الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطيّبين الطاهرين.
ورث الإمام علي تركة مثقلة بالاضطرابات فقد جاء إلى منصب القيادة في الأمة الإسلامية وقد تمزقت أواصرها واضطربت إدارتها، وأصبحت السلطة المركزية ـ أي سلطة الخلافة ـ موضع شك من جماهير الأمة، فقد كان الخليفة عثمان كبير السن فسيطر عليه جماعة من قومه فجعلوا الخلافة تركة لأسرة معينة، ثم كانت هناك الظروف الاجتماعية التي لم يكن له عليها سلطان بنشأة طائفة أثرت ثراءً فاحشاً وابتعدت عن النور النبوي.
ورث الإمام علي هذه التركة فأراد أن يعود بها إلى أصولها في رسالة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى القوم قد انحرفوا فأراد أن يقودهم إلى الطريق السوي، ولكن الحيوان إذا أصيب في أذنيه بما يشغله ينطلق في طريقه وتعصب قيادته مرة أخرى إلى الطريق السوي وقد كان هذا شأن الأمة.
جاء الإمام علي إلى الخلافة كارهاً مضطراً، وأراد أن يجمع الأمة على سبيل واحد، وسأذكر كلمة تنسب إلى المؤرخين حول الإمام "انّه كان شجاعاً ولم يكن سياسياً"، وهم في ذلك مخطؤون فقارئ التاريخ لو عرف أنّ الإمام علياً عندما تولى الخلافة لم يكن لديه جيش بل كانت المدينة ذاتها تحت سلطان فئات مشاغبة. ولما ثار عليه مَن ثار في العراق وتحصنوا واجتمعوا في العراق وجمعوا جموعهم، خرج الإمام على من المدينة وليس معه أكثر من 800 شخص، لكنه عندما وصل إلى ميدان المعركة كان معه ماينوف على الألوف والألوف، فمن أين جاؤوا لو كان الإمام بارعاً ـ كما يقولون ـ في الحرب دون السياسة؟!
كان الإمام سياسياً عظيماً وقائداً حربياً ماهراً، لكنه واجه قوات وظروفاً عسيرة. أول هذه الظروف والتحديات كانت نكث مَن نكث عهده عليه وخرجوا عليه وتحدوا اختيار الأمة له، وكما هو معلوم فقد كان اختيار أبي بكر بشخصين، وكان اختيار عمر بوصاية من قبل أبي بكر، وكان اختيار عثمان من قبل عبد الرحمن بن عوف، ولكن الإمام علياً اختاره الجمهور كله وانصاعت له الأمة عدا أفراد معدودين، ولما نكثوا عهده لم يقل الإمام قد كفروا ولم يهاجمهم هجوماً كما نعرفه اليوم في مهاجمة الناس خصومهم وإنّما حاول إرشاد القوم بالحسنى غير أن أعظم تركة للإمام علي في مجال التسامح الديني إنّما وقعت عندما خرج عليه قوم عرفناهم بالتاريخ باسم الخوارج، هؤلاء القوم زعموا أن الإمام قد انحرف عن جادة الصواب وانّه حكّم الناس حيث ينبغي أن يكون الحكم لله فقالوا "الحكم لله" كما وصفهم الإمام علي "كلمة حق أريد بها باطل"... هؤلاء القوم خرجوا زاعمين أنّهم يريدون القتال من أجل الخلافة وزاعمين أن الإمام علياً قد خان الأمة وأنّه لذلك لم يعد صالحاً لقيادة الأمة بل زاد بعضهم فاتهمه في دينه.
