يتحدث القرآن عن دور النبي في حياة الأمة، ودور الأمة في رسالة النبي، ومدى انجذابها إلى هذه الرسالة وتعاليمها، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} في حضورك الرسالي الحركيّ المتطلع إلى مواقع الاستجابة أو الرفض لك ولرسالتك، ما يجعلك في مقام من يستطيع تأدية الشهادة أمام الله غداً في ما بلّغتهم إيّاه، وما واجهوه به من رد إيجابي أو سلبي. وهكذا يتحوّل الحضور الرسالي النبويّ إلى موقف للشهادة الحيّة المنفتحة على الواقع كله، والمسؤولة عن تقديم التقرير الكامل عنه إلى الله،{وَمُبَشّراً} المؤمنين بالجنة إذا حركوا العمل الصالح في خط الإيمان، {وَنَذِيرًا} لهم بعذاب الله، وذلك {لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ} أيها الناس في ما يقدّمه إليكم من دلائل الإيمان بالله وبيّنات الهدى {وَرَسُولِهِ} في ما يعرّفكم من مواقع الصدق في دعوته، {وَتُعَزّرُوهُ} أي تنصروه، على أساس أن التعزير يحمل معنى النصر، {وَتُوَقّرُوهُ} أي تعظّموه،{وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} لتعبّروا ـ بالتسبيح ـ عن إحساسكم الداخلي بكل مواقع عظمته، ليكون التسبيح بداية اليوم الذي تستقبلونه، وبداية الليل الذي تلتقون به.
عظمة أخلاق الرسول(ص)
لقد بعث الله الرسول ليفتح عقول الناس وقلوبهم على الحقّ، ويمهّد لهم سبيل الوصول إلى ما يقرّبهم من الصلاح ويبعدهم عن الفساد، ويدعوهم إلى إتباع سبيل الهدى ودين الحق، ليهيمن الإسلام على الواقع ويسيطر على كل طروحات الباطل ذات العناوين الدينية أو غير الدينية، بحيث يصبح في عقلانية عقيدته وواقعية شريعته وتوازن منهجه، هو الطرح الأفضل والأرقى، بحيث يكون الله شاهداً على الدين كله وعلى صدق الرسالة والرسول.
هذا الرسول الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليس أي إنسان اتفق، بل صاحب خلق عظيم، وهذا ما عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} في رحابة صدرك، ورأفة قلبك، ورحمة إحساسك، ولين كلامك، ورقة شعورك، وحرصك على من حولك، وحزنك عليهم لما يتعرضون له من الآلام وانفتاحك على كل الناس، من أصدقاء وأعداء، بالكلمة التي هي أحسن، والأسلوب الذي هو أفضل، والنصيحة التي هي أقوم، والبسمة التي هي أحلى، والعطيّة التي هي أغلى، والروح التي هي أصفى، والقلب الذي هو أنقى، والقوّة في غير قسوة، والرفق في غير ضعف، والصبر في غير خوف، والتواضع في غير ذل، والعزة في غير كبر.. وهكذا كان الرسولَ الذي تتحرك أخلاقه في عمق رسالته، وتنطلق إنسانيته في ساحة مسؤوليته، وتلتقي شخصيته بكل الآفاق الرحبة في أبعاد حركته.
وبهذا كان التجسيد الحي لكل أخلاقية الرسالة، حتى تحول إلى قرآنٍ يتحرك بين الناس، ليقدم الفكرة بالكلمة، ويعمق الكلمة بالقدوة، فكانت كلماته رسالةً، وكانت أفعاله شريعة، وكان سكوته عما يراه ويسمعه وتقريره له ديناً يدان به، وكانت عظمته في خُلُقه المنفتح على الناس هي نفسها عظمته في نفسه وفي خلقه الرساليِّ الروحيّ في خشوعه لربّه، في كلّ نبضةٍ من نبضات قلبه، وكلّ همسةٍ من همسات روحه، وكل دمعةٍ من دموع عينيه، وكل ابتهالٍ في سبحات الصلاة والدعاء من ابتهالات وجدانه.
