أريد من الحضارة ـ هنا ـ الجانب الفكري منها ، و هو ما يرادف الثقافة : ( Culture ) و التي تشمل العلوم و الآداب و المعارف و الفنون . و أقرب تعريف للثقافة يلتقي مع ما نحن فيه هو التعريف القائل : ( الثقافة : هي مجموع ما توصلت إليه أمّة أو بلاد في الحقول المختلفة من أدب و فكر و فن و صناعة و علم ) ـ ( المعجم العربي الأساسي ، مادة : ثقف ) . و الحضارة الإسلامية ـ في ضوء هذا ـ تتمثل في القرآن الكريم و الحديث الشريف و ما يدور في فلكهما من علوم و معارف و آداب . و الحضارة الإسلامية قد ينظر إليها من جانب الهوية ، و هي من هذا الجانب تتحقق في الحقول المعرفية التالية : العقيدة و التشريع و الأخلاق . و قد ينظر إليها من جانب النشأة ، و هي من هذا الجانب تتمثل في التالي : 1 . القرآن الكريم . 2 . السنة الشريفة . 3 . العلوم و المعارف التي أسهمت في دراسة القرآن و الحديث . و على هدي ما تقدم ، إننا هنا نحاول أن نتعرف دور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وضع الأسس المعرفية التي ترتبط بالتالي : 1 . فهم النصّ القرآني . 2 . توثيق الحديث . 3 . فهم الحديث . 4 . ما يرتبط بالعقيدة بعامة . 5 . ما يرتبط بالتشريع بعامة . 6 . ما يرتبط بالأخلاق بعامة . و قبل الدخول في صلب الموضوع نحاول أن نتعرف شخصية الإمام علي الفكرية و عوامل تكوينها ، تلك الشخصية التي قامت بدور التأسيس للثقافة الإسلامية . شخصية الإمام علي الفكرية : كان الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) النموذج الحضاري المتميز من بين سائر أصحاب النبي ( صلى الله عليه و آله ) و تلامذة مدرسته الفكرية . و يرجع هذا إلى ما توافر له ( عليه السلام ) من عوامل شاركت متكاملة في شخصيته الفكرية ، و هي : 1 . العامل الذاتي : و أريد به أنّه ( عليه السلام ) ولد مزودًا بمؤهلات ذهنية ارتفعت به إلى مستوى العبقرية التي هي فوق الذكاء المتفوّق . و يعود هذا إلى أنّ الله تعالى أراد بذلك إعداده لحمل الرسالة و تحمل مسؤولياتها بعد النبي ( صلى الله عليه و آله ) و نستطيع أن ندرك هذا مما أعطاه من فكر و مما قام به من أعمال و هو في معرض إرساء أسس الحضارة الإسلامية ، كما سنشير إلى شيء منه . إنّ هذا لا يتأتى إلاّ ممن وعى مسؤولية القائد الرسالي وعيًا حيًّا و وضع أمامه و نصب عينيه تحقيق أهداف الرسالة الإسلامية ، و من أهمها أن يكون لها شخصيتها الخاصة و المميزة لها عمّا سواها . و من ثُمّ ليرتفع مستوى الأمّة الإسلامية عن طريق هذه الحضارة إلى ما أراده الله تعالى للمسلمين بقوله : ( كُنتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... ) . ذلك أنّ الحضارة السامقة هي القادرة على تكوين هذه الأمّة ، و قد رأينا ـ تاريخيًا ـ تسابق المؤهلين ذهنيًا إلى الإسهام في إنمائها و إثرائها ، و من ثُمّ تكوين الأمّة . و قد تكامل هذا بمدة وجيزة من الزمن اعتبرت رقمًا قياسيًا في عوالم بناء الحضارات و تكوين الأمم . 2 . العامل التربوي : و أعني به ما تهيأ للإمام علي ( عليه السلام ) من جوّ تربوي في ظل توجيهات و تعليمات رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) . و الإمام علي يسجل هذا بقوله ( عليه السلام ) : ( و لقد كنتُ أتبعه ( يعني رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) إتباع الفصيل إثر أمّه ، يرفع لي في كُلّ يوم من أخلاقه علمًا ، و يأمرني بالاقتداء به ، و لقد كان يجاوز في كُلّ سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري ، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و خديجة و أنا ثالثهما ، أرى نور الوحي و الرسالة ، و أشمّ ريح النبوة ، و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه و آله ) ، فقلتُ : يا رسول الله ، ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان قد آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ، و لكنك لوزير ، و إنّك لعلى خير) . و يدخل في هذا الإطار ما عرف من أنّ النبي ( صلى الله عليه و آله ) كان قد أملى على الإمام ( عليه السلام ) ما أُطلق عليه عنوان ( كتاب علي ) ، و كتبه بخطه الشريف من فم رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و روي عن إبراهيم بن هشام بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد الباقر ( عليهم السلام ) أنّه قال : ( في كتاب علي كُلّ شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش ) . إنّ هذا اللون من التربية خلق عند الإمام الذهنية العلمية المبدعة التي أعطت ـ فيما بعد ـ العطاء الخير الذي أشرت إليه في أعلاه . على أساس من تحمل الإمام ( عليه السلام ) هذه المسؤولية الضخمة ، و من وعيه لأهمية تطبيقها ، و من خلال إدراكه لأهمية ما تهدف إليه من تأسيس حضارة إسلامية تتكون في أجوائها و داخل أطرها الأمّة الإسلامية القائدة انطلق الإمام ( عليه السلام ) يضع القواعد و الأسس للعلوم الإسلامية و العلوم الأخرى المساعدة لها ، و تمثلت هذه في البداية بالتالي : علم العقيدة : و هو العلم الذي عُرف بـ ( علم التوحيد ) ، و التوحيد في الحضارة الإسلامية أساس العقيدة ، تلك العقيدة التي تعطي الفكرة الإسلامية عن نشوء الكون و تطوراته و نهايته . و بتعبير أخصّ : تعطينا الفكرة عن المبدأ و المعاد . و العقيدة هذه بتفاصيلها و حدودها هي أساس التشريع الإسلامي ، منها ينشقّ و عليها يقوم ، ذلك التشريع الذي هو نظام حياة الإنسان المسلم في كُلّ مفرداتها و جزئياتها ، و جميع أطوارها و أدوارها . و أيضًا العقيدة الإسلامية هي التي ترسم و تحدد الإطار الذهني للإنسان المسلم الذي من خلاله يفكر ، و في هدي معطياته يرى مرئياته . و قد رأينا الإمام ( عليه السلام ) يبدأ بالتوحيد ليضع اللبنات الأساس لهذا الفكر العقيدي ، و في كتاب ( نهج البلاغة ) الكثير من هذا ، الخطبة الأولى فيه تضع لنا التوحيد في موضعه كأساس للعقيدة الإسلامية ، و لذا بدأ علي ثُمّ انتقل من بعده إلى بيان كيفية خلق الكون بعوالمه المختلفة ، و بيان بعث الأنبياء و إرسال الرسل و تشريع الأحكام . و تجد الحديث عن التوحيد في المقطع الأول من خطبته المشار إليها ، قال ( عليه السلام ) : ( أوّل الدين معرفته ، و كمال معرفته التصديق به ، و كمال التصديق به توحيده ، و كمال توحيده الإخلاص له ، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه . . . إلخ ) . و في الخطبة نفسها يربط التشريع بالعقيدة لأنها الإطار الفكري له ليرينا تسلسل الفكر الحضاري الإسلامي ، قال ( عليه السلام ) : ( إلى أن بعث الله سبحانه محمدًا رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) لإنجاز عدته و إتمام نبوته . . ثُمّ اختار سبحانه لمحمد ( صلى الله عليه و آله ) لقاءه . . و خلّف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملاً بغير طريق واضح، و لا علم قائم، كتاب ربكم فيكم مبيّنًا حلاله و حرامه و فرائضه و فضائله ) . و كان التشريع الإسلامي موجودًا عند الإمام ( عليه السلام ) و عند من بعده من الأئمة ( عليه السلام ) من ذريته كاملاً لا نقص فيه ، متمثلاً في ( كتاب علي ) الذي أشرنا إليه في أعلاه ، و الذي وردت الرواية فيه أنّ فيه كُلّ شيء يحتاج إليه حتى أرش الخدش . و نلمس هذا واضحًا في وفرة النصوص الشرعية عند أتباع أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكمية التي غطت جميع ما يحتاج إليه الفقيه في مجال استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الشرعية بحيث لم يعد الفقيه بحاجة لغير الكتاب و السنة من مصادر أخرى . و في الوثيقة التالية من كلام الإمام ( عليه السلام ) يضع الإمام المنهج في فهم القرآن الكريم و طريقة الجمع الدلالي بين مدلولاته ، و تقسيم رواة الحديث و طريقة تقييمهم ، و هي : ( إنّ في أيدي الناس حقًّا و باطلاً، و صدقًا و كذبًا، و ناسخًا و منسوخًا، و عامًّا و خاصًّا، و محكمًا و متشابهًا، و حفظًا و وهمًا ، و لقد كُذب على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) على عهده حتى قام خطيبًا ، فقال : و من كذب علي متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار . و إنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس . 1ـ رجل منافق ، مُظهر للإيمان ، متصنِّع بالإسلام ، لا يتأثم و لا يتحرّج ، يكذب على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) متعمدًا ، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه ، و لم يصدقوا قوله ، و لكنهم قالوا : صاحب رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) رآه و سمع منه ، و لقف عنه ، فيأخذون بقوله ، و قد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ، و وصفهم بما وصفهم به لك ، ثُمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار بالزور و البهتان ، فولوهم الأعمال ، و جعلوهم حكامًا على رقاب الناس ، فأكلوا بهم الدنيا ، و إنما الناس مع الملوك و الدنيا إلاّ من عصم . فهذا أحد الأربعة . 2ـ و رجل سمع من رسول الله شيئًا لم يحفظه على وجهه ، فوهم فيه ، و لم يتعمّد كذبًا فهو في يديه ، و يرويه و يعمل به ، و يقول : أنا سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوه منه ، و لو علم هو أنّه كذلك لرفضه . 3ـ و رجل ثالث ، سمع من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) شيئًا يأمر به ، ثُمّ أنّه نهى عنه ، و هو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ، ثُمّ أمر به و هو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ و لم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، و لو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه . 4ـ و آخر رابع لم يكذب على الله و لا على رسوله ، مبغض للكذب خوفًا من الله ، و تعظيمًا لرسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و لم يهم ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به على ما سمعه ، لم يزد فيه و لم ينقص منه ، فهو حفظ الناسخ فعمل به ، و حفظ المنسوخ فجنب عنه ، و عرف الخاص و العام ، و المحكم و المتشابه ، فوضع كُلّ شيء موضعه . و قد كان يكون من رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) الكلام له وجهان : فكلام خاص و كلام عام ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله ـ سبحانه ـ به ، و لا ما عنى رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فيحمله السامع و يوجهه على غير معرفة بمعناه ، و ما قُصد به ، و ما خرج من أجله . و ليس كُلّ أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) من كان يسأله و يستفهمه ، حتى أن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي و الطارئ فيسأله ( عليه السلام ) حتى يسمعوا ، و كان لا يمر بي من ذلك شيء إلاّ سألته عنه و حفظته منه . فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم و عللهم في رواياتهم ) . إنّ هذه الوثيقة العلمية وضعت أسس علمي الرجال و الحديث ، مستخلصة من واقع الرواة من الصحابة ، و من خلال ما نسميه الآن بالدراسة الميدانية ، و هذه الدراسة ألصق بالواقع و أصدق تعبيرًا عنه . إلى هنا تعرفنا على قيام الإمام علي بالتأسيس لعلم التوحيد ( علم العقيدة ) و لعلم التشريع ( علم الفقه ) ، و لعلمي الرواية و الرواة ( علم الحديث و علم الرجال ) و ذلك من خلال النماذج و الوثائق التي مرّ عرضها . و الآن نعرض لقيامه بتأسيس العلوم المساعدة للعلوم الشرعية ، و نأخذ شاهدًا لذلك علم النحو العربي ، ذلكم العلم الذي يتدخل و بشكل مباشر في فهم النص الشرعي لأنّه يدرس نظام الجملة العربية و وظيفة الكلمة العربية في منظومة الجملة العربية . علم النحو العربي : قال السيوطي : ( أوّل من رسم للناس النحو أبو الأسود الدؤلي ، و كان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) . و قال البغدادي : ( و هو ( يعني أبا الأسود ) واضع علم النحو بتعليم علي ( عليه السلام ) ، و كان من وجوه شيعته ، و استعمله على البصرة بعد ابن عباس ، و قبل هذا كان استعمله عمر بن الخطاب، و عثمان بن عفان رضي الله عنهما ) . و يرجع السبب لاختيار الإمام علي لأبي الأسود لأنّه ( كان رجل أهل البصرة ، و كان علوي الرأي ) ، و ( من أكمل الرجل رأيًا و أسدهم عقلاً ) ، و( أعلم الناس بكلام العرب ) ، و( من سادات التابعين . . . ثقة في حديثه) ، و( و هو أفصح الناس ) ، ( و كان الناس لزمنه يرونه شيخ العلم و فقيه الناس و صاحب علي ( رضي الله عنه ) و خليفة عبد الله بن العباس على البصرة ) . و أخيرًا : هذه إلمامة تاريخية تشير إلى دور الإمام علي في إرساء أسس الثقافة الإسلامية ، تضع أمام من يريد البحث في ذلك و الكتابة فيه بشكل مفصل و مطوّل الصور المصغرة لذلك . و لنختم حديثنا المختصر بكلام ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة في مقدمة شرحه و هو في معرض الإشارة إلى هذا ، قال : ( و ما أقول في رجل تُعزى إليه كُلّ فضيلة ، و تنتهي إليه كُلّ فرقة ، و تتجاذبه كُلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل و ينبوعها ، و أبو عذرها ، و سابق مضمارها ، و مجلي جلتها ، كُلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، و إياه اقتفى ، و على مثاله احتذى ، و قد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم ، و من كلامه ( عليه السلام ) اقتبس ، وعنه نقل ، و إليه انتهى ، و منه ابتدأ ، فإنّ المعتزلة الذي هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته و أصحابه لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ، و أبو هاشم تلميذ أبيه ، و أبو ه تلميذه ( عليه السلام ) . و أمّا الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري ، و هو تلميذ أبي علي الجبائي ، و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون ـ بآخره ـ إلى أستاذ المعتزلة و معلمهم و هو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) . و أمّا الإمامية و الزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر . و من العلوم : علم الفقه ، و هو ( عليه السلام ) أصله و أساسه ، و كُلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه : أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد ( بن الحسن الشيباني ) و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة . و أمّا الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ( الشيباني ) فيرجع فقهه أيضًا إلى أبي حنيفة . و أمّا أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضًا إلى أبي حنيفة ، و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد ( عليه السلام ) و قرأ جعفر على أبيه ( عليه السلام ) و ينتهي الأمر إلى علي ( عليه السلام ) . و أمّا مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي ، و قرأ ربيعة على عكرمة ، و قرأ عكرمة على عبد الله بن عباس ، و قرأ عبد الله بن عباس على علي ( عليه السلام ) . و إن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك ، فهؤلاء الفقهاء الأربعة . و أمّا فقه الشيعة فرجعوه إليه ظاهر . و أيضًا فإنّ فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس ، و كلاهما أخذا عن علي ( عليه السلام ) ، أمّا ابن عباس فظاهر ، و أمّا عمر فقد عرف كُلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة ، و قوله غير مرة : ( لولا علي لهلك عمر ) ، و قوله : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن ) ، و قوله : ( لا يفتين أحد في المجلس و علي حاضر ) ، فقد عرف بهذا الوجه أيضًا انتهاء الفقه إليه . و من العلوم : علم تفسير القرآن ، و عنه أُخذ ، و منه فُرع ، و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك ، لأنّ أكثره عنه و عن عبد الله بن عباس ، و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه إليه ، و أنّه تلميذه و خريجه . . الخ ).
فتح خيبر
لم يكن بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين يهود خيبرٍ عهدٌ ، بخلاف بني قينقاع والنضير وقريضة ، فقد كان بينه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبينهم عهد ، ومعنى ذلك أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توجَّه إليهم ليدعوهم إلى الإسلام ، أو قبول الجزية ، أو الحرب ، فلمَّا لم يسلموا ولم يقبلوا الجزية حاربهم .
وكان يهود خَيْبَر مضاهرين ، ليهود غطفان على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان هذا سبب خروج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم .
فقد ذكر ابن الأثير وغيره ، أن يهود خَيْبَر كانوا مضاهرين ليهود غطفان على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإنَّ غطفان قصدت خَيْبَر ليضاهروا اليهود فيها ، ثم خافوا المسلمين على أهليهم وأموالهم فرجعوا .
وكان المسلمون في هذه الغزوة ألفاً وأربعمائة ومعهم مِائتي فرس ، فلما نزلوا بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ، حتى طلعت الشمس ، وأصبح اليهود ، وفتحوا حصونهم ، وغدوا إلى أعمالهم .
فلما نظروا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قالوا : محمد والخميس ـ أي : الجيش ـ وولّوا هاربين إلى حصونهم .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساء صباح المنذرين )) .
فحاصرهم بضع عشرة ليلة ، وكان أول حصونهم قد افتتح هو حصن (ناعم) ، ثم (القموص) ، ثم حصن (الصعب بن معاذ) ، ثم (الوطيح) و(السلالم) ، وكان آخر الحصون فتحاً حِصْن (خَيْبَر) .
وفي خيبر بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا بكر برايته ، وكانت بيضاء ، وعقد له ، فرجع ولم يَكُ فتح وقد جهد .
ثم بعث في الغد عمر بن الخطاب برايته ، وعقد له أيضاً ، ومعه الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ، فجاءوا يجبِّنُونَه ويجبِّنُهم كسابقه .
