نَحل النبي ( صلى الله عليه وآله ) فدكاً إلى بضعته ، الزهراء ( عليها السلام ) بوحيٍ من الله و تعالى : ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ، (الروم : 38 ) ، سنة سبع من الهجرة ، و بقيت بيدها أكثر من ثلاث سنين ، فهل تغيَّرت حياة فاطمة الزهراء و الإمام علي ( عليهما السلام ) ، حيث أنَّ فدكاً كثير الغلاَّت ، وفيرة الثمار ؟
كلاَّ و ألف كلاَّ ، فلم يزل ذلك القرص من الشعير ، و لم يزل ذلك الملح أو اللبن .
و هناك سؤال يتبادر إلى الأذهان ، و هو : أين تذهب غلاَّت و ثِمار و أموال فدك ؟
و الجواب : لقد كانت تقسَّم على الفقراء و المحتاجين من المسلمين ، بينما الإمام علي و فاطمة ( عليهما السلام ) يعيشان حياة الزهد ، و العزوف عن الدنيا ، و زَبَارِجِها ، و بَهَارِجها .
و هنا تتبادر أسئلة أخرى : لماذا استولى عليها الحُكَّام ، و منعوا من استمرار إنفاق ثمارها في سبيل الله ؟ و من انتفاع الفقراء و المحتاجين لها ؟
و لماذا هذا الإصرار من الزهراء و الإمام عليٍّ ( عليهما السلام ) بمطالبتهما بأموال بني النظير و فدك و سهم خيبر ، و بإرث فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من أبيها ، و غير ذلك ؟
فهذا الإصرار على تحدِّي السلطة في إجراءاتها الظالمة ، و مغاضبة الزهراء ( عليها السلام ) للغاصبين حتى توفِّيَت ، حيثُ أوصَتْ أنْ تُدفن ليلاً ، كل ذلك يجعلنا نتساءل عن السرِّ الكامن وراء تلك المطالبة ، و ذلك الإصرار.
و لعلنا نستطيع ، أن نستلْهِمَ من ذلك دروساً و عبراً للحياة ، منها :
1 - إنَّ انتصار الحق و تأكيده ، و رفض الباطل و إدانته ، مِن المُثُل الإسلامية العُليا ، التي سَعَى النبي ( صلى الله عليه وآله ) و الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) إلى تثبيتها في المجتمع الإسلامي ، و التأكيد عليها في مختلف ظروف الحياة الإسلامية .
فكانت هذه المطالبة شُعلة وَهَّاجَة ، تُنير الدرب أمام المظلومين المغصوب حقَّهم ، و تحرق بوهجها ، و شَرَرِها الحُكَّام الظالمين على مَرِّ الأيام و الدهور .
فاطمة (س)
2 - إن موقف فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في هذا الظرف الحَرِج ، و احتجاجاتها بالدستور الإسلامي ، القرآن الكريم ، و استشهادها بالصحابة ، يبيِّن مَدَى الانحراف الخطير ، الذي حدث بمسيرة الإسلام و المسلمين ، بعد وفاة الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .
فحاولت الزهراء و علي ( عليهما السلام ) ، تحييد هذا الانحراف و تعديله منذ لحظاته الأولى ، و كان هذا واجبهما أمام الله و المجتمع ، سواء أعادَ الحقُّ إلى أصحابه أو لم يعد .
3 - إن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، أعطَتْ درساً لكُلِّ المسلمين من وجوب قول الحق ، و الوقوف بوجه الحاكم الغاصب و الظالم ، و أنَّه ليس بمنأىً عن الحساب و العتاب و العقاب ، و ليس فوق القانون شيء .
و أنَّ الحاكم موجود لِحِماية القانون ، و الالتزام بما يفرضه الشرع عليه من التزامات في نِطاق موقفه ، و منصبه هذا.
4 - إن الاعتراض وا لمطالبة بالحق و العدالة ليسَتْ من اختِصاص الرجال ، بل من اختصاص كُلِّ شرائح المجتمع ، بما فيه
النساء ، لأنَّهُنَّ عنصر من عناصره .