الرّسول رمز حيّ للرسالة
هذا الرسول الذي يتسم بالخلق العظيم، ويحمل الرسالة التي تهدي إلى الحق تؤكد رسالته على مبدأ البشرية في شخصية الرسول، فإن اتصاله بالله وصلته بالسماء، لا يعطيه أيّة خصوصيةٍ من خصوصيات الألوهية، ليكون في ذاته سرّ الألوهة، بل يظل في موقع الإنسان الذي يتلقى الوحي من خلال ما يملكه من روحية الرسالة في ذاته، ومن آفاقها الفكرية في عقله، ومن أخلاقيتها السامية الرفيعة في أخلاقه... وتلك هي خصوصية الرسالة، فهي لا تعبر عن أسرارٍ عميقةٍ غامضةٍ في شخصية الرسول، بل تعبر عن التناسب بين شخصيته وشخصية الرسالة، ليكون التجسيد الحيّ لكل مضمونها الفكري والعملي والروحي، ولتكون هي التعبير الحي عن كل صفاته وآفاقه وتطلعاته.. لتظهر الصورة في هذه الوحدة بين الرسالة والرسول، الأمر الذي يجعل اتباع الرسول حركةً واقعيةً في الاتصال بالله واللقاء برضوانه، ما يجعل من العلاقة به علاقةً برسالته، لا لوناً من ألوان الاستغراق في شخصيته والارتباط بذاته، لأن الله لا يريد للناس أن يلتقوا بالرسول من خلال ذاته، بل من خلال أنّه يمثل الرمز الحيّ للرسالة، ليبحثوا في ذاته عن عناصر الرسالة في فكره وروحه وجهاده المتحرك في أكثر من اتجاهٍ.
وعلى هذا الأساس كان الرسول(ص) يمثل الأسوة والقدوة للذين كانوا يرجون الله واليوم الآخر، وهذا ما يتمثل في قوله تعالى:{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} في ما يأخذ به أو يدعه من الأفعال والمواقف، لأنه الإنسان الذي تتمثل فيه الصفات المثلى للكمال الإنساني، فقد ربّاه الله التربية الفضلى وأدّبه الأدب العظيم، وصاغ شخصيته أفضل صياغة. وبهذا كان التجسيد الحي للإسلام في كل ملامح ذاته في الجانب الداخلي منها، في ما يحمله في فكره وقلبه وشعوره من طهر الفكرة، ونقاء القلب، وصدق الشعور، وإخلاص النيّة، وفي الجانب الخارجي منها، من الإخلاص لله والعمل بطاعته، والجهاد في سبيله، والإحسان إلى الناس، والصدق في الدعوة، والصبر على آلامها، والانفتاح على الحياة كلها من موقع الرسالة الباحثة عن الخير في كل صعيد، وعن الحق في كل أفق، وعن العدل في كل مجتمع، لتؤكد القيم الأخلاقية الإنسانية الروحية من خلال المعاناة، وليكون رضاه في ما يرضاه الله، وسخطه في ما لا يرضيه، ما جعل عمله سنّةً وشريعةً، كما كان قوله مصدراً لذلك.
وهذا هو الذي خاطب الله به المسلمين الذين كانوا معه، ليعتبروه أساساً لسلوكهم الإيماني وخطهم الإسلامي، بأن يتطلعوا إليه ليرصدوه في كل عمله، لتكون صورتهم صورته، يتأسّون به، ويقتدون به في مواقفه وسجاياه.
وتلك هي ميزة الرسل في شخصيتهم النبويّة، أنهم لا يمثلون الرسالة في الكلمة فقط، بل يجسِّدونها في الموقف، فيرى الناس صورة القيمة الإسلامية في الواقع، كما يسمعونها في الكلمة. وقد كان رسول الله إسلاماً يتحرك على الأرض، فيفهمون الدعوة في سلوكه بعد أن يسمعوها من قوله، ما يوحي لهم بأنها ليست فكراً مثالياً يعيش في عالم المثال وفي آفاق الخيال، بل هي فكر متجسّد في الواقع العملي من شخصية الداعية.
وقد رأى بعض العلماء في هذه الآية إيحاءً بعصمة الرسول(ص)، لأن الله لا يجعل إنساناً قدوةً مطلقة في كل عمله إلا إذا كان عمله صورةً للحق، ومطابقاً للصواب.
وهكذا كانت هذه الآية خطاباً للمسلمين الذين كانوا يجتمعون حول الرسول ويتصرفون بحرّية الذات المشدودة إلى مزاجها، الباحثة عن رغباتها، الغارقة في شهواتها، بعيداً عن المسؤولية في خط الرسالة، وبعيداً عن الجهاد في سبيل الله، فيهربون عندما تبدو أمامهم مواقع الخطر، ويسقطون أمام تحديات العدو.