تصور انك في هذا العصر أو في أي عصر عندما تواجه بمثل هذه التهم الباطلة وهذا العنف في العبارة وهذا الأسلوب في الكلام فماذا تعمل؟
خرجوا وتحصنوا في مكان وهم جنود أقوياء الشكيمة مدججون بالسلاح، فماذا تفعل وأنت تقود جيشاً وتواجه معركة؟ قال قوم للإمام عليك بهم، حاربهم فهم يريدون حرباً وعليك بهم فصفهم بما ينبغي أن يُوصفوا به، فانّهم كفرة مارقون خرجوا على الدين وتبرؤوا من البيعة، فما كان جواب الإمام إلاّ أن قال سأتركهم إلاّ أن يسيؤوا، أو يقطعوا الطريق. ولما سأله سائل: أليسوا كفرة؟ قال: كلاّ بل من الكفر فرّوا. وهذه كلمة هامة، وقارنهم بغيرهم فقال: هؤلاء أرادوا الحق فأخطؤوا الطريق وغيرهم أراد الباطل فأصاب الطريق، أي أنّهم أحسنوا النية وأساؤوا الأسلوب، هم يريدون للخلافة أو الامامة أن تكون سليمة قوية ولكنهم بعملهم بالوسيلة التي اتخذوها أفسدوا غرضهم.
انّ الإمام علياً وضع أساساً للمجتمع الإسلامي، مجتمع يمكن للأفراد أن يختلفوا في الرأي وأن يجادل أحدهم الآخر في رأيه دون أن يرميه بالكفر أو يشهر في وجهه السلاح، هي نقطة هامة نسيها العالم الإسلامي ـ مع الأسف ـ منذ ذلك العصر.
نحن في عصر لايكاد الواحد منّا ينطق بكلمة لم تكن مكتوبة أو لم يحفظها إخواننا الدارسون في العلوم الإسلامية حتى يتهموه بالكفر، فنحن نُطالب في هذا العصر أن لا نكون أكثر من أدوات تسجيل نحفظ ولا نفكر، نردّد ـ بل نجتر ـ ما قاله العلماء السابقون دون أن نحرّف أو نغيّر عليهم أية كلمة، أي حرف، وهذا الحِجر على العقول نتيجته المحتومة التقهقر العلمي والديني بل والأخلاقي، فالذي لا يفكر ليس أنساناً وبالتالي لا يستطيع أن يقضي بين الحق والباطل أو يفرق بين الصواب والخطأ ولا بين الفاضل والشرير، فالأحكام الأخلاقية كالأحكام العقلية لا تنبع إلاّ من مجتمع حر، والإمام علي أراد أن يكون للمجتمع الإسلامي هذه الحرية التي ورثها من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد " فجعل للمخطئ أجراً، وقد أراد الإمام علي بهذا أن يثبت حكماً أساسياً في المجتمع الإسلامي وفي الفكر الإسلامي.
وبعد أن انهزم حزب الحق، حزب الله، وقام الطغيان في بلادنا حجر على الفكر حجراً تاماً فذبح كلّ مَن خالف العقيدة الحكومية ذبح الشياه، وقد قال أحد ولاة بني أمية ـ وهو خالد القسري ـ لبعض الناس في عيد الأضحى: "اذهبوا وضحوا أما أنا فأضحّي بهذا الرجل، يعني جعد بن درهم" وذلك لانّ له فكراً يخالف فكر الدولة، ومثل هذا لم يكن ليقع لو أنّ حزب الله انتصر في هذه المعركة.
هناك جدال كثير في العصر الحاضر حول علاقة الدول الإسلامية بعضها بالبعض الآخر، وأذكر قصة قصيرة انّي حينما دُعيت لأكون عضواً في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في أول اجتماع له بعد تكوينه من جديد دُعينا للاجتماع في بغداد، ولما اجتمع القوم في بغداد اشترطتُ لاشتراكي فيه ان لا تُهاجم إيران في المؤتمر على الإطلاق ـ وقد عُقد المؤتمر بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ـ وأن يكون الحوار حول السلام والإسلام لا أكثر، وانّنا هناك نريد جمع الكلمة لا الخلاف حولها، ووُعدتُ بأنّ هذا سيكون هو المنهج الذي سيسير عليه المؤتمر، ولكن لما وصلتُ إلى هناك وإذا بالخطب كلها حملة على إيران،
يقولون إن إيران لم تلتزم بقرار الأمم المتحدة ولم تلتزم في معاملة الأسرى بمعاهدة جنيف ولم تتعاون مع مؤسسة الصليب الأحمر لتوثيق العلاقة بين الأسرى وأهليهم.
