عربي
Saturday 21st of December 2024
0
نفر 0

ملاحظات في السيرة الشعبية في العصر المملوكي

يمتزج في السيرة عالم الحقيقة وعالم الخيال امتزاجاً شديدا بحيث يصعب الفصل بينهما , فالسيرة لم تأخذ من الواقع شخصيات أبطالها التاريخيين فقط , بل استمدت الكثير من الشخصيات ودستهم في تضاعيف السيرة , فمن الانبياء نجد نوحاً (ع) وابراهيم الخليل (ع) ويوسف (ع) , ومن الخلفاء الرشيد والمعتصم , ومن الملوك كسرى أنوشروان والملك سيف أرعد , ومن الشخصيات الشهيرة بزرجمهر وعبد المطلب , ومن فرسا العصر الجاهلي عامر بن الطفيل واللقيط بن زرارة والحارث بن ظالم وعمرو بن ود العامري وعروة بن الورد وغيرهم . وفضلا عن ذلك تأثرت السيرة ببعض الظواهر في المجتمع العربي في العصر العباسي والمملوكي كظاهرة العيارين والشطار , وصورت السيرة العديد من الازمات التي حفل بها العصر العباسي عامة والعصر المملوكي خاصة , كالصراع على السلطة , وضياع سلطان العرب واستبداد الاشرار والظالمين بمقدورات الحكم , والصراع الافرنجي الاسلامي , والمغولي الاسلامي , وأزمات الجوع والفقر .
الا ان السيرة عرضت كل ذلك بعد توشيته بالكثير من الخيال , وتغليفه بالخوارق والعجائب من الامور , لأسباب فنية وسياسية واجتماعية , بل وتجارية , اذ كانت هذه السير تلقى القاء ,فتعمد الرواة ادخال كل ما يعجب ويدهش فيها لجذب المستمعين .
ولكن ليس في كل هذا ما يسئ الى فنية السيرة , بل نراها تحافظ على جمالية خاصة , وتعمل بشكل مميز يقوم اساساً على دلالة الحدث لا حقيقته الحرفية " فاستحالة حدوث الوقائع المروية , المتلاقية مع عدم التحديد الزماني والمكاني- فكل شئ يجري في البعيد ومنذ وقت طويل - تشير الى ان اياً من الشخصيات لم يتصرف فعلاً وان الحدث هو من نمط معنوي اخلاقي " .
وقد تفاعل رواد السيرة وانصارها مع الاحداث من هذه الزاوية , وفهموا معالم الحدث ودلالته الاخلاقية والنفسية , ورأوا فيها طرحاً لما يعانونه رغم قدم تفاصيله وسردها في قالب عجائبي , وهنا يكمن تألق السيرة الذي اخطأ الكثير فهمه وعدوه نقيصة في السيرة أضاعت قيمتها وخسفت نورها .
1- محاور السيرة :
توقفت كل سيرة عند حدث معين هو محورها الذي يرتكز اليه معظم أحداثها , لكن هذه الحقيقة لا تعني انفردا كل سيرة بأمر واحد تعالجه , فالسيرة عالم كامل غني بتفاصيل كثيرة يمكن مقاربتها من زوايا عدة , بل تشير هذه الحقيقة الى وجود محور اساسي يدفع السيرة من خط معين , والى جانبه تتراكم قضايا ثانوية أملتها فنية السيرة , وتطلع الرواة الى اغناء اعمالهم واعجاب مستمعيهم .وسنتوقف عند كل سيرة لنرى المحور الاساسي فيها .
