قلّما يصدر كتاب يتناول البحث عن تاريخ الإسلام إلاّ وعبداللّه بن سبأ يحتلّ مكاناً فيه.
إنّ هذا الرجل الموهوم قد صوروه بألوان من الصور، وأبرزوه بمختلف الأشكال، وقد وصفوه بأنّه بطل يخوض غمار الأهوال ويتحمّل مشقّة الأسفار في مختلف الأمصار، فلا يخلو منه مكان. وله هيمنة علي العقول والأفكار حتي أنصاع له جمع من الصحابة ـ والعياذ باللّه ـ واعتنقوا مبادئه كما يقولون! وأصبح أبو ذر خرّيج مدرسة محمّد (صلّي اللّه عليه و آله)، ومن شهد له الرسول بالصدق، وعمّار بن ياسر المعذّب ـ هو وأبوه وأُمّه ـ ، في اللّه من أنصار دعوته، وحملة عقيدته، والمتأثرين بأفكاره.
فالثورة علي عثمان من دسائسه، وحرب الجمل من تصلّبه، ووقعة صفّين عن أمره، ومبادئ التشيّع من تفكيره وآرائه و.. و.. و..
فيالمهزلة العقل وإسفاف الآراء، وخفّة الأحلام! ويالضياع الحقّ وظهور الباطل! ليكون من نتائجه التصديقبأُكذوبة ابن سبأ وظهور نتاجات وكتابات كالتي نحن بصدد تفنيدها.
لقد حان الوقت لأنّ نلتفت إلي الوراء لنكشف حقيقه نشأة هذه الأُسطورة ونقف علي عواملها.
ومن المؤسف أن نري اليوم من يستسلم لمثل هذه الأُسطورة ويتخلّي عن الأخذ بمقاييس العلم وأحكام العقلمستسلماً للنقل رغم وضوح جوانب الوضع وتهافت هذه القصّة الاُكذوبة.
وللمثال نذكر ما كتبه بعض أُولئك الرجال حول قضية ابن سبأ واستنتاجهم منها أُموراً تَرَكّز بحثهم عليها فمنهم :
ما قیل حول عبد الله بن سبأ
أبو زهو
الشيخ محمّد أبو زهو ـ من علماء الأزهر الشريف وأُستاذ كلية اُصول الفقه في الوقت الحاضر1 ـ قال تحت عنوان «التشيّع ستار لأعداء الإسلام»:
ويقيني أنّ التشيّع كان ستاراً احتجب وراءه كثير من أعداء الإسلام، من الفرس واليهود، والروم، وغيرهم ليكيدوا لهذا الدين ويقلبوا نظام هذه الدولة الإسلامية... ثمّ أخذوا يسلكون به مفاوز الفتن والمهالك...وأصل هذه الفتنة علي ما ذكره المؤرخّون: رجل يهودي يُدعي عبداللّه بن سبأ، غلا في حبّ عليّ حتي زعم أن اللّه تعالي حلّ فيه، وأخذ يؤلّب الناس علي عثمان... إلخ .
هذا ما يقرّه الشيخ المعاصر محمّد أبو زهو ويرسله إرسال المسلّمات، فيلقيه علي طلاّبه ليؤدّي رسالة الأجيال التي تحمل في طياتها انتصار اليهود علي المسلمين، وأنّ رجلاً واحداً منهم استطاع بمكره وخداعه، أن يسوق أصحاب محمّد ويستدرجهم لأغراضه، ويفتنهم بدعوته فيستسلموا له بدون تدبّر وتفكير، ويقوموا بأمر لا باعث له إلاّ دعاية رجل يهودي فاستجابوا لدعوته، وخضعوا لإرادته وحاشاهم من ذلك، وهم أجلّ وأسمي، من أن ينزلوا إلي هذا الحضيض. ولكن الشيخ اقتنع بدون ما يوجب ذلك فنسأل اللّه لنا وله الهداية .