إنها تريد أن تشدّهم إلى صورة النبي محمد(ص) في ثباته في جهاده، وإخلاصه لربه وقوته في مواجهة العدو، واستهانته بالأخطار المحدقة به، وفي موقفه الصابر في معركة الأحزاب، عندما كان يشجع المسلمين على الثبات، ويشاركهم في حفر الخندق، ويشدّ حجر المجاعة على بطنه، ويبقى في خط التقدم الأوّل، حتى لا يكون أحدٌ أقرب إلى العدوِّ منه.
إنها تريد أن تقدِّم لهم هذه الصورة؛ النموذج الأعلى للإنسان الرسالي الثابت في خط الرسالة، المتحدي في مواجهة العدوّ، ليزدادوا قوّةً بقوته، وليستمدوا من إخلاصه إخلاصاً، حتى يكونوا في مستوى التحديات الكبيرة في المعركة، ليكون لهم النصر من خلال هذا الموقف الحاسم القويّ في مواقع الإيمان.
إنه خط القيادة القدوة الذي تسير فيه القاعدة الجماهيرية من الأمة، ولكن الذين يلتزمونه، هم الذين انفتحت قلوبهم على الإيمان بالله، وعاشوا الإخلاص له، ورغبوا في ثوابه، وخافوا من عقابه، وذكروه في السرّ والعلانية، فلم يغب عن أفكارهم، ولا عن ألسنتهم، لأنهم وحدهم الذين يفهمون معنى الرسالة في معناه، وسرّ الإيمان في سره، ولذا كان رسول الله(ص) يرغب في رضى الله، ويهتدي بهداه، ويقتدي برسله {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} فكان معه في كل أحواله، حتى لم يغفل عنه في أيّة لحظة، في كل مواقع المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمعاناة.
وهكذا كانت هذه الصورة، هي صورة المؤمنين الملتزمين المخلصين الذين صدّقوا بالله ورسوله، وجاهدوا في سبيل الله من موقع الصدق، لم يخالطهم شكٌ أو ريبٌ في ما هم فيه، ولم تعرض لهم شبهةٌ في ذلك كله.
لقد كان خلق الرسول(ص) عظيماً، بحيث تحوّل إلى تجسيد عمليٍّ في حركة رسالته، في ما يختزنه من عمق الرحمة القلبية التي كانت رحمةً من الله لهم، في ما تمثل به أسلوبه من اللين في الكلمة والنظرة والمعاملة المنطلقة من الرقّة في المشاعر القلبية، وعمل على أن يضع عن الناس الأثقال التي أثقلت حياتهم، والأغلال التي كانت تكبّلهم. وهكذا، أرادنا الله أن نجعله القدوة كما التزمناه نبياً في إبلاغ الرسالة، ما يفرض على الدعاة إلى الله أن يعيشوا الروح النقية الطاهرة كما عاشها في انفتاحه بالرحمة على الناس كلهم.
العلاقة الرسالية بخاتم النبيين
لم تكن العلاقة بين النبي(ص) والمؤمنين تقوم على النسب، وهذا ما يستوحى من قوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ}، بل هي علاقة الرسالة، {وَلَـكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} فلا بد له من أن يتحرك معهم من هذا الموقع، وفي هذا الخط، ولا بد لهم من أن يرتبطوا به من خلال هذه الصفة، فتكون علاقتهم به علاقةً رسالية، ليتطلعوا إلى صفاته الرسالية قبل أن يتطلعوا إلى صفاته الشخصية، ولا يكون النسب أساساً للتقييم في ارتباطهم به فيمن يتصلون به بصلة النسب، بل يكون العمل المرتبط برسالته هو الأساس في معنى القيمة في حياتهم.
أمّا صفة خاتم النبيين، فالظاهر أن المراد بها أنّه هو النبيّ الذي يختم خط النبوّة الذي ابتدأ من آدم، لينتهي به، وقد ورد ذلك، في ما روي عن جابر بن عبد الله عن النبي محمد(ص) قال: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأتمها وأكملها إلاَّ موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللبنة، قال رسول الله(ص): فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء، أورده البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وهناك رواية أخرى رواها السيوطي في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي عبد الرحمن السلميّ قال: كنت أقرىء الحسن والحسين، فمر بي علي بن أبي طالب وأنا أقرئهما، فقال لي: أقرئهما {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} بفتح التاء.
