إذا كانت البدعة بمعنى التدخّل في أمر الشرع بزيادة أو نقيصة في مجالي العقيدة والشريعة، من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات، فليس لها إلاّ قسم واحد لا يُثَنّى ولا يتكثّر ولكن ربّما تقسم البدعة إلى تقسيمات نذكر منها ما يلي:
البدعة الحسنة والبدعة السيئة
لقد جاء هذا التقسيم في كلمات الإمام الشافعي، وابن حزم والغزالي والدهلوي وابن الأثير(1) وغيرهم، والأصل في ذلك قول عمر بن الخطاب، وقد ظهر على لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة، عندما جمع الناس للصلاة بإمامة أُبيّ بن كعب في شهر رمضان ووصف الجماعة بقوله: "نعم البدعة هذه" والأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره.
قال عبدالرحمن بن عبدالقارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلّي الرجال فيصلّي بصلاته الرهط فقال عمر: إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: "نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله(2).
إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين:
الأُولى: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة، فعندئذ يكون عمل (الخليفة) إحياء لسنّة متروكة سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصحّ قوله: "نعم البدعة هذه" إذ ليس عمله تدخّلا في الشريعة.
الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، وإنّما كره( الخليفة) تفرّق الناس،
ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.
توضيح ذلك
إنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب والسنّة هي التدخّل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة، والتصرّف في التشريع الإسلامي، وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلاّ أمراً محرّماً ومذموماً ولا يصحّ تقسيمه إلى حسنة وقبيحة، وهذا شيء واضح لا يحتاج إلى استدلال.
نعم، البدعة بالمعنى اللغوي التي تعمّ الدين وغيره تنقسم إلى قسمين، فكلّ شيء محدث مفيد في حياة المجتمعات من العادات والرسوم، إذا أُدّي به من دون الاسناد إلى الدين ولم يكن محرّماً بالذات شرعاً، كان بدعة حسنة، أي أمراً جديداً مفيداً للمجتمع، كما إذا احتفل الشعب بيوم استقلاله في كلّ عام، أو اجتمع للبراءة من أعدائه أو أقام الأفراح لمولد بطل من أبطاله، وبالجملة ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتّفق عليه الأُمّة، وتتّخذه عادة متبعة في المناسبات، ويكون بدعة لغوية.
وأمّا ما كان محرّماً بالذات فهو محرّم ليس من باب البدعة. فلو اتّخذ أمراً مرسوماً ورائجاً، مثل دخول النساء سافرات متبرّجات في مجالس الرجال في الاستقبالات والضيافات، فهذا أمر حرام بالذات أولا، وليس بمحرم من باب البدعة الشرعية، بمعنى التدخّل في أمر الدين والتسنين فيه والتشريع على خلاف ما شرّعه الشارع، وإنّما هو عمل محرّم اتّخذ رائجاً لا باسم الدين ولا باسم الشريعة، وأقصى ما يعتذر بأنّه مقتضى الحضارة العصرية، مع الاعتراف بكونه مخالفاً للشرع، ولو قيل إنّه بدعة قبيحة أو مذمومة، فإنّما هو بحسب معناها اللغوي.
وبذلك يظهر أنّ أكثر من أطنب الكلام في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيّئة فقط خلط البدعة في مصطلح الشرع بالبدعة اللغوية، فأسهبوا في الكلام وأتوا بأمثلة كثيرة زاعمين أنّها من البدع الشرعية مع أنّ أمرها يدور بين أمرين:
إمّا أنّها عمل ديني يؤتى بها باسم الدين والشريعة، ولكن يوجد لها أصل فيهما، فتخرج بذلك عن تحت البدعة، كتدوين الكتاب والسنّة إذا خيف عليهما التلف من الصدور، وبناء المدارس والرُّبَط وغيرهما. وقد مثلوا بالتدوين للبدعة الواجبة، وببناء المدارس والرُّبَط بالبدعة المستحبّة، مع أنّهما ليسا ببدعة لوجود أصل صالح لهما في الشريعة.