أحمد أمین
وهذا الاُستاذ أحمد أمين يصفه بأنّه ممّن أوعز إلي أبي ذر ـ صاحب رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) ـ بتعاليمه فتأثّر بها إذ يقول : رأيه قريب جداً من رأي مزدك في الأموال. ولكن من أين أتاه هذا الرأي؟ يحدّثنا الطبري عن جواب السؤال فيقول: «إنّ ابن السوداء لقي أبا ذر فأوعز إليه بذلك، وإنّ ابن السوداء هذا أتي أبا الدرداء وعبادة بن الصامت، فلم يسمعا لقوله، وأخذه عبادة إلي معاوية وقال له: هذا واللّه الذي بعث عليك أباذر2.
ثم يقول بعد ذلك: ونحن نعلم أن ابن السوداء هذا لقب لُقِّب به عبداللّه بن سبأ، وكان يهودياً من صنعاء، أظهر الإسلام في عهد عثمان، وأنّه حاول أن يفسد علي المسلمين دينهم، وبثّ في البلاد عقائد كثيرة ضارّة قد نعرض لها فيما بعد، وكان قد طوف في بلاد كثيرة ـ في الحجاز، والبصرة،والكوفة، والشام، ومصر ـ فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقّي هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه، فقد كان من أتقي الناس، وأورعهم وأزهدهم في الدنيا، وكان من الشخصيات المحبوبة، التي أثّرت في الصوفية3.
من أین بدأت قصة أبن سبأ و أین انتهت؟
ابن سبأ کما يقولون عنه هو مثير الخلافات بين المسلمين وهو مؤسّس مذهب يربو أتباعه علي مئة مليون4، وهو البطل الذي استطاع أن يحقّق آماله في مصر ـ بعد أن فشل في غيرها من البلدان الإسلامية ـ فجمع الجموع، وتوجه إلي عاصمة المسلمين، وفيها الخليفة عثمان ليقلب نظام الحكم، وقد تمّ له ما أراد كما ذكره الشيخان: أبو زهو، وأبو زهرة وغيرهما .
وهو الذي سيطر علي مشاعر أبي ذر الصحابي الجليل ـ الذي وصفه رسول اللّه (صلّي اللّه عليه و آله) بالصدق ـ فأعلن علي معاوية إنكاره في احتكار الأموال .
وبغض النظر عن مصدر القصة، والبحث عن سندها، ومعرفة رجالها فإنّ العقل يحكم بسقوطها عن الاعتبار، لما فيها من مخالفة للعقل وبعد عن الحقّ وعدم ارتباطها بالواقع.
وفيها طعن علي كبار الصحابة، وتوهين لرجال الإسلام، ووصفهم بالبلاهة ـ علي حدّ تعبير بعضهم ـ وانصياعهم لأقوال وافد غريب، وداعية شرك وإلحاد، هذا من جهة. ومن جهة ثانية أنّ فكرته لم تلقَ نجاحاً إلاّ في مصر، فإنّهم انخدعوا فيه بسرعة، ومالوا إليه بأقصر وقت، وهو داعية مجهول، ورائد غريب، كيف يقوم فيهم بكلّ صراحة، ومن دون حذر، يدعوهم ويؤلّبهم علي الانتفاضة ضد سلطان قائم، ويحثّهم علي العصيان بدون سبب ولا سابقة؟
ولنترك الحديث للدكتور طه حسين حول أُسطورة ابن سبأ وما فيها من مخالفات للواقع ـ باختصار ـ .
يقول الدكتور في كتابه الفتنة الكبري عثمان الفصل (14 ):
وهناك قصّة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها، وأسرفوا فيها حتي جعلها كثير من القدماء مصدراً لما كان من الاختلاف علي عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تمح آثاره، وهي قصّة عبداللّه بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء. قال الرواة: كان عبداللّه بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء حبشي الأُم، فأسلم في أيّام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغري به، ويحرّض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعاً...
وإلي ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية، أيام عثمان، ويذهب بعضهم إلي أنّه أحكم كيده إحكاماً، فنظم في الأمصار جماعات خفية تتستر بالكيد؛ وتتداعي بينها إلي الفتنة، حتي إذا تهيّأت لها الاُمور وثبت علي الخليفة؛ فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.
