واقعة الطف، ثورة الحسين ومسيرته من الحجاز إلى العراق، استشهاد الحسين(عليه السلام) في كربلاء كلها عناوين تجبر المرء على تغليب العاطفة، والكتابة تحتها بدموع العين لا مداد القلم، ولكنّي هنا سأحاول وضع العقل والمنطق في تزاوج مع العاطفة الجيّاشة.
خطأ في التقييم:
هناك العديد من الناس يقعون في خطأ أصنفه بالكبير، حين يحصرون ثورة الحسين(عليه السلام) بتاريخ معين، أو يغضّون البصر عنها لأنها-حسب تصوراتهم- تخصّ طائفة معينة،إن ثورة الحسين(عليه السلام) واستشهاده في كربلاء تخص كل العرب، وكل المسلمين، والإنسان المدافع، عن الحق والرافض للظلم، مهما كانت عقيدته ومذهبه وقوميته.
إن ثورة الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام تمثّل نموذجاً فريداً سيظل حياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ،أما في الآخرة فقد أخذ البشرى من جده الأعظم بأنه سيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسن(عليه السلام) ،الحسين (عليه السلام) جسّد رفض الخلافة بالغلبة، ومبدأ توريث الحكم للأبناء، بمفهوم عصرنا ،لقد رأى أن في الأمة من هو أصلح من يزيد بن معاوية لإدارة شؤون الأمة، واستشعر أنه هو هذا الشخص كيف لا، وهو التقي الذكي العابد المجاهد الصالح البعيد عن الظلم والطغيان الطاهر من المعاصي والآثام ؟!إنها صفات الحسين(عليه السلام) الرجل والإنسان، يضاف إليها أنه سبط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ،وابن فاطمة الزهراء(عليها السلام) ريحانة نبي الرحمة، ووالده عليّ( كرم الله وجهه)، الذي أسلم ولم يسجد لصنم وتربى في حجر النبي(ص) ونام في فراشه ليلة الهجرة، وشارك في غزوات المسلمين، وأبلى بلاءً نعرفه وقرأنا عنه منذ نعومة أظافرنا، ولا يتسع المقام لسرد مناقب الإمام عليّ(عليه السلام) ولكن الحسين(عليه السلام) لم يقف عند حسبه ونسبه وعند ورعه وتقواه ومحبة الناس له بل لم يقف عند البشرى بالجنة ولو مات على فراشه، فانطلق ثائراً ليسطّر ملحمة من ملاحم البطولة، ويكتب بدمه الطاهر رسالة تتناقلها الأجيال ويفتخر بها التاريخ ليعطي لنا درساً عظيماً في التضحية والفداء والبذل والوقوف في وجه الظالمين والطغاة.
إن القول بأن واقعة الطف حدث عابر وأمر انتهى ولا يجوز الوقوف عنده هو خطأ في تقييم الواقعة وقراءة تفاصيلها ودلالاتها، والقول أن الأمر يتعلق بفئة أو ملّة دون أخرى أو حتى حصر الأمر بالعرب أو المسلمين لهو ظلم جديد يرتكب بعد 14 قرناً من رحيل الحسين(عليه السلام) شهيداً، وأمّا بعض الجهلة أو المتحذلقين الذين يقولون(سيدنا يزيد) في تزاوج مع قول (سيدنا الحسين) فيجب أن يتقوا الله فيما يصدر عنهم من كلام ،يزيد سيد من يرضى الذل والهوان وسيد من أعماه عن حب الله ورسوله حبه للدرهم والدينار،ولا أعذار يمكن أن تقبل لهذا الوصف!
عالمية الثورة
إنها ثورة عربية، فلقد عرف عن العرب إباؤهم وأنفتهم وعدم رضوخهم لأي ذلٍ يحاول أن يمسهم من أي كان، لقد سمعنا وقرأنا عن عمرو بن كلثوم التغلبي وكيف أطاح برأس عمرو ابن هند لما شعر أن أم الأخير تريد المساس بأمه ليلى بنت المهلهل،وكان هذا في الجاهلية،وكيف بعد الإسلام دين الحرية والعدالة يرضى عربي حرّ أن يتولى أمره يزيد، وعبيد الله بن زياد؟!