ردّد هذا خطيب بعد خطيب وكان كلّهم من الوزراء، فطلبتُ الكلمة وكان من المقرّر أن أكون متحدثاً، ولكنّهم قالوا إن الكلمات ستلغى لكل من جاؤوا من الجامعات وهم الذين اقترحتهم، وقالوا أنهم ليسوا مهمين بل المهم سبعة عشر وزيراً وخمسة وثلاثون رئيساً للمؤسسات الدولية، ولكني أصررت على الكلمة فدُعيت فقلتُ: انّ مايدهشني في هذا النقاش ونحن في مؤتمر إسلامي أن نتكلم عن الأمم المتحدة فمتى اتحدت هذه الأمم إلاّ علينا؟ ثم نتكلم عن مؤسسة الصليب الأحمر ونحن مؤسسة إسلامية، فهل يحق لنا أو يليق أن نتكلّم عن الصليب الأخضر أو الأصفر أو الأحمر؟ ثم نتكلم عن ميثاق جنيف فهل منكم مَن يدلّني أي بلد عربي أو إسلامي تقع جنيف هذه فيه؟ لماذا لا نلجأ للشريعة الإسلامية، نلجأ لقرار الإمام علي بن أبي طالب الذي عندما وضعت الحرب أوزارها بينه وبين خصومه كان أول عمل قام به هو إطلاق سراح الأسرى، فلماذا لا نحتكم إلى الإمام علي وهو إمامنا وإمام كل المسلمين؟! هذا التسامح الذي لا يجعل الانتقام أو الحقد أساساً للتعامل بين المسلمين وهذه التركة الكبرى التي تركها الإمام علي للمسلمين.
نحن في عصر نعاني فيه من ضيق الفكر وسوء اللغة التي تستعمل بين المتحاورين، فما أحرانا أن نعود لهذا التراث العظيم تراث الإمام علي في التسامح الديني والتسامح في النقاش، فقد كان الإمام علي عظيم قدره وجلالة منصبه سهلاً في الملتقى يجادله مَن يريد الجدال ويناقشه مَن يريد النقاش بل يسيء إليه أناس كالخوارج فلا يرفع السيف في وجوههم بل يخاطبهم بالحسنى. هذه التركة بحاجة إلى أن تعرض على الأمة في هذا العصر.
انهي الكلمة بكلمة قصيرة أشير بها إلى النجف الأشرف، النجف الأشرف عظم قدره بانّه احتوى قبر الإمام فأصبح محجة للناس، ولو لم يكن فيه غير هذا القبر لقصده المسلمون من كل جوانب الأرض ليتبركوا بصاحب هذا القبر، ولكن ما كان هذا ليكون كافياً مع عظمته وجلالة قدره وإنّما عظمة المدينة جاءت من العلم، فالحوزة العلمية التي شعّ منها النور والتي استقت نورها من صاحب القبر ومن المصدر الأعظم لهذا النور النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه الحوزة هي التي جعلت هذه المدينة ذات أثر عظيم وذات سمعة جليلة في تاريخ الإسلام.
وسأذكر لكم مدينة أخرى هي مدينة حلب، كانت ذات يوم كعبة للشعراء والكتّاب والمفكرين، وفي عصر سيف الدولة شهدت هذه المدينة المتنبي الذي كتب أعظم قصائده فيها وكان فيها أبو فراس الحمداني وقريب منها عاش شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري، ثمّ احتوت المعلم الثاني الفارابي كان هذا العهد عهداً زاهراً في الفكر والأدب في حلب، ولكن أين حلب الآن؟! مات كلّ هذا بموت سيف الدولة وانتهى أمره. ولكن الحوزة العلمية في النجف الأشرف بقيت يشع منها النور، فاستمرت إلى اليوم مركزاً عظيماً للمسلمين جميعاً.
لقد ذُكِرَ الأزهر وأقول بأنّ الأزهر أنشأه الشيعة كما أنشؤوا النجف الأشرف ونحن مدينون كمسلمين سنّة وشيعة لما تركته الشيعة في تاريخ الإسلام من إنشاء المؤسسات التعليمية التي يشع منها النور على العالم الإسلامي، ونحن نرجو أن نعود مرة أخرى إلى العمل الجليل الذي كان يقوم به الشيخ محمود شلتوت والسيد القمي فقد كانوا مناراً للإسلام وموحدين للمذاهب المختلفة في العالم الإسلامي، ونحن أحوج ما نكون لمثل هذه الحركة اليوم أكثر من أي وقت آخر، حيث يضربنا العالم في كل مكان وقد عدتُ قريباً من كييف ويعاني المسلمون هناك ـ وهم من التتار ـ من حكوماتهم، لقد هدّم التتار بغداد ثمّ حملوا الإسلام إلى العالم، وقد ذكرتُ لهم أن يتفقوا ولا يلتفتوا إلى دعاة الفرقة ويتأسوا برسالة الإمام علي(عليه السلام) الذي قبل الحوار وسمع بالحوار والحرية الدينية في مجتمعه.
نحن نشكو في مجتمعاتنا من فقدان الحرية، وهذه الحرية أساس من أسس الفكر والأسس العقدية التي دعانا إليها الإمام علي، ونرجو اللّه أن يهدينا للاقتباس من تعاليمه والاقتداء به.
تصدّق الإمام علي ( عليه السلام ) بالخاتم
عن الشيخ الصدوق ( قدس سره ) قال : إنّ رهطاً من اليهود أسلموا ، منهم : عبد الله بن سلام ، وأسد ، وثعلبة ، وابن يامين ، وابن صوريا .
فأتوا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا : يا نبيَّ الله ، إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون ، فمن وصيُّك يا رسول الله ؟ ومن وليّنا بعدك ؟ فنزلت هذه الآية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة :( 55 ).
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( قوموا ، فقاموا ، وأتوا المسجد ، فإذا سَائلٌ خارج .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( يَا سَائل ، هل أعطاكَ أحدٌ شيئاً ؟ قال : نعم ، هذا الخاتم .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( مَنْ أعطَاكَه ؟ قال : أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلِّي .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( عَلى أيِّ حَالٍ أعطاك ؟ قال : كان راكعاً ، فكبَّر النبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) ، وكبَّر أهل المسجد .
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( عليٌّ وليُّكم بعدي ) ، قالوا : رضينا بالله ربَّاً ، وبِمحمَّدٍ نبياً ، وبعليٍّ بن أبي طالب ولياً .
فأنزل الله عزَّ وجلَّ قوله : ( وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) المائدة :( 56 ).
واتَّفقَتْ روايات العلماء أنَّ الإمام علي ( عليه السلام ) قد تصدَّق بخاتمه وهو راكع ، وليس بين الأمَّة خلاف في ذلك ، فشكَر الله ذلك له ، وأنزل الآية فيه ، فيلزم الأُمَّة الإقرار بها ، وذلك لموافقة هذه الأخبار لكتاب الله ، وكذلك وجدنا كتاب الله موافقاً لها ، وعليها دليلاً ، وحينئذٍ كان الاقتداء بها فَرضاً ، لا يتعدَّاه إلاّ أهل العناد والفَساد .
وقد أنشأ حسَّان بن ثابت يقول :
أبَا حَسَنٍ تفديكَ نفسي ومُهجَتـي وكُلّ بطيءٍ في الهُدَى ومُسارِعِ
أيَذْهبُ مَدحي في المُحِبِّين ضَائعاً ومَا المَدحُ في ذاتِ الإلَهِ بِضائِعِ
فأنتَ الذي أعطيتَ إذْ كُنتَ رَاكِعاً فَدَتْكَ نفوسُ القَومِ يَا خَيرَ رَاكِعِ
بِخَاتَمِكَ الميمون يَا خَيْرَ سَيّد ويَا خير شارٍ ثُمَّ يَا خَير بَائِـعِ
فأنزلَ فيك الله خَيـر وِلايَـةٍ وبيَّنَها في مُحكَمَات الشَّـرائِعِ