نتباكى من اجل تأسيس ثقافة حديثة تختلف في ماهيتها عن الغرب والسلفية.
- تعاطي الفكر مع الحداثة:
انّ الحداثة وغيرها من مقولات الراهن الثقافي بحاجة إلى عملية نقد رؤيوي كاشف عن مدى صحتها ومطابقتها للنص والتجربة الإسلامية وبديهيات العقل، وهكذا يتم تحديث الإسلام داخلياً دون استخدام العناصر المحدثة له من الخارج.
نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية وعلمية شاملة تتلاحم فيها القوى وتتكاتف فيها الرؤى، وتتجه بحركة واعية موحدة إلى الفكر الإسلامي والتجربة الإسلامية القديمة والحديثة ونصوص الشريعة لاستخراج ما يتلاءم منها مع روح الشريعة ومستجدات العصر فقهاً واصولاً وادباً وثقافة وصناعة.
في حين ان هذا العصر الذي نشهده هو عصر الحوار والتحاور، وهذه الطريقة تحتاج إلى عصب رئيسي، هو خطاب ثقافي معاصر، يفهمه الآخر ويؤمّن إي