هي ثورة إسلامية لأن الإسلام لا يقبل أن يسوس العصاة وشاربي الخمور أمة حية وحاملة رسالة للناس والإسلام يرفض مبدأ حكم الغلبة والبيعة بالإكراه والإسلام يكرم الذين يقتلون ظلماً باعتبارهم أحياء عند ربهم يرزقون، والله سبحانه وتعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، فأي ظلم أكبر من أن يأتي يزيد أو من هم على شاكلته كي يديروا شؤون الرعية ؟!والله تعالى قال: (
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمّا ظَلَمُوا )، ولم يقل لمّا كفروا،
هي ثورة إنسانية لأن النفس السوية ترفض الظلم وتكره الطغاة وتسعى إلى العدالة بين الناس بغضّ النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم وهذا الراهب النصراني (ميلانصو) يرى النور يشع من رأس الحسين المحمول في طريقه إلى قصر يزيد في دمشق، فيأخذ الرأس من حامليه ليمسح عنه التراب ويغسله بماء الورد معاتباً ومؤنبا القتلة على فعلتهم، ميلانصو كان راهباً نصرانيا،ً وسرجون كان نصرانيا،ً يعمل مستشاراً لدى يزيد وهو(سرجون) من نصح بتولية ابن زياد، لقد أعماه حقده فكان في صف الظالم على المظلوم، إن أحرار المسيحيين ليتشرفون بميلانصو ويشمئزون من سرجون رغم أن هذا وذاك ينتميان لذات الدين، فطرت النفس الإنسانية على بغض الظلم ونبذ الطغيان ولكنها إذا انحرفت أودت صاحبها إلى شتى ألوان الإجرام أيا كان معتقده أو قوميته أو وطنه.
وفي سياق الحديث عن عالمية ثورة الحسين(عليه السلام) فقد زار الصين يوما أحد قادة منظمة التحرير الفلسطينية والتقى الزعيم (ماوتسي تونغ) فقال الأول لماو:علمني النضال فرد ماو:كيف أعلمك وعندكم ثورة الحسين بن علي ومعركة كربلاء؟!،إن هذه الواقعة لهي ملهمة لكل الثائرين في وجه الظلم الساعين إلى العدالة، والحق، والاستقامة.
رسالة أكبر من كل الكلام
الحسين بن علي(عليه السلام)، كريم ابن كريم، طاهر ابن طاهرة، أصيل من نسب أصيل، يقتل وتسبى نساؤه ويجز رأسه ويحمل إلى الشام دون أن يجد ناصراً له، يصرخ:((ألا هل من ناصر ينصرني))، لقد عرف أن جيش يزيد يريد رأسه وعرف أن الناس يريدون تركه لمصيره لأن المعدة غلبت الضمير، لأن المال والعطايا طغت على المبادئ والمثل النبيلة فكان حالهم (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية)! ولكنه وجّه كلامه للأجيال القادمة كي تحمل الراية ،وتقود حرباً لا هوادة فيها ضد الطغاة أياً كانوا وتحت أي راية تخفوا، فإن لهم صفة واحدة هي الظلم ،باستشهاد الحسين(عليه السلام) أصبح العرب والمسلمون والإنسانية الحرة أمام مسؤولية كبيرة فلا أحد منّا يستطيع الزعم أن له شرفاً عظيماً كشرف الحسين (عليه السلام) أو مقاماً كمقامه ورغم ذلك حدث للحسين وأهله ما تقشعر له الأبدان، فكيف يبرر المنهزمون المتخاذلون عن نصرة الحق هزيمتهم وتخاذلهم؟!