ويخيّل إليَّ أنّ الذين يكبّرون من أمر ابن سبأ إلي هذا الحدّ يسرفون علي أنفسهم وعلي التاريخ إسرافاً شديداً، وأوّل ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكراً في المصادر المهمة التي قصت أمر الخلاف علي عثمان، فلم يذكره ابن سعدحين قصّ ما كان من خلافة عثمان، وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أري أهم المصادر لهذه القصة وأكثر تفصيلاً. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرّخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر . ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيّام عثمان أم لم يكن؟ ولكن أقطع بأنّ خطره ـ إن كان له خطر ـ ليس ذا شأن، وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيّام عثمان...
ومن أغرب ما يروي من أمر عبداللّه بن سبأ هذا أنّه هو الذي لقن أباذر نقد معاوية فيما يقولون من أنّ المال هو مال اللّه ، وعلمه أنّ الصواب أن يقول: إنه مال المسلمين. ومن هذا التلقين إلي أن يقال إنّه هو الذي لقّن أبا ذر مذهبه كلّه في نقد الأمراء والأغنياء... فالذين يزعمون أنّ ابن سبأ قد اتّصل بأبي ذر فألقي إليه بعض مقاله يظلمون أنفسهم، ويظلمون أبا ذر ويَرْقون بابن السوداء هذا إلي مكانة ما كان يطمع في أن يرقي إليها. والرواة يقولون: إنّ أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلي المدينة: لا ينبغي لمن أدي زكاة ماله أن يكتفي بذلك حتي يعطي السائل، ويطعم الجائع،وينفق في سبيل اللّه ، وكان كعب الأحبار حاضراً هذا الحديث. فقال: من أدي الفريضة فحسبه. فغضب أبو ذر وقال لكعب: يا ابن اليهودية! ما أنت وهذا ! أتعلّمنا ديننا؟ ثم وَجَأه بمحجنه. فأبو ذر ينكر علي كعب الأحبار أن يعلمه دينه، بل أن يدخل في أُمور المسلمين حتي بإبداء الرأي، مع أنّ كعب الأحبار مسلم، أبعد عهداً بالإسلام من ابن سبأ وكان مجاوراً في المدينة...
وأكبر الظنّ أنّ عبداللّه بن سبأ هذا كان كلّ ما يروي عنه صحيحاً إنّما قال ما قال ودعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يثرها، وأكبر الظن كذلك أنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويين والعبّاسيين قد بالغوا في أمر عبداللّه بن سبأ هذا ليشكّكوا في بعض ما نُسب من الأحداث إلي عثمان وولاته من ناحية، وليشنّعوا علي عليّ وشيعته من ناحية أُخري، فيردّوا بعض أُمور الشيعة إلي يهودي أسلم كيداً للمسلمين.. إلي أن يقول: هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أُمور التاريخ. ثم يأخذ الدكتور في بيان أسباب الثورة علي عثمان. تركنا التعرض لها5.
مصدر قصة عبد الله بن سبأ
نري أنفسنا مُلزَمين بأن نستعرض مصدر هذه القصّة، ونقف علي المنبع الذي استقي منه الكتّاب معلوماتهم عنها، لأنّا قد وجدنا بعض الكتّاب ممّن يميل إلي التشكيك في صحتها؛ ولكنّهم لا يستطيعون أن يقولوا ذلك بصراحة لأنّهم يظنّون أنّها متعدّدة الروايات متواترة عن الثقات من المؤرخين، الأمر الذي يدعو إلي عدم طرحها ولكنّه ينفيالمبالغات التي فيها.
ويذهب بعضهم إلي الجزم بصحّتها لأنّها وردت عن راوٍ خرّج حديثه الترمذي6، ومن هذا وذاك اختلط الأمر علي كثير منهم.
يقول الدكتور ضياء الدين الرَيِّس: وقد أخذ بعض المؤلّفين يميل إلي الشك في شخصية هذا الرجل ـ وهو عبداللّه بن سبأ ـ ولكن تعدّد الروايات عنه، وتواتر أنباء الثقات من المؤرخين تؤيّد القول بوجوده، وإن كان محل المبالغة أنّهم ينسبون إليه كلّ ما حدث في عهد عثمان ويحمّلونه تبعته... إلخ7.