والرواية الأولى أقرب وأشهر، لأن التعبير عن النبي بأنه خاتمهم بمعنى زينتهم، كما هو الخاتم من مظاهر الزينة، غير مألوف ـ على الظاهر ـ والله العالم.
{وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً} وهو الذي يبلغكم ما علمه، فانفتحوا على آياته وانطلقوا مع كل ما يبينه لكم من أمور معاشكم ومعادكم.
بين دور القيادة ودور القاعدة
ويوحي إلينا الحديث عن أتباع الرسول في معرض الحديث عن الرسول نفسه، أن الله يريد أن يثير أمامنا قاعدةً رسالية تطال علاقة القيادة بالقاعدة، وهي أن القيادة لا تلغي دور القاعدة، ولا تأثيرها في عملية صنع القوّة وتحريك النصر، فالقيادة ليست هي كل شيءٍ، ليكون الدور كله لها، بل إن للقاعدة دوراً يتأكد على أساس التكامل مع القيادة، والتفاعل مع حركتها، والاندماج بأخلاقيتها الرسالية، ليشكلا معاً مجتمعاً موحداً.
هذا ما ينبغي لنا أن نتمثله في وعينا الحركي في خط الرسالة، فلا نستغرق في الشخص إلا من خلال الفكرة التي يحركها ويقود الحياة من خلالها ويطلّ من نافذتها على الآخرين، بحيث يكون الشخص بطل الخط ولا تكون الرسالة خط البطل.
وضوح الخط وشروط النصر
هذه العلاقة بين الرسول(ص) والناس، إنما تكون من خلال الاقتداء بالرسول(ص) والتآسي به لأن الله أرسله بالهدى ودين الحق، وهذا ما نتمثله في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقَِّ} فهو دين الهدى الذي يقود الناس إلى الغايات الكبيرة التي تؤكد إنسانية الإنسان في الآفاق المشرقة من الحياة، وهو دين الحق «الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه» {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، فتكون له القوة والسيطرة والامتداد، بجهاد المجاهدين ودعوة الدعاة، في ما يريد الله له أن يتحرك فيه من الوسائل العملية الطبيعية المؤيدة بألطاف الله وفيوضاته، بما يكفل له الحضور الكبير المميز المنفتح على كل مواقع الدين والفكر في الحياة، بالرغم من الظروف الصعبة القاسية التي يمكن أن تحيط به وتحاصره، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} الذين وقفوا ضد دعوة التوحيد بأضاليلهم وأباطيلهم، ثم انكفأوا وسقطوا، وامتد الإسلام إلى كل الجزيرة العربية، وانطلق فاتحاً داعياً إلى كثيرٍ من بقاع العالم، وما زال يفرض نفسه على الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي والأمني في أكثر من موقعٍ.
وإذا كان الله يريد أن يتم نوره بإظهار دينه على الدين كله، وإذا كنا نعرف أن الله لا يريد لهذا الهدف أن يتحقق بطريقة المعجزة، بل بالوسائل القرآنية التي أكدها في كتابه، كالدعوة والجهاد والعمل السياسي المتحرك في خط تثبيت قواعد الإسلام في الحياة، في ساحات الصراع، فلا بد للمسلمين من أن يتحملوا مسؤولية السعي من أجل تحقيق هذا الهدف، بعيداً عن كل القوى المحيطة بهم في ما يمكن أن ترضى أو لا ترضى به، لتكون المداراة والمجاملة أو الخوف أساساً للامتناع عن طرح الإسلام في مجالات الدعوة أو الحركة أو الثورة أو الدولة كعنوان للفكر وللعمل، كما يفعله الكثيرون من محاولات الاختباء وراء بعض الأقنعة التي تحمل مدلولاً فكرياً يختلف عن المضمون الإسلامي، كالديمقراطية والاشتراكية ونحوهما مما حفلت به الأوضاع السياسية في المرحلة المعاصرة، حتى عادت واجهةً للسياسة الحركية، بحيث يمكن للناس أن يتقبلوها أكثر مما يتقبلون الإسلام الذي تحول بفعل الدعاية المضادة إلى عنوانٍ قديمٍ من عناوين التاريخ التي لا تصلح لمعالجة شؤون الحاضر.