كيف الوفاء؟
جميل أن نحيي ذكرى الحسين(عليه السلام)، بل أن نبكي عليه في ذكراه، ونقيم المحاضرات، والندوات، وبيوت العزاء، وأستغل الفرصة لجعل هذه الذكرى لنا جميعاً وعدم التناكف وحصرها في إطار مذهبي ضيق, ولكن ما فائدة البكاء والوقوف على الأطلال ممن يتحالف مع الأعداء والطغاة ثم يأتي مدعياً حبه للحسين ؟!ولعمري قول القائل:-
يا من رأى حب الحسين تشيعا إن الـتـشيع ثـورة وجـهاد
ثـار الحسين على يزيد iiلفسقه ولـقد غـزانا الكفر iiوالإلحاد
وكيف يرضى من يدعي نسباً بالحسين بأن يخون المبادئ التي قضى الحسين(عليه السلام) نحبه من أجلها ؟
إن الوفاء الحقيقي للحسين(عليه السلام) يكون بالتمسك بالمبادئ التي اجتز رأسه في سبيلها ،الوفاء للحسين(عليه السلام) بالسير على نهجه، ونهج أصحابه، في الوقوف في وجه الطغيان ودرء الظلم عن الناس، بغض النظر عن (موازين القوى)، الوفاء للحسين(عليه السلام) باستشعار بذله للغالي والنفيس من نفس ومال وعدم القبول بالذلة حين صرخ صرخة صادقة معبرة ((هيهات منا الذلة))!
والحقيقة أن هناك من التزم بالوفاء وسار على النهج وأترك ذكر الأسماء لأننا نعرفها، ولكن ثورة العشرين حاضرة بمفجر فتيلها في وجه الغزاة الإنجليز للعراق والمقاومة اللبنانية التي دحرت الاحتلال عن أرض لبنان وأصّرت على تحرير كل لبناني مقاوم بغض النظر عن انتمائه السياسي أو الطائفي، من قيود الأسر، وغير ذلك من النماذج العظيمة التي نرجو أن نراها تتكرر وهي بحمد الله تتكرر كلما حل الظلام لتبث نورها الساطع الصادق معلنة أن الظلام ليس قدر الأمة وأن دماء الحسين(عليه السلام) لا تزال تشع لنا النور الذي نسير عليه في حربنا مع الظالمين.
والوفاء للحسين(عليه السلام) يكون بعدم إغفال التربية السليمة الصحيحة القائمة على غرس المثل والقيم النبيلة في المرء بحيث لا يتخلى عن هذه المبادئ تحت أي ظرف،لأننا رأينا في سيرة وقعة الطف كيف أن من يتخلى عن المثل وينبذ القيم يتحول إلى وحش بشع؛هؤلاء الذين يعرفون فضل الحسين(عليه السلام) ونسبه ورأوا على رأسه عمامة جده، لم يتورعوا عن قتله بلا رحمة مع طفليه الرضيعين وأن يمثلوا بجثمانه الطاهر بكل خسة ونذالة وحقارة، لماذا؟ لأنهم بلا مثل ولا قيم أو أخلاق فاستزلهم الشيطان لتكون (تذكرة) دخولهم جهنم دماء خير من حوت الأرض في وقتها وبئس الورد المورود!
في ذكرى استشهاد الحسين(عليه السلام) وأولاده وأخيه العباس وأصحابه أقول :-
السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين
السلام على أبنائك وعلى أصحابك وأنصارك
السلام على من سار على نهجك إلى يوم الدين
السلام على من بقي وفياً لدمائك ومبادئك
الخزي والعار والشنار لكل من خان مبادئك ممن ادعى أنه ينتسب إليك!
وليفضح الله كل من ادعى حبك وساير أي (نسخة) عن يزيد في عصرنا!