فالدكتور الرَيِّس هو واحد من أُولئك الذين اشتبه عليهم الأمر فظنّ تعدّد طرق الروايات لقضية ابن سبأ إذ وجدها مذكورة في عدة كتب، ولكنه لا يري صحة ما أحاط بهذه الشخصية من حكايات، فهو يذهب إلي وجود شخصيته مجرّدة من المبالغات، وكلّ اعتماده في هذا القول هو أنّ الروايات متعددة، والأنباء عن ابن سبأ متواترة، قد نقلها الثقات من المؤرّخين .
ونحن هنا نستشعر إدراكه للحقيقة وميله الي الشكّ بوجود شخصية في التاريخ اسمها عبداللّه بن سبأ، غير أنّه لا يقوي علي الإفلات من تأثير الأساليب القديمة وقواعدها والتي أُخذت من طبيعة العمل بالرواية واتصالها بالحديث الشريف، فكان ما يرويه الثقات قطعياً وإن كان الأمر يتعلّق بحوادث أو أفكار أو أشخاص لكلّ الناس الحقّ في النظر إليها نظرة واقعية، ونري أنّ واجبنا العلمي يقضي بتوجيه أشعة البحث العلمي لنري علي ضوئه ما كمن في ظلمات الجهالة من حقائق يلزم إبرازها، وإزالة كل ما يعتريها من خفاء .
ولا شكّ أنّ مسألة كهذه يجب علي كلّ باحث حرّ أن يعطيها مزيداً من الوقت؛ لأنّها ذات نتائج وخيمة أدّت بالمجتمع إلي أضرار ووقوع فوادح يذوب لها قلب كلّ مسلم، فلننظر علي ضوء البحث ما هو مصدرها؟
إنّه المصدر الأوّل لهذه القضية التي لم يسبقه أحد إلي ذكرها هو: أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفي سنة (310 ه ) صاحب التفسير الكبير، ومؤلّف تاريخ الأُمم والملوك المعروف بتاريخ الطبري. وهو المصدر الوحيد لهذه القصة وجميع ما يتعلّق بأخبار عبداللّه بن سبأ.
وأخذ عن ابن جرير كلّ من ابن الأثير المتوفي سنة (630 ه ) وابن كثير المتوفي سنة (774 ه ) وابن خلدون المتوفي سنة (808 ه ) وغيرهم . وكل ما أورده ابن جرير حول أخبار ابن سبأ وحوادث عهد عثمان وأخبار الردّة إنّما كان مصدره سيف بن عمر المتوفي في عهد الرشيد أو بعده . وليس لنا أن نتكلّم حول ابن جرير ونقله لأمثال هذه الأُسطورة، فإنّه نقل أقوالاً وذكر ما بلغه وسمي قائليها، وترك للباحث الحكم لها أو عليها وقد خرج الطبري عن عهدة المؤاخذات بما ذكره في مقدمة كتابه بقوله:
«فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين ممّا يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحّة، ولا معني في الحقيقة فليعلم أنّه لم يؤت في ذلك من قِبَلِنا، وإنّما من قِبَلِ بعض ناقليه إلينا، وإنّا إنّما أدّينا ذلك علي نحو ما أُدّي إلينا»8.
وبهذا فهو لم يقرّر صحة كل ما نقل إليه، وقد ترك باب النقاش مفتوحاً للباحث، كما أنّه يأتي في كتابه بالأخبار المتعارضة التي يستحيل أن تصحّ معاً، ولا يتعرّض لها بالموازنة والترجيح إلاّ إذا دعت الحاجة لذلك. والطبري، نبّهفي مقدّمة كتابه أنّه أخذ أخبار الماضين كما نقل إليه وبذلك فهو ينأي بنفسه عن مؤاخذات عدم الصحّة والاختلاق والوضع، ولم يجعل نفسه وراء نقوله والأخبار التي أثبتها، ولم يطالبنا بتصديق كلّ ما ورد في كتابه والاعتراف منّا بصحّة ما ضمّه تاريخه .
أخبار الطبري
ونري من الأنفع هنا أن ننقل للقارئ الكريم ما كتبه الخطيب ـ المعروف بمحبّ الدين ـ حول تاريخ الطبري. يقول الخطيب: إنّما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلي تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل، فتراجم شيوخه مباشرة وشيوخهم توجد في مثل تذكرة الحفّاظ للذهبي، وتراجم الرواة الذين كانوا إلي أواخر المائة الثانية توجد في خلاصة تذهيب الكمال للصفي الخزرجي، وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، والذين تناولهم الجرح من الضعفاء يترجم لهم الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال، وفي طبقات ابن سعد، وتاريخ بغداد للخطيب، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ الإسلام للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، وإن كتب مصطلح الحديث تبيّن الصفات اللازمة للراوي، ومتي يجوز الأخذ برواية المخالف، ولا نعرف أُمّةعُنِيَ مؤرّخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها، وشروط الانتفاع بها كما عني بذلك علماء المسلمين، وأنّ العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي .
أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم، ولا يتعرّفون إلي رواتها ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلي الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني، ويظنّون أنّ مهمّتهم قد انتهت بذلك فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من أُلوف الأخبار .
ولو أنّهم تمكّنوا من علم مصطلح الحديث وأنسوا بكتب الجرح والتعديل واهتموا برواة كلّ خبر كاهتمامهم بذلك الخبر، لاستطاعوا أن يعيشوا في جوّ التاريخ الإسلامي، ولتمكّنوا من التمييز بين غثّ الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار أقدارها، بوقوفهم علي أقدار أصحابها9.
هذا ما يقرره الكاتب الخطيب. وقبل أن ندخل في موضوع البحث عن سند الروايات في قضية ابن سبأ نودّ أن نسائل هذا الكاتب :
هل التزم هو بما قرّره هنا فبحث عن رجال السند لما ينقله عن الطبري وغيره؟
وهل تمكّن من علم مصطلح الحديث؟ وأنس بكتب الجرح والتعديل فوقف عن قبول رواية مَن جرحوه؟ وتقبّل رواية من عدلوه؟
فإن أجاب بنعم. فالواقع يكذّبه، لأنّه أورد في كتاباته أشياء لا تستند إلي مصدر موثوق به، فقرر قبولها طاعة لهواه. وأجلي مثال لذلك هو ما ذكرناه هنا عن قضية ابن سبأ التي انفرد بها الطبري، ولم يكن في سند الرواية من يتّصف بصفة القبول فكيف اعتمد عليها؟
ولا أدري أنّ ما ذكره هنا لماذا لا يطبقه علي نفسه، بل يريد ذلك للغير؟ وما هو إلاّ من الآمرين بالمعروف التاركين له الناهين عن المنكر الفاعلين به.
وإلي القرّاء بيان سند الرواية ليتّضح لهم أنّ ما كتبه الخطيب لا يعدو حبراً علي الورق .
رجال السند في قصة ابن سبأ
نظراً لما لهذه القصّة من أهمية، وأنّ بعضهم يظنُّ أنّ رواتها ثقات فقد دعت الحاجة إلي معرفة حالة رجال السند، والاستماع لأقوال علماء الرجال يتّضح الأمر، وتظهر الحقيقة، ويكون الحكم للعقل لا للعاطفة وللعلم لا للجهل،وللحقّ لا للباطل.
وأنّ مستند هذه القصّة هو واحد لا غير وهو سيف ابن عمر، وقد انفرد الطبري بذلك وعنه أخذ بقية المؤرّخين كما سبق. والآن نضع رجال السند أمام القرّاء ولهم الحكم .
وهو ما أشرنا إليه الآن، فحديث الطبري كان عن مكاتبة من السري أنّ شعيباً حدثه عن سيف عن عطية عن يزيد الفقعسي. فهؤلاء هم رجال سند هذه القصة ومستند حكم أحمد أمين علي أبي ذر بأنّه يري رأي مزدك، وأنّه أخذه عن ابن السوداء.
فمَن هم هؤلاء الرجال؟ وما هي منزلتهم؟ وما محلّهم من الصدق؟ ستأتي الإجابة عن ذلك قريباً إن شاء اللّه .
ولا يفوتنا هنا أن نلفت نظر القارئ إلي أنّ الطبري يجعل هذه القصة من قبل العاذرين لمعاوية، وهم المتعصّبون له وناهيك ما للتعصّب من أثر في الافتعال .
أمّا ما يتعلّق بقضية ابن السوداء وتجواله في الأمصار الإسلامية وفشل محاولاته، وأخيراً يحطّ رحله في مصر وإظهار قوله بها في الرجعة والوصاية، وأنّه بثّ دعاته ـ كما يروي الطبري ـ وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلي ما عليه أمرهم إلي آخر ما رواهالطبري9 وذكره الشيخ أبو زهرة وغيره من الكتّاب . وإذا رجعنا لمصدر القصّة فحديث الطبري هكذا يقول فيما كتبه إلي السري: عن شعيب، عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي قال كان عبداللّه بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الكوفة إلي آخر ما ذكر في ( ج5: 98 ـ 99 الطبعة الأُولي).
فالحديث يدور حول الطبري، والسري، وشعيب وسيف وعطية ويزيد الفقعسي. هؤلاء رجال سند الرواية وهؤلاء مستند من ذكروا ابن سبأ في كتبهم وعظموا أمره في كتاباتهم وخلقوا منه شخصية قوية ذات أثر في تاريخ المسلمين بل غيّر مجري التاريخ.
التحقیق
الطبري: أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري المتوفي سنة (310 ه ) صاحب التاريخ المعروف بتاريخ الطبري، ولا يتعلّق لنا غرض بالبحث عن شخصيته فهو شخصية معلومة ومن رؤساء المذاهب البائدة، وقد تبرّأ من عهدة النقل بقوله الآنف الذكر: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعهسامعه، من أجل أنّه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معني في الحقيقة، فليعلم أنّه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنّما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنّما أدّينا ذلك علي نحو ما أُدّي إلينا10. وعلي هذا أصبحت المسؤولية علي عاتق الرواة الذين روي عنهم، وهنا نجري التحقيق العلمي عن رجال سند هذه القصة الذين روي عنهم الطبري وهم : السري، وشعيب، وسيف بن عمر، وعطية، ويزيد الفقعسي، فمَن هم هؤلاء وما مقدار تحمّلهم للرواية؟ وماذا يقول عنهم علماء الرجال؟
السري
هذا هو أوّل سلسلة الرواية، والطبري عندما يروي عنه يقول: كتب إليّ السري، أو فيما كتب إليّ به السري. من دون أن ينسبه إلي أبيه أو عشيرته. ولكنّه روي عنه مشافهة فقال: حدّثني السري بن يحيي11.
فظهر أنّ الذي يحدث عنه الطبري هو السري بن يحيي، وهو مع ذلك مجهول لا يعرف ويتردد هذا الاسم بين جماعةهم: السري بن يحيي بن أياس وهذا لم يعاصر الطبري، لأنّ وفاة السريبن يحيي سنة (167 ه ) أي قبل ولادة الطبري بسبع وخمسين سنة إذ ولادة الطبري سنة(224ه) ووفاته سنة (310 ه) فهذا لايمكن أن يكون هو.
السري بن يحيي بن السري ابن أخي هناد بن السري، ذكره ابن أبي حاتم المتوفي سنة (327 ه ) وهذا كان في عصر الطبري لأنّه عاصر ابن أبي حاتم، ولكن، لم تذكر له رواية، أو يشير أحد إلي من روي عنه ولم يصفه أحد بأنه محدث أو حدّث عن أحد أو حدثوا عنه وبهذا فهو مجهول .
وعلي أيّ حال لا يوجد بهذه النسبة من عرف بالحديث أو اشتهر بالرواية . وبعضهم يري أنّ السري الذي يروي عنه الطبري هو السري بن إسماعيل الهمداني الكوفي ابن عم الشعبي وكاتبه، وهذا أيضاً لا يصح لأنّ وفاة الشعبي سنة (103ه ) وولادة الطبري سنة (224 ه ) ولا يمكن أن يمتد عمر السري هذا إلي زمن الطبري فيحدثه، ومع هذا فقد اتصف بصفات توجب ردّ ما يرويه فهو ضعيف ومتروك الحديث كما يقول ابن المبارك وأبوداود، والنسائي وهو ليس بثقة وأحاديثه التي يرويها لا يتابعه عليها أحد كما يقول ابن عدي. وقال ابن حبان: كان يقلّب الأسانيد، ويرفعالمراسيل إلي آخر ما وصفوه به12.