أو أنّها عمل عادي لا يؤتى بها باسم الدين بل يؤتى بها لأجل تطوير الحياة وطلب الرفاه، فتكون خارجاً عن موضوع البدعة في الشرع، كنخل الدقيق، فقد ورد أنّ أوّل شيء أحدثه الناس بعد رسول الله، اتّخاذ المناخل ولين العيش من المباحات.
وإنّما يصح إطلاق البدعة عليها بالمعنى اللغوي، بمعنى الشيء الجديد، سواء كان عملا دينياً أو عادياً. وقد وافقَنا على نفي ذاك التقسيم لفيف من المحقّقين:
منهم: أبو إسحاق الشاطبي في كلام مسهب نذكر منه ما يلي:
إنّ متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه لأنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع، وكلّ ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع. وأيضاً فلو فرض أنّه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذمّ لم يتصوّر، لأنّ البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها، إذ لو قال الشارع "المحدثة الفلانية حسنة" لصارت مشروعة.
ولمّا ثبت ذمّها، ثبت ذمّ صاحبها، لأنّها ليست بمذمومة من حيث تصوّرها فقط، بل من حيث اتّصف بها المتّصف، فهو إذن المذموم على الحقيقة، والذمّ خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك على الإطلاق والعموم"(3).
ومنهم: العلاّمة المجلسي قال: "إحداث أمر لم يرد فيه نصّ بدعة، سواء كان أصله مبتدعاً أو خصوصياته مبتدعة فلربما يقال: إنّ البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمر باطل، إذ لا تطلق البدعة إلاّ على ما كان محرّماً، كما قال رسول الله: "كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار"(4).
ومنهم: الشهيد في قواعده: محدثات الأُمور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)تنقسم أقساماً: "لا يطلق اسم البدعة عندنا إلاّ على ما هو محرّم منها"(5).
سؤال وإجابة
وهناك سؤال يطرح نفسه، وهو أنّه إذا كانت البدعة قسماً واحداً وأمراً محرّماً مقابل السنّة، لا تقبل التقسيم إلى غيره فما معنى قوله (صلى الله عليه وآله): "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده، كتب له أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم من شيء، ومن سنّ سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"(6).
والجواب: أنّ الشقّ الأوّل راجع إلى المباحات العامّة المفيدة للمجتمع، كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيّرة، فلو أنّ رجلا قام ـ برفض الأُميّة ـ بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أُسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنّة حسنة.
وأمّا الشقّ الثاني: فهو راجع إلى الأمور المحرّمة بالذات، فلو قام أحد بضيافة أشرك فيها النساء السافرات المتبرّجات، ثمّ صار عمله قدوة للآخرين، فعلى هذا المسنن وزر عمله ووزر من عمل بسنّته.
وعلى ضوء ذلك فالحديث لا يمتّ بالبدعة المصطلحة، ولم يكن ببال أحد من الشخصين التدخّل في أمر الشرع بالزيادة والنقيصة، بل كلّ قام بعمل خاصّ حسب دواعيه وحوافزه النفسية، فالإنسان العاطفي يندفع إلى القسم الأوّل الذي ربّما يكون مباحاً أو مسنوناً، ومن حسن الحظّ، يكون عمله قدوة، والإنسان الإجرامي يندفع إلى القسم الثاني، فيعصي الله سبحانه لا باسم البدعة بل بارتكاب عمل محرّم، ومن سوء الحظّ يكون عمله قدوة.
فكلا العملين لا صلة لهما بالبدعة الشرعية أصلا، ولو أُطلقت فإنّما تطلق عليهما بالمعنى اللغوي، أي إبداع أمر لم يكن، سواء أكان مباحاً أم حراماً، ومن المعلوم أنّه ليس كلّ محرّم بدعة وإن كانت كلّ بدعة محرّمة.
المصادر :
1- ابن الأثير، النهاية 1: 79
2- البخاري، الصحيح 3: 58 كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان
3- الشاطبي، الموافقات 1: 142
4- المجلسي، البحار 74: 203
5- الشهيد، القواعد والفوائد 2: 144 ـ 145 القاعدة 205
6- مسلم، الصحيح 8: 61 كتاب العلم
source : .www.rasekhoon.net