وخرجت كتائب اليهود يتقدمهم ياسر أو ناشر ـ أخ مرحب ـ فكشفت الأنصار حتى انتهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاشتدَّ ذلك على رسول الله ، وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( لأبعَثَنَّ غداً رَجُلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه ، ويحبَّانه ، لا يولي الدبر ، يفتحُ الله على يَدَيه )) .
فتطاولت الأعناق لترى لمن يعطي الراية غداً ، ورجا كل واحد من قريش أن يكون صاحب الراية غداً .
وكان الإمام علي ( عليه السلام ) أرمد شديد الرمد ، فدعاه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقيل له أنه يشتكي عينيه .
فلما جاء الإمام علي ( عليه السلام ) أخذ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ماء فمه ، ودَلَّك عينيه ، فَبَرئَتَا ، حتى كأنْ لم يكن بهما وجع .
ثمّ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( اللَّهُمَّ اكفِهِ الحَرَّ والبَرْد )) ، فما اشتكى من عينيه ، ولا من الحَرِّ والبرد بعد ذلك أبداً .
فعَقَد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للإمام ( عليه السلام ) ، ودفع الراية إليه ، وقال له : (( قَاتِل ولا تَلتَفتْ حتى يَفتح اللهُ عليك )) .
فقال الإمام علي ( عليه السلام ) : (( يَا رَسولَ الله ، عَلامَ أقاتِلُهُم ؟ )) .
فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (( عَلى أن يَشهدوا أنْ لا إلَهَ إلاَّ الله ، وأنِّي رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك حَقَنوا منِّي دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها ، وحِسابُهُم عَلى اللهِ عزَّ وَجل )) .
فقال سلمه : فخرجَ والله يُهروِل وأنا خلفه ، نتَّبع أثره ، حتى ركز رايته تحت الحصن ، فاطَّلع إليه يهودي من رأس الحصن ، فقال : من أنت ؟ قال الإمام
(عليه السلام) : (( أنَا عَلي بنَ أبِي طَالِب )) .
فقال اليهودي : علوتم أو غلبتم .
وخرج إليه أهل الحصن ، وكان أول من خرج إليه منهم الحارث - أخ مرحب - ، وكان فارساً ، شجاعاً ، مشهوراً بالشجاعة ، فانكشف المسلمون ، وثَبَتَ الإمام علي ( عليه السلام ) ، فتضاربا ، فقتله الإمام عليٌّ ( عليه السلام ) ، وانهزم اليهود إلى الحصن .
فلما علم مرحب أخاه قد قتل نزل مسرعاً ، وقد لبس درعين ، وتقلَّد بسيفين ، واعتمَّ بعمامتين ولبس فوقهما مغفراً وحَجَراً قد أثقبه قدر البيضة لعينيه ، ومعه رمح لسانه ثلاثة أشبار ، وهو يرتجز ويقول :
قَدْ علِمَت خَيْبَرُ أنِّي مَرْحَبُ ** شَاكي السِّلاح بَطلٌ مُجرَّبُ
أطعنُ أحياناً وحِيناً أضرِبُ ** إذا اللُّيوث أقبلَتْ تَلتَهِبُ
فردّ عليٌّ ( عليه السلام ) عليه ، وقال :
أنَا الذي سَمَّتْني أمِّي حَيْدَرة (1) ** أكِيلُكُم بالسَيف كَيل السَّـندَرَة ** لَيثٌ بِغابَاتٍ شَديد قَسْـوَرَة
فاختلفا ضربتين ، فبدره الإمام علي ( عليه السلام ) فضربه ، فقدَّ الحَجَرَ والمغفر ورأسه ، حتى وقع السيف في أضراسه ، فقتله .
فكبَّر الإمام علي ( عليه السلام ) ، وكبَّر معه المسلمون ، فانهزَم اليهود إلى داخل الحصن ، وأغلقوا بابَ الحِصْن عَليهم ، وكان الحِصْنُ مُخَندقاً حوله ، فتمكَّن الإمام علي ( عليه السلام ) من الوصول إلى باب الحصن ، فعالجه وقلعه ، وأخذ باب الحصن الكبيرة العظيمة ، التي طولها ثمانون شبراً ، أي : أربعون ذراعاً ، فجعلها جِسراً فَعبر المسلمون الخندق ، وظفروا بالحصن ، ونالوا الغنائم ؟
ولما انصرَفَ المسلمون من الحصن أخذ الإمام علي ( عليه السلام ) الباب بيمناه ، فَدَحى بِهَا أذرعاً من الأرض ـ أربعون ذراعاً ـ ، وكان الباب يعجزُ عن فَتحِه أو غَلقِه اثنان وعشرون رجلاً منهم , وذلك في عام 25 / رجب 7 هـ .