ويري بعضهم أنّ السري الذي يروي عنه الطبري هو: السري بن عاصم ابن سهل أبو عاصم الهمداني مؤدِّب المعتز باللّه ، وقد يُنسب إلي جدّه، وهذا معاصر للطبري لأنّ وفاته سنة (258 ه ) في بغداد وكان عمر الطبري عند وفاة السري هذا ثلاثين سنة فيمكن أن يكون هو .
ومع هذا فقد كذّبه ابن خراش ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث وقال النقاش: إنّه وضّاع، وذكر الذهبي حديثين من وضعه13.
وكيف كان فإنّ الجهالة تحيط بهذا الراوي الذي يروي عنه الطبري، ولو فرضنا أنّه معروف وأنّه ثقة، يلزمنا أن نحقق عن شيخه الذي يروي عنه وهو شعيب.
من هو شعیب؟
شعيب بن إبراهيم وهو مجهول، قال الذهبي: شعيب بن إبراهيم راوية كتب سيف عنه: فيه جهالة؛ وذكره ابن عدي وقال ليس بالمعروف، وهذا لا يحتاج إلي إطالة بحث، لأنّالجهالة قد أرخت عليه سدولها ولا يعرف إلاّ أنّه راوية سيف ابن عمر .
من هو سیف؟
سيف بن عمر الضبي الأسدي ويقال التميمي البرجمي ويقال السعدي الكوفي المتوفي بعد سنة (170 ه ) وهو راوية أحاديث السقيفة والردة، وحوادث عهد عثمان، وهو نقطة إنطلاق اُسطورة ابن سبأ، وعليه تدور أخبار السبئية، ونشأتهم وأثرهم في المجتمع الإسلامي، وما أحدثوه من بدع، وما أوجدوه من خلاف .
إنّه هو المبدع لهذه الأساطير، والموجد لتلك الحوادث، والمنفرد بتصوير شخصية ابن سبأ، والباني لكيانه. وقد وصفوه بأنّه وضّاع كذّاب، زنديق يروي الموضوعات عن الأثبات14، ولننظر أوّلاً إلي من يروي عنهم سيف أو بعبارة أوضح من يضع عنهم الروايات، ثم نعود إلي الحديث عن سيف.
من هو عطیة؟
لا يدري مَن هو عطية الذي يروي عنه سيف فهل هو عطية العوفي المتوفي سنة (110 ه ) أم عطية بن قيس الكلابي المتوفي سنة (121 ه ) أم غيرهما؟ فإن كان المراد به العوفي فذلك شيء بعيد جداً لأنّ عطية العوفي كان من التابعين وتوفي سنة (110 ه ) فسيف بن عمر لم يدركه لأنّه متأخّر عنه بل كان في بطون الأرحام وليس من الصعب علي سيف أن يدّعي الرواية عنه وهو لم يدركه. أمّا عطية بن قيس الكلابي فهو شامي ولم يتّصل به سيف، ونحن لا ندري من هو؟ ولئن حصلت لنا دراية فماذا تنفع وسيف ثبت أنّه وضّاع؟ ومن جهة ثانية إنّ يزيد الفقعسي وهو نهاية السلسلة وبداية الأُسطورة لم يعرف من هو، ولا يوجد في الرجال من يسمي بهذا الاسم ويلقب بالفقعسي، وهنا تنقطع السلسلة، ولا يبعد أنّه شخصية وهمية كشخصية عبداللّه بن سبأ، فسيف بن عمر قادر علي أن يخلق ألف شخصية وشخصية، ويخترع آلاف الأساطير. فهو وضّاع بارع ويوجِد مِن لا شيء أشياء كثيرة وإليك بعض ما وصف به.
سیف بن عمر في المیزان
وبعد أن كشف التحقيق عن رواة هذه القصة، أي قصةابن سبأ نودّ أن نضع بطل هذه الأُسطورة سيف بن عمر في الميزان، لنعرف قيمة روايته ممّا بيّنه علماء الرجال من حاله.
قال ابن حجر: سيف بن عمر التميمي البرجمي ويقال السعدي، ويقال الضبعي، ويقال الأسدي الكوفي صاحب كتاب الردة والفتوح روي عن عبداللّه ابن عمر العمري وأبي الزبير...
قال ابن معين: ضعيف الحديث وقال مرة: فليس خير منه ـ أي لا يأتي منه خير ـ وقال أبو حاتم: متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي وقال أبوداود: ليس بشيء. وقال النسائي والدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال ابن حبان أيضاً: وقالوا عنه إنّه كان يضع الحديث، واُتّهم بالزندقة، وقال البرقاني عن الدارقطني: متروك. وقال الحاكم: أُتّهم بالزندقة15.
وقال الذهبي: سيف بن عمر الضبّي الأسدي التميمي البرجمي ويقال السعدي الكوفي مصنّف الفتوح والردّة. ثم يذكر أقوال علماء الرجال كما ذكر ابن حجر، ونقل عن جعفربن أبان إنّه سمع ابن نمير يقول: كان سيف يضع الحديث، وقد اتّهم بالزندقة16.
وقال ابن أبي حاتم: سيف بن عمر الضبّي: عن يحيي بن معين أنّه قال: سيف بن عمر الضبّي الذي يحدّث عنه المحاربي ضعيف الحديث. وقال سئل أبي عن سيف بن عمر الضبّي فقال متروك الحديث يشبه حديثه حديث الواقدي17.
قال ابن السكن: سيف بن عمر ضعيف. وذكر ابن حجر قول ابن أبي حاتم: سيف بن عمر متروك الحديث، وكذلك ذكره ابن عبدالبر في الاستيعاب: 3، 263 بهامش الإصابة .
وقال السيوطي: سيف وضّاع. وذكر حديثاً من طريق السري بن يحيي عن شعيب بن إبراهيم عن سيف فقال السيوطي: موضوع فيه ضعفاء أشدهم سيف.
المصادر
1 ـ حلية الأولياء، أبو نعيم أحمد بن عبداللّه الإصفهاني، المتوفي (430 ه ) دار الكتاب العربي ـ بيروت ط 5 .
2 ـ الاستيعاب، أبو محمّد يوسف بن عبداللّه بن محمّد بن عبدالبرّ النمري الأندلسي المتوفي (463 ه )، دار الجيل، بيروت، ط 1 (1412 ه ).
3 ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة، أحمد بن عليّ بن أبي الكرم الشيباني المعروف بابن الأثير المتوفي (630 ه ) .
4 ـ الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني المتوفي سنة (852 ه )، دار الكتب العلمية، بيروت ط1 (1415 5 ـ سنن الترمذي، محمّد بن عيسي بن سورة الترمذي المتوفي (279 ه )، دار الفكر، بيروت، ط 2 (1403 ه ).
6 ـ المستدرك علي الصحيحين، الحاكم محمّد بن عبداللّه بن محمّد الحافظ النيسابوري المتوفي (405 ه )، دار المعرفة، بيروت.
-----------------------------------------
1يوم تأليف كتاب الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة للمؤلف .
2فجر الإسلام: 110 الطبعة الثانية.
3فجر الإسلام 111 الطبعة الثانية .
5راجع الفتنة الكبري: 134 .
6سنن الترمذي 5: 697، ح3866 .
7النظريات السياسية الإسلامية: 41 .
8تاريخ الطبري 1: 5 .
9تاريخ الطبري5 : 98 الطبعة الأُولي .
10تاريخ الطبري 1: 5 .
11تاريخ الطبري 3: 213 .
12انظر تهذيب التهذيب 3: 459 ـ 460، وميزان الاعتدال 1: 270 .
13ميزان الاعتدال 1: 270، لسان الميزان 3: 12 .
14تهذيب الكمال 12: 324 رقم 2676 .
15تهذيب التهذيب 4: 291.
16ميزان الاعتدال 1: 438 .
17الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 : 278 قسم 1.
source : www.abna.ir