أ - نشر الاسلام الصحيح :
في سيرة الملك سيف تفاصيل كثيرة , ولعل هذه السيرة من أكثر السير احتواء على العجائب والغرائب والاساطير , ففيها الجان والمردة , واساطير كثيرة تفسر ظهور مصر وجر النيل اليها , وظهور العديد من الاماكن والمدن كأسيوط وفارس كور , كما نلحظ فيها تأثراً واضحاً بألف ليلة وليلة , لكن المحور الرئيس هو نشر الاسلام الصحيح , اذ لا يقاتل الملك سيف أهل الكفر فقط , بل يتحقق من صحة الاسلام من يدعي الاسلام بوساطة سيف أصف بن برخيا وهو الهدية السحرية التي رصدها له وزير النبي سليمان (ع) ويفتك به بالانس والجان , فان كان أسلامه صحيحا لم يكن به من بأس , وان كان كاذباً أطاح السيف رأسه , فقد عرض الملك سيف الاسلام على الملك بحرشير شاه وملوكه التابعين الاربعين , فاخذه كل واحد وهزه حتى دب الموت في فرنده , فلم يحدث له اي شئ ولم ينله اذى , الى ان اخذه اخرهم في يده واراد ان يفعل كما فعل رفقاؤه , واذا بالحسام استوى وارتفع بالحيل والقوى , وارتفع الى الهواء , واسود والتوى ومال على الذي كان ماسك قبضته فأزاح رأسه عن جثته , فعلم الملك سيف بن ذي يزن والناس الحاضرون أن اسلام ذلك الرجل باطل, وما هو على حق اليقين .
ولعل هذه المسألة تعود الى زيف اسلام الكثيرين في العصر المملوكي وادعاؤهم الاسلام مع عدم ايمانهم الفعلي , اما المسلم الحقيقي فلا يقدر بثمن ز وقد عبر الملك سيف عن هذا الامر بقوله : " انا عندي اسلام الواحد منكم خير من كل اموال الدنيا " .
ان مسألة صحة الاسلام في السيرة مسألة مهمة , لأن الاسلام دين ودنيا , فمن لم يؤمن بشكل صحيح لم يعمل وفق تعاليمه , اما المؤمن الحقيقي , فانه يعمل وفق تعاليم الاسلام ومبادئه , ولعل الملك سيفاً هنا هو المسلم المثالي الذي لا يخالف الله في رعيته , ومن أبهر ما يلقانا في سيرة الملك سيف موافقته على زواج اخته عاقصة من خادم لوحه المطلسم عيروض , ورفض عاقصة ذلك الزواج واصرار الملك سيف عليه , الامر الذي يذكرنا بزواج زينب بنت جحش ( 20ه \ 641 م ) وزيد بن حارثة ( 8ه \ 629 م ) ربيب النبي (ص) اذ رفضت هذا الزواج لانها من أشراف قريش في حين ان زيداً عبد للنبي أعتقه ثم تبناه , وقد أبى اخوها عبد الله بن جحش ان تكوت أخته وهي قرشية هاشمية , وهي فوق ذلك ابنة عمة الرسول تحت عبد رق اشترته خديجة ثم أعتقه محمد ". فأصر النبي على ذلك الزواج , ففي الاسلام لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى , وأصر على أبرام الزواج ليحطم تلك الحواجز المصطنعة بين الناس .
ان هذا التشابه يرفع الملك سيف الى مرتبة تقارب او تشبه بمرتبة الانبياء , في نشر الاسلام وتطبيقه . فالطبقات الشعبية تريد حاكماً مسلماً اسلاماً صحيحاً , ويعمل على نشر هذا الاسلام الصحيح والفتك بكل المسلمين المزيفين والكفار الملحدين . فالاسلام قيم , وكذلك الكفر والايمان الزائف , وكل منها يشكل خلفية ينطلق منها الفرد في تصرفاته واعماله . ولذلك لم يكتف الملك سيف بفرض هذا الزواج على عاقصة , بل انطلق في رحلة مرعبة في انقاذ خادمه عيروض عندما أسر في كنوز النبي سليمان (ع) . فالحالكم المسلم العادل لا يأنف من المخاطرة في سبيل خادم , بل يعتبر نفسه مسؤولا عنه ومجبراً على أنقاذه , فالسيرة تطالب السلطان بالاهتمام بالطبقات الشعبية فمسؤوليته عن افقر الناس في شعبه لا تقل عن مسؤوليته عن كبار الامراء .
ب- الثأر من الظالم
ليس اختيار قصة الزير سالم وثأره لاخيه كليب مصادفة , بل هي فعل متعمد مدروس ومفهوم بطريقة معينة , هي الثأر من الظالم , فحيثما سرحنا النظر في هذه القصة التي مهدت لها هذه السيرة بحادثة ليست في سياقها التاريخي, وجدنا ظالماً متعدياً باغياً , وسعياً متواصلاً للثأر من هذا الظالم وقتله .
لقد بدأت هذه السيرة بظلم التبع حسان لربيعة والد كليب وقتله بدونسبب الا العظمة والهيمنة على كل ملك كبير .
فقام كليب وثأر من هذا الظالم الباغي وقتله وهو يقول :
" لابد من قتلك بحد الحسام حتى ترتاح الناس من شرك وتأمن عاقبة غدرك " .
لكن كليباً نفسه ما لبث ان لقي مصرعه على يد باغ اخر هو جساس بن مرة الذي انساق وراء اهواءه وحسده على ما يملكه, مع العلم ان كليباً ملك عظيم , ومن الطبيعي ان يمتلك الثروات والاراضي الجيدة . وتزيد السيرة فتصوره عاقلاً أريباً , يكلم جساساً برفق , ويخبره انه لم يعلم ان الناقة لضيفته " والله يا ابن عمي ما عرفت انها ناقة نزيلتك , ثم ذكر له سوء أدب الرعيان , وما فعلوامن الضرر في البستان , ومع ذلك فاني اعوض عليها بأربعمائة ناقة , واذا أرادت أكثر أعطيها , ولا يكون سبباً للنزاع والخصوم بيننا , فأننا اولاد عم وأصهار ".
ليس كليب في السيرة متعالياً ظالماً , كا هي حاله في الوقائع التاريخية بل هو رقيق القلب حنون يشفق على جساس عندما لاعبه بالجريدة وتغلي عليه , وأسال الدم من فمه وأنفه , اذ قال له كليب : " قم يا أبن العم , فان كنت لا تريد ان تلعب غير هذه الجريدة فأسرع واضربني بها فينهتي اللعب ". وقد اعترف العبد الذي ذبحه بعد ان طعنه جساس غدراً بنبل كليب وكرم اخلاقه اذ قال : " والله يا أمير ما تستحق الا كل خير , ويدي لا تطاوعني على ذبحك ".
ان كليباً مظلوم في السيرة تماماً , وجساس بن مرة ظالم ما في ذلك من شك , ولعل المقدمة التي سبقت حادثة قتل كليب , وما ذهبت اليه من ان البسوس بنت التبع حسان ,ليست الا محاولة جادة من الرواة لتبييض صفحة كليب وتأكيد ظلم جساس زدفع قصة حرب البسوس في الخط الذي يرمي اليه الرواة , وهو الظلم والثأر من الظالم , مهما طالت الأزمان وتعددت الأخطار .
وتحفل سيرة المهلهل بتعاقب الظلم والثأر من الظالم , فالملك حكمون الذي داوى طبيبه جراح المهلهل مظلوم ايضا , اذ تعدى عليه الملك برجيس الصليبي وهاجم بلاده بدون اي سبب او تعد من الملك حكمون , فبرز الزير سالم , رمز البطل المنتقم من الظالم القاهر له , بكسر جيشه بعد انتصاره اذ " تقدم الى صهيون اخو الملك حكمون وقال شددوا عزمكم وقاتلوا خصمكم, , ثم خاض في المجال وطلب المسيرة في الحال , وقاتل الابطال , فمدد أكثرها على الرمال , وتأخرت عنه الرجال , ورأت النصارى تلك الافعال فاعتراها الانذهال , وهجموا عليه من اليمين والشمال , فأبلاهم بالذل والويل , وقتل جماعة من فرسان الخيل ". وقهر جيشه وارغمه على طلب الصلح , وليس مصادفةان يكوت المعتدي صليبياً , فالصليبيون كانوا قد غزوا الشرق كله , وحازوا صفة الغزاة الظالمين ونقمة السكان المحليين . وفي اختيار شخصية برجيس بهذه الموصفات دعم لهدف السيرة الذي يريد التأكيد على ما سيلقاه الظالم , وعلى دحر الظلم وهزيمته .