5 - إن المطالبة بالحق ، و الانتصار لله تعالى ، ليس مشروط بإمكانية الحصول على الهدف ، و إنما هو تسجيل موقف عقائدي مرتبط بالتصدِّي للانحراف ، و مطالِبٌ بتصحيح الأخطاء ، و مُنبِّه لِمَن غفل أو تغافل عن هذا الانحراف .
و كذلك هو إظهار مواقف كلا الطرفين ، من الظالم و المظلوم ، و صاحب الحق و مغتصبِه ، و الحاكم و الرعيَّة ، فإظهار مواقف الطرفين على حقيقتها أمام المجتمع ، تؤدِّي إلى تثبيت أُسُس الحقِّ و العدالة ، و تنوُّر فِكر الرعيَّة ، حتى لو كان الظالم شاهراً سيفَه ، أو مفرِّقاً أمواله لشراء العقول ، فإن العقل ، سيحكمُ ولو بداخل نفسه ، و تحت أستار ستائره ، بالحق و العدل .
6 - إن فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، معصومة بِنَصِّ القرآن الكريم ، بالآية الشريفة التي نقَلَها الفريقان : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، (الأحزاب : 33 )، و من غير المُمكن ، أن تطالِب الزهراء بِحقٍّ ليس لها ، لأنَّ ذلك ينافي العصمة ، و غيرها غير معصوم ، و هذا يعني أن كلامها ( عليها السلام ) حُجَّة ، يجب الالتزام به ، و كلام غيرها ادِّعاءً ، و ليس بِحُجَّة .
فاطمة (س)
و أنَّ غضبَها ، و سخطَها ، غضبُ و سخطُ لله تعالى ، و لا يُخفَى أنها ( عليها السلام ) ماتت ، و هي واجدة و غاضبة على أولئك الذين أخذوا حقَّها ، و استأثروا به دونها .
و حينما أرادوا زيارتها في مرضِها ، الذي استشهدت فيه ، فإنَّها لم تجب بالقبول ، بل قالت للإمام علي ( عليه السلام ) : ( البيتُ بيتُك ، و الحُرَّة زوجتُك ، اِفعل ما تشاء ) .
وحينما دخلا عليها ، و حاولا استرضاءها ، و بكيا لديها ، أوضحت ( عليها السلام ) ، أنها غير راضية عليهما ، و أنهما أغضباها .
و لا زالت ( عليها السلام ) غاضبة ساخطة عليهما ، لأنها تعرف أنَّهما بَكَيا للتأثير عليها عاطفياً ، و ليس عن تراجع عن موقفهما ، أو تقديم تنازُلات واعتذارات منهما .
و معنى ذلك إنهما ، أرادا استرضائها ولو لَفظياً ، أو الإظهار للناس بأنها راضية عنهما ، و أنها قد استقبَلَتْهُما ، فهي مُقرَّة على أفعالهما ، و قد طابَت نفسُها عن فدك ، و عن حقوقها المغتصَبَة الأخرى .
لكن وصيَّتها بأن تُدفَن ليلاً ، و من ثم تنفيذ هذه الوصية من قبل الإمام علي ( عليه السلام ) قد فوَّت الفرصة ، و سدَّ السبيل على كل مُفترٍ مدافع عن الباطل ، و مبرِّرٍ للأفعال اللاأخلاقية ، التي تتابعت على الزهراء ( عليها السلام ) .
و لمْ يبقَ لديهم من سلاح إلا الطعن بالطاهرة بنت المصطفى ( عليها السلام ) ، و الانتقاص من شأنها ، و عدم الاعتناء بها ، و النيل من مقامها ، من أمثال قولهم : مَالَنَا و النساء ؟ و كذلك ردُّ طلبها ، و تمزيق كتابها ، و عدم الاعتناء بما تقوله ( عليها السلام ) ، و مطالبتها بالشهود ، و إلخ .
source : www.tebyan.net