الحسين في ظلال القرآن الكريم
علق الفخر الرازي على آية (المودة) مشيداً بآل النبي (صلي الله عليه وآله) قال ما نصه:
(وإذا ثبت هذا - يعني اختصاص الآية بآل البيت (عليهم السلام) - وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم قال ويدل عليه وجوه:
(الأول): قوله تعالى:(إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ووجه الاستدلال به ما سبق وهو ما ذكره من قبل أنّ آل محمد (صلي الله عليه وآله) هم الذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة، وعليا،ً والحسن، والحسين كان التعلق بهم وبين رسول الله (صلي الله عليه وآله) أشدّ التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل.
(الثاني): لا شكّ أنّ النبي (صلي الله عليه وآله) كان يحبّ فاطمة (عليها السلام) قال (صلي الله عليه وآله: (فاطمة بضعة مني يؤذني ما يؤذيها) وثبت بالنقل المتواتر عن محمد (صلي الله عليه وآله) أنّه كان يحبّ علياً، والحسن، والحسين، (عليهم السلام)، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمّة مثله لقوله تعالى: ( وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ولقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ولقوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ) ولقوله سبحانه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).
(الثالث): إنّ الدعاء للآل منصب عظيم، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله: (اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمداً وآل محمد) واجب....
أنّ مودّة أهل البيت (عليهم السلام) من أهمّ الواجبات الإسلامية، ومن أقدس الفروض الدينية، يقول الإمام محمد بن إدريس الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حــــــبكم فــــرض من الله فـــي القرآن أنزله
كفا كم من عظيم القدر أنكــــــم من لم يصل عليكم لا صلاة له.
وقال ابن العربي:
رأيت ولائــــي آل طــــــه فريضـــــة على رغم أهل البعد يورثني القربى
فما طلب المبعوث أجراً على الهدي بتبليغــــه إلا المــــــــودة في القربى
ويقول شاعر الإسلام الكميت:
وجدنا لكم في آل أحمد آية تأولها منا تقي ومعرب
إنّ في مودّة آل البيت (عليهم السلام) أداء لأجر الرسالة، وصلة للرسول الأعظم (صلي الله عليه وآله) وشكراً له على ما لاقاه من عظيم العناء والجهد في سبيل إنقاذ المسلمين من الشرك، وتحرير عقولهم من الخرافات، وقد جعل تعالى حقّ نبيه العظيم على هذه الأمّة أن توالي عترته، وتكنّ لها المودة والولاء.
آية المباهلة:
من آيات الله البينات التي أعلنت فضل أهل البيت (عليهم السلام) آية المباهلة قال تعالى: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ).
واتفق المفسرون ورواة الحديث أنّها نزلت في أهل البيت.
وأنّ أبناءنا إشارة إلى (الحسنين) ونساءنا إشارة إلى (فاطمة)، وأنفسنا إلى علي.. نزلت الآية الكريمة في واقعة تاريخية بالغة الخطورة، جرت بين قوى الإسلام وبين القوى الممثلة للنصارى، وموجز هذه الحادثة أنّ وفداً من نصارى نجران قدموا على رسول الله (صلي الله عليه وآله) ليناظروه في الإسلام، وبعد حديث دار بينهم وبين النبي (صلي الله عليه وآله) اتفقوا على الابتهال أمام الله ليجعل لعنته، وعذابه على الكاذبين والحائدين عن الحق، وعينوا وقتاً خاصاً لذلك، وانصرف وفد النصارى على موعد للعودة للمباهلة حتى يستبين أمر الله، ويظهر الحق، ويزهق الباطل، وقد هامت نفوسهم بتيارات من الهواجس والأحاسيس، لا يعلمون أنّ النبي (صلي الله عليه وآله) وقد اختار للمباهلة أفضل الناس، وأكرمهم عند الله، وهم باب مدينة علمه، وأبو سبطيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وبضعته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
وأقبل (صلي الله عليه وآله) وقد احتضن الحسين، وأمسك بيده الأخرى الحسن، وسارت خلفه الزهراء مغشاة بملأة من نور الله، يسير خلفها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو باد الجلال..