ولا تكف السيرة عن رسم هذا الخط حتى بعد ان يقتل جساس الظالم المعتدي بعد زمن طويل على يد ابن كليب , اذ نجد الوزير نفسه , يقتل ظلماً على يد عبديه اللذين ضاقا ذرعاً به , لكن هذين العبدين لم يفلتا بجريمتهما اذ أدرك ولدا كليب الحقيقة ف" قبضا على العبدين وألقوهما تحت العذاب والضرب الشديد , فأقرا بأنهما قتلاه ودفناه , فقتلهما الجرو في الحال " .
فليست سيرة المهلهل قصة ثأر عادية , بل هي قصة الظلم الذي يضرب بقسوة , والثأر من هذا الظلم وان طال الزمن .
ج - التمهيد لظهور الاسلام :
في سيرة عنترة قصة حب كبير , حب خالد , حب عنترة وعبلة , وسعي ذلك الفارس الاسود للزواج من حبيبة قلبه , لكن عنترة حقق حلمه في الجزء الثالث من السيرة التي تبلغ ثمانية اجزاء , اي قبل منتصف السيرة .
وصورت السيرة بطولة عنترة ,فاذا هي بطولة أسطورية , فقال أخبر شيخ كبير عن فوة عنترة فقال : وحق الرب القديم ورب موسى وابراهيم , لقد سمعت عن عنتر انه مات في يوم خمس مرات , وقطعت رأسه سبع مرات , وعاش بعد الممات, وفرق القبايل التي كانت حوله من ساير المواضع " .
وقد قامت السيرة بوجيه هذه البطولة نحو خط واحد نظنه محور السيرة الاساسي , وهو التمهيد لظهور النبي (ص) .فالسيرة صورت الحياة الجاهلية بحروبها وغزواتها وفرسانها وأوثانها ولكنها أكدت على أيمان عنترة . وانه من علامات ظهور النبي . فقد روى بعض الرواة عن عنترة فقال : ما رأيته قط يسجد لصنم ولا هتك حرم , وما كان يحلف الا برب البيت الحرام , وما كان عنده يقين بظهور سيد المرسلين , ولما رجع من سفرته من بلاد الروم عند الملك قيصر ارسل وراء الراهب الذي في دير الصنم وقال له متى يغور الماء الذي في جزيرة الصافات ومدينة الواحات التي في جزائر الافرنج ؟ فقال : يغور ذلك الماء بعد ان يظهر فارس بني عبس الأدهم وشجاعها المعلم , ففي ذلك الوقت ينقطع لمع عيان وبعده يظهر المبعوث من أل عدنان , يكسر الاصنام والصلبان , ويبطل عبادة النار والأوثان. قال عنترة : ورب البيت الحرام انا أحق من يؤمن به " .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

خواطر جمیلة کتبها سید قطب من السجن لأخته
انشاد المناقب .
في رحاب نهج البلاغة (الإمام علي عليه السلام ...
صلح الحسن عليه السلام
المسيح.. في كربلاء
غزوة الطائف
المدن الشيعيّة في شبه القارّة الهنديّة
خلاصة تاريخ اليهود
الوهابية نازية العصر
مقامات أهل البيت عليهم السلام في سوريه

 
user comment