من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.
الإمام الحسين بن علي (ع) وتجربة الثورة
لمحة خاطفة عن الأوضاع
ما بال الأنصار لم يستقبلوني؟
سؤال تفّوه به معاوية حينما حج إلی بيت الله الحرام في العام التالي لإستشهاد الإمام الحسن (ع)، لينظر عن قرب إلی الوضع السياسي العام في الأمة، حيث کانت مکة مقراً للصاحبه ولکل الرساليين في ذلک الوقت.
سؤال يکشف عن عمق الأزمة السياسية التي کان يعانيها الحزب الأموي المستبد في الشام، خاصة بعد إنکشاف حقيقته أمام أنظار الناس.
وقد خرج معاوية من هذا الحج بحقائق عديدة عن واقع الأمة الإسلامية، جعلته يفکر من جديد في خطة يواجه بها الحرکة الإسلامية المتنامية، بعد أن رکّز التفکير في سرّ قوتّها، الذي وجده في ولاية أهل بيت رسول الله (ص).
ولذا فإنه توصل إلی ضرورة إقتلاع هذه الولاية وهذا الحب الذي يکنّه عامة الناس لآل الرسول_ عليهم أفضل الصلاة وأزکی التسليم _ وقام بمحاولات عديدة لتحريف المقاييس التي يميّز الناس بها الحق من الباطل، متمثلة في الإسلام الحق، من بيت الرسالة ومبهط الوحي.
فکتب إلی عمّاله في أطراف البلاد الإسلامية رسالة يقول فيها:
«أمّا بعد: انظروا إلی من قامت عليه البينة أنه يحب علياً وأهل بيته فأمحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، ولا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة».
ورغم قساوة هذه الإجراءات لکنها کما يبدو عند متابعة سير الأوضاع وتطوراتها في هذه الفترة الزمنية من الصراع لم تحدث الخلل الذي کان يصبوا إليه معاوية لزعزعة الرساليين عن مواقفهم ازاء أهل البيت (ع)، بل ربما زادتهم إيماناً وتحدياً.
فأرسل في خطوة إجرائية أکثر إرعاباً وإرهاباً لعماله ليحقق أمثولة الدهر الساخط:
خذوهم بالظنة وإقتلوهم بالتهمة!
* * *
وهنا إبتدأت مرحلة من التحدي والصراع في تاريخ الأئمة (ع) فهي مرحلة تتسم بأقصی مراحل العنف والقسوة وأجواء القتل الرهيبة التي کان يتعرض لها الرساليون وعامة الناس لمجرد الظنّ والتهمة.
وفي مثل هذه الظروف التي أخذت تزداد تعقيداً وتأزماً يوماً بعد يوم بالنسبة لقاعدة وأنصار الحرکة الإسلامية وتيارها الواسع في الأمة، کان علی قيادة وطلائع الأمة، الاستمرار في مواصلة الکفاح والعمل من أجل نشر الرسالة، مع تحمل النتائج الخطيرة المترتبة علی ذلک، في ظل أجواء القتل الحاکمة في هذه الفترة.
وإلی جانب سياسة القتل والفتک بکل الموالين للقيادة الشرعية للأمة مارس الحزب الأموي سياسة مشينة لإفساد وتمييع المجتمع، وذلک بتشجيع أدوات الفساد والميوعة وتقريبها من البلاط الحاکم، وهي سياسة لاتقل خطورة بل ربما تزيد علی سياسة مطاردة الرساليين والفتک بهم وبعوائلهم.
وقد أدرک الإمام الحسين (ع) خطورة مبادرة الحزب الأموي الأخيرة لتمييع إرادة المجتمع، ومن ثم تجريده من کل القيم التي حاول الأئمة (ع) من قبله غرسها وتکريسها في نفوس أبناء الأمة.
ومن الطبيعي للغاية أن سياسة الحزب الأموي في هذين المحورين کان لهما آثار سلبية خطيرة علی نفوس المجتمع الإسلامي حينها، فبسبب الإرهاب إبتعد قسم کبير من الناس عن إظهار ولاءهم لأهل البيت (ع)، وأتجهوا إلی الخنوع والجمود بدل العمل والحرکة.
أما من جهة الفساد الأخلاقي، فإن قطاعا آخرا من المجتمع إنجرف إليه تحت وطأة حمي الشهوة وحب التنعم بالمللّذات علی حساب المعتقدات والمبادیء التي آمنوا بها خلال الفترات الماضية.