إنّ المسألة عند هؤلاء هي أنهم يرفضون السير في الاتجاه الإسلامي الصريح، لأنّ الكافرين يكرهون ذلك، فلا يمنحونهم رضاهم، ولا يؤكدون لهم مواقعهم في ذلك كله.
الرسول الأمي
لقد اختلفت الأقوال والآراء في معنى كلمة الأمي، فمنهم من رأى أن المراد من الأميين مطلق العرب، لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون، في الغالب، وربما كان المراد بهم حسب التعبير اليهودي عن غيرهم من الأمم أنهم «جوييم» باللغة العبرية، نسبة إلى الأمم الأخرى، باعتبار أنهم شعب الله المختار. وربما كان المراد بهم أهل مكة نسبة إلى أم القرى. وقد يكون الوجه الأول أقرب إلى الاعتبار لوجوه عدة. {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ} ليستمعوا إليها ويتفهموها، وينفتحوا من خلالها على الأبعاد الواسعة للمفاهيم العامة التي تفلسف لهم نظرية الإسلام عن الألوهية والتوحيد وعن حركة الكون والحياة، وتقودهم إلى التعرف على المدخل إلى مواقع التغيير في صنع الإنسان الجديد، {وَيُزَكِّيهِمْ} بالنفاذ إلى أعماق مشاعرهم ليطهرها من كل الرواسب العفنة التي عششت فيها من خلال عصور التخلف، ومن كل الوحول الفكرية التي تجمعت في داخلها، من مواقع الجاهلية، ليكون الإنسان هو الإنسان النقي الصافي الذي ينمو في مشاعره، كما ينمو في أفكاره وروحيته بين يدي الله في أرضٍ خالصةٍ من كل الشوائب التي تُعطّل عملية النمو، أو تُحوِّل الزرع إلى عناصر مشوهةٍ لا تنتج إلا النتاج الرديء.
وعلى ضوء ذلك، فإن دور الرسول هو تحريك المفاهيم الإسلامية في عملية تغيير الواقع الداخلي للنفسية العامة للأمة في ما توحي به كلمة «التزكية»، من أجل أن يكون الإنسان المسلم هو الإنسان الفاعل الذي ينمو ويتطور في اتجاه الخير والبركة للحياة، كوسيلةٍ عمليةٍ لتغيير الواقع الخارجي للحركة العامة للأمة، وذلك بالوسائل الواقعية المتحركة بالقدوة الحسنة، والتعويد على الأخلاق الحسنة والسلوك المستقيم.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} في ما يمثله الكتاب من المضمون الفكري والشرعي والمنهجي على صعيد النظرية الإسلامية العامة، وفي ما توحي به كلمة الحكمة من تحريك المضمون في خط التطبيق العملي، بحيث يتحول الإنسان إلى شخصٍ يفكر بواقعية وحكمةٍ، فيزن الأمور بموازينها، ويضع الأشياء في مواضعها، في ما هو التوازن بين النظرية والواقع، ما يجعل العلم منفتحاً على حركة الواقع في حياة الإنسان، ويجعل الواقع منفتحاً على الكتاب في مسألة الوعي الحركي على أساس المفاهيم القرآنية الجديدة التي تدخل الروح في المضمون المادي فيتروح، وتدخل الحس في المضمون الروحي فيعيش مع أجواء الحس، في ما يحدثه من تغيير في مفاهيم الإنسان.
لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون الجهل والتخلف والعصبيات الضيقة، وهذا هو قوله تعالى:{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} كما عبر عن ذلك جعفر بن أبي طالب ـ في ما روته كتب السيرة ـ في خطابه للنجاشي: «أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهليةٍ نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفته، فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..».
وليس معنى ذلك أن العرب لا يملكون شيئاً من الأخلاق الحسنة والعادات الجيدة، فقد كانت لهم قيمهم السامية، وعاداتهم الحسنة، ولكنهم لم ينطلقوا في ذلك من قاعدةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ واسعةٍ من خلال نظرةٍ شاملةٍ للإنسان في دوره في الحياة وموقعه من الله، ودوره في عبادته، وتوحيده له، ورفضه للتخلف في نوعية العقيدة وحركتها في وجدانه، مما سهل للتفاهات الفكرية أن تنفذ إليه وللضلالات الروحية أن تحكم وعيه، وللأهواء الضالة الفاسدة أن تسيطر على مشاعره، بحيث تحولت شخصيته إلى قطعٍ متناثرة، تأخذ من كل موقعٍ قطعة، من دون أن يكون هناك أي نوعٍ من الترابط فيما بينها، بحيث تمثل كلاً متكاملاً مترابطاً في وحدةٍ فكريةٍ أو روحيةٍ شاملةٍ. وهذا هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الضلال لأنه يفقد الميزان الذي يزن به صحيح الأمور وفاسدها، والقاعدة التي يرتكز عليها خط حياته في ما يحكم البداية والنهاية.
إن قيمة النهج الإسلامي في تربية الإنسان، أنه يؤكد على الوحدة الفكرية التي تتفرع عنها كل القضايا، بحيث تلتقي عندها وحدة الشخصية في نطاقها العملي. وهذا ما استطاع أن يجعل من المسلمين أمةً ذات أبعادٍ ثقافيةٍ وروحيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ في مستوى حركة الإنسان في العالم.
هذه التربة الإسلامية السامية لم تقتصر على الجيل الذي عاصر الإسلام من العرب، بل يمتد إلى الذين دخلوا الإسلام بعدهم من الأجيال السابقة، {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} وقد تحدثت بعض الروايات أنهم الفرس، في ما رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي (صل) حين أنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على رأس سلمان الفارسي وقال:والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لناله رجالٌ من هؤلاء. ولكن الظاهر ـ على تقدير صحة الرواية ـ أن المراد بيان النموذج من الأمم الأخرى أو الأجيال الأخرى، لأن الآية تتحدث عن امتداد الرسالة في المستقبل الذي يحتضن الناس الآخرين من بعدهم. ويؤكده ما روي عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله (ص): إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجالٍ رجالاً من أصحابي ونساءً يدخلون الجنة بغير حساب، ثم قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ}.
بين الإبلاغ والحاكمية:
ويذكرنا القرآن أن دورنا في التآسي بالرسول(ص) والاقتداء به إنما يكون عن طريق تكوين القناعة وإقامة الحجة وليس عن طريق السيطرة كما في قوله تعالى:{لست عليهم بمسيطر}
وقد يلتبس على البعض من الباحثين أن هذه الآية تفيد أن دور النبي هو الإبلاغ والدعوة إلى الله بالكلمة الواعية المذكِّرة، ليأخذوا حريتهم في الإيمان والكفر، ليكون حسابهم على الله، وليس دوره أن يكون حاكماً يتدخّل في قناعات الناس ليحاسبهم عليها، وفي أقوالهم وأفعالهم ليضغط عليهم بوسائله الخاصة والعامة، لينسجموا فيها مع تخطيطه الرسالي في ما يأخذ به الناس من الخطّ في حركة القول والفعل، أو في ما يدّعونه منه. وبالتالي، فإن دور الإسلام من خلال دور الرسول هو دور دعوةٍ، لا دور حكومةٍ وسلطةٍ، فليس للإسلام نظرية في الحكم الذي يتولى السلطة التنفيذية إلى جانب السلطة التشريعية.
ولكننا نلاحظ على ذلك بأنّ هذه الآية عالجت مسألة السيطرة في دور النبي كرسول، في ما يملك من أمر الضغط الذاتي الذي يسيطر فيه على عقولهم ليغيّرها بطريقةٍ ذاتيةٍ تكوينيّة، كما يغيّر الأشياء المادية من صورةٍ إلى صورةٍ، ولم تعالج دوره كحاكمٍ وكوليّ للناس في خط النظام العام الذي يدير به أمر الأمة في كل جوانب حياتها، على ضوء التخطيط الشامل للشريعة الإسلامية التي شرّعت لكل واقعةٍ ـ مهما كانت صغيرةً ـ حكماً شرعياً ينظم لها حركتها في الحياة. ولا بدّ للباحثين الذين يريدون دراسة مسألة الحكم في الإسلام، على مستوى اكتشاف النظرية، أن لا يكون أسلوبهم هو اختيار ما يناسبهم من الظواهر القرآنية، بل عليهم أن يدخلوا في دراسةٍ مقارنةٍ لكل الآيات والأحاديث وحركة التاريخ الإسلامي، ليناقشوا ذلك كله، لتكون النتائج في حجم الحقيقة الموضوعية المدروسة من كل جوانب البحث المحتملة فيها.
وإذا كانت الآية تؤكد أن مهمّة النبي الإبلاغ والتذكير ليكون هذا برنامجاً لكل الدعاة معه ومن بعده، فإن معنى ذلك أنّ عليه وعليهم الاهتمام بتحسين وسائل التذكير، وتحريك ظروفه في الخط الموصل إليه، ثم الإيحاء إليه، وإليهم، بأن عليهم أن لا يتعقّدوا من النتائج السلبية التي تحصل من خلال الأسباب التي لا تقع تحت اختيارهم، في ما يمثله الجمود الفكري، الذي يصرّ أصحابه على الامتناع عن الخروج عنه، أو الرواسب التقليدية التي تشد الناس إليها، فلا يريدون أن يبتعدوا عنها، وإلى المتغيرات الفكرية المنطلقة من خط الرسالة والرسول. إن القضية التي تحكم الدعاة إلى الله، هي أن لا يكون ضلال الآخرين ناشئاً من تقصيرهم في الدعوة، ومن إهمالهم للفرص المتاحة لهم، ومن البعد عن الأخذ بأسباب الثقافات والأساليب التي يمكن أن تحتاجها الدعوة.
وهنا نرى أن الله سبحانه وتعالى يريد لعباده أن يعرفوا رسالته من خلال النبي، كما في قوله تعالى{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} وذلك لكي يحددوا موقفهم منها على حسب تأثرهم بها، أو تمرّدهم عليها. وإذا كان الرسول يحبّ لرسالته أن تتأكد في عقول الناس وضمائرهم وتتحرك في حياتهم، فيتألم لابتعادهم عنها وتكذيبهم له، فإن ذلك لا ينطلق من شعوره بالتقصير في مهمته، لأن مسألة الهداية الواقعية لا تتصل بالرسول وحده، بل تتصل ـ إلى جانب ذلك ـ بالناس وبالظروف الموضوعية المحيطة بهم، وإنما ينطلق من إحساسه الذاتي الرسالي بإشفاقه على الناس الذين يمثل انحرافهم عن الرسالة انحرافاً عن مصلحتهم في الدنيا والآخرة.
العلاقة بين الرسول والغيب
ويركز القرآن على أن الرسالة الإسلامية تحركت في الخط الذي تحركت به رسالات الأنبياء السابقين، كما أن دوره هو دورهم في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس لهم أن يفرضوا ما توحي به خيالاتهم وأوهامهم، من دورٍ للنبي وشخصيته وقدرته على تغيير الواقع الكوني وحركة الكون ونظامه، فليس لذلك أيُّ موقع في ساحة الحقيقة الرسالية،{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} فلست ـ في ما أملكه من طاقة المعرفة ـ أعلم الغيب، لأن للغيب أدواته وأسبابه ووسائله التي لا أملكها بصفتي الذاتية كإنسان، ولا بصفتي الرسالية كنبيّ في ما تفرضه طبيعة الرسالة من دورٍ للرسول، لأن الرسول يتحرك على ضوء التعليمات الإلهية التي ينزل بها الوحي عليه، مما يُلقي الله إليه من علمه، ومما يفتح عليه من غيبه، فإن طاقاته محدودة بما يمنحه الله منها.
ولذلك فإن الوحي هو الذي يحدّد خط الحركة، {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أبلّغكم آيات الله وأثير في عقولكم معانيها، لتكون نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد، وذاك هو كل شيءٍ في الدور، وفي الحركة، وفي الهدف.
وقد نلاحظ في هذا الجوّ القرآني الذي يضع قدرات النبي الذاتية في حدود بشريته، أن ذلك لا يعني انتفاء علم الأنبياء بالغيب من خلال الوحي الذي يحمل إليهم بعض غيب الله، كما جاء في حديث القرآن عن عيسى (ع) ممّا كان يتحدث به مع بني إسرائيل: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}[آل عمران:49]، وكما جاء في قوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ}[الجن: 26ـ27]، وهذا ما تؤكده الآية القائلة: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأنعام:50]. فالوحي هو مصدر معرفة النبي في قضايا العقيدة والشريعة والحياة والدار الآخرة، ضمن ما يريد الله له أن يعلمه لحاجة الرسالة إليه في ساحتها العامة والخاصة.
source : www.sibtayn.com