وربما دفعهم في هذا الإتجاه أيضاً عدم الرغبة في التعرض لإرادة الحزب الأموي الذي بدأ بکل قوة وقسوة يعلنها حرباً ضروساً ضد کل من يدعي إتصاله وقربه من بيت الرسالة وتيارها المتمثل في کيان الأمة.
وقراءة لما بين سطور الأوضاع السياسية والإجتماعية التي عرضناها بإيجاز نجد أن استمرار تصاعد هذه الأوضاع أو مجرّد بقاؤها علی ما هي عليه، يمثّل خطراً ما حقاً يهدد التجربة الإسلامية برمتها اذ أنه يهددها من حيث تجربتها الحضارية، وکذا من حيث تجربتها في الإدارة والحکم. کما وإنه يهددها فوق ذلک بما هو أخطر بکثير کفکرة قيم ومبادیء.
* * *
والسؤال الآن:
في ظل هذه الأوضاع الحاکمة ماذا ينبغي للإمام الحسين (ع) کقيادة شرعية للمسلمين أن يتخذه من قرار لمواجهة الحزب الأموي ووضع حدٍ لممارسة الخطيرة التي تستهدف تقويض الإسلام الرسالي الصحيح، والقضاء علی رجاله وطلائعه وأتباعه؟
لم تکن أمام الإمام الحسين (ع) سوی الخيارات التالية:
1_ أن يعلن إستسلامه للواقع، ويبتعد کلّياً عن الساحة ويترکها للأمويين.
2_ أن يبتعد عن ساحة العمل السياسي فقط ويقتصر في عمله علی التوجيه الفقهي والعلمي للناس.
3_ أن يشارک في ساحة العمل السياسي بمقدار ما تنص عليه أو تقتضيه وثيقة الصلح التي وقعّها الإمام الحسن (ع) مع معاوية، رغم خرق الأخير لمعظم بنودها.
4_ أن يعلن المواجهة بکافة جوانبها مع الحزب الأموي.
لقد أختار الإمام الحسين (ع) الخيار الرابع نظراً لأسباب عديدة تضافرت فيما بينها، وجعلت من الخيارات الثلاثة الأولی، خيارات غير قابلة للتطبيق(1). وأبرز هذه الأسباب تتلخص بواقعين:
الواقع الأول: الواقع الإجتماعي، الذي بدأ يتسم بالضعف والإنهزام، حتی أن آثار الإنحراف إحتلت مساحة واسعة في النفوس نظراً لسياسية الحزب في هذا الإتجاه.
فلقد نجح الحزب الأموي بإرهابه وترغيبه ودعاياته المضللة التي کان يروج لها في وسط المجتمع الإسلامي، في إضعاف الوهج الرسالي الذي تلألأ خلال العهود الماضية، واصبح المجتمع يشکو من ضعف کبير في وعيه برسالته والمبادیء التي غرسها الأئمة (ع) طوال السنوات الماضية. حتی أضحت أطروحة الإسلام مهددة بالأفول.
الواقع الثاني: الواقع السياسي الذي اتسم بأقصی حالات العنف والقسوة ضد أهل الإسلام، وبالذات أنصار وأتباع الأئمة (ع) منهم.
لقد أصبح المنهج السياسي السائد للتعامل مع الموالين للأئمة (ع) هو (خذوهم بالظنة واقتلوهم بالتهمة)، وهنا نستطيع القول بأنّ الأمة الإسلامية تتعرض وفق هذه السياسية إلی حرب إبادة شاملة تهددها ورسالتها الإسلامية بالفناء.
وهنا نسوق عدداً من الأمثلة والشواهد کمصداق حي للواقع السياسي والإجتماعي الذي عاصره الإمام الحسين (ع) ولم تدع له فرصة لإختيار خيار آخر غير إعلان المواجهة بکافة أبعادها وهي:
1_ محاربة فکر أهل البيت (ع) عبر اختلاق الکذب وإفتراء التهم ضدهم، وقد عمل الحزب الأموي علی مکافئة کل من کان يسّب علياً، ويعرّض للبطش والتنکيل من أمتنع عن ذلک.
2_ تشجيع الفرق الضالة للبروز، کالمرجئة والجبرية(2)، لتبث سمومها في الأمة وتعطّل تطلعاتها ومشروعاتها نحو التغيير.
3_ الإضطهاد والقهر السياسي الذي وصل إلی حد القتل لشل طاقات الأمة وتحطيم قدراتها علی الحرکة والنشاط.
التمرد علی السلطة بداية الإنطلاقة الثورية:
لم تعد معاهدة الصلح التي وقعها الإمام الحسن (ع) مع معاوية من ذي قبل مبرراً کافياً للسکوت، إذ أن تجاوزات الحزب الأموي لبنودها کان بالشکل الذي لا يصلح معه قبول وجود تلک المعاهدة.
ورغم کل الإجراءت الصارمة التي إنتهجها الحزب الأموي ضد طلائع وکوادر الأمة الإسلامية ظلّ الإمام الحسين (ع) لفترة من الزمن يمارس دوره في کشف الواقع الأموي أمام الرأي العام، لکي لاتبقی بعدها حجة للمتقاعسين لتبرير موافقهم المتخاذلة.
بعد هذا بدأ الإمام الحسين (ع) يمارس دوره کمعارضٍ رافضٍ للحزب الأموي، وممارساته الظالمة والحاقدة علی الإسلام وأهله.
وأول الخطوات التي قام بها (ع)، تجميع الثلة المؤمنة، المخلصة(3) التي تمثّل القاعدة الرئيسية للإمام (ع) حينها، ومن أعلن (ع) خطته في هذه المرحلة وعبأهم للإستعداد لخوض غمار الصراع السياسي ضد الحزب الأموي.
ومن الأعمال التي تمخضت في هذه الفترة کخطوة أولية لإعلان حالة التمرد علی الکيان السياسي، هي قيام الإمام (ع) بعملية عسکرية، تواتر نقلها عبر کتب التاريخ، وهي أن عيراً لوالي اليمن کانت محملة بأنواع الأمتعة إلی البلاط الملکي لتوزيعها علی أصحاب الضمائر المستأجرة. فاستولی عليها الإمام الحسين (ع) عند مرورها بالمدينة، وکتب إلی معاوية يقول:
«من الحسين بن علي
إلی معاوية بن أبي سفيان
أما بعد فإن عيراً مرت بنا من اليمن تحمل مالاً وحللاً إليک لتودعها خزائن دمشق وتعّل بها بعد نهل بين أبيک وإني إحتجت إليها وأخذتها...والسلام(4)».
وکانت هذه العلمية بمثابة الصاعق الذي فجّر فتيل الصراع السياسي وأوصله إلی ذروته بين الحزب الأموي والحرکة الإسلامية بقيادة الإمام الحسين (ع) وبالرغم من أن معاوية وبمکره المعهود يظهر ليرد علی تلک العلمية بعنف مقابل، وإنما کتب إلی الإمام الحسين (ع) رسالة ضمنها عتابا بينّ معرفته بمکانة الإمام وجليل شأنه عنده، کما کتب فيها إنه لايريد أن يمسه هو ولا أنصاره بسوء.
إلّا أن الإمام (ع) مضی في دعم توجهه في تحدي الحزب الأموي وتعبئة الرأي العام ضده، لمعرفته بحقيقة الإدعاءات التي کتبها معاوية إليه، وإن واقع القتل والفتک بأنصاره وأتباعه من قبل أيادي الحزب لا زالت تتواصل وتتزايد.
فکتب إلی معاوية ثانية يرد فيها علی رسالته ويوضح له تصوره عن مواضع الصراع المختلفة ومما جاء فيها: «...أما بعد فقد بلغني کتاب تذکر فيه أنه انتهت إليک عني أمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عنک جدير وأنّ الحسنات لايهدی لها ولا يسدد اليها إلّا الله تعالی.
...وإني لأخشی الله في ترک ذلک منک ومن الأعذار فيه اليک، وإلی أوليائک القاسطين الملحدين وأولياء الشياطين».
ثم يضيف (ع): «ألست القاتل حجر بن عدي أخا کندة وأصحابه المصلين العابدين...قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤکدة جرأةً علی الله وإستخفافاً بعهده.
أولست القاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص)...قتله بعد ما أمنته وأعطيته من العهود ما لو منحه الموصم لزلت منه رؤوس الجبال؟
أولست بمدعي زياد بن سمية المولود علی فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه إبن ابيک وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر فترکت سنة رسول الله (ص) تعمداً، وتبعت هواک بغير هدی من الله، ثم سلطته علی أهل الإسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل أعينهم ويصلبهم في جذوع النخل کأنک لست من هذه الأمة، وليسوا منک.
أولست قاتل الحضرمي الذي کتب اليک فيه زياد إنه علی دين علي (ع) فکتبت اليه: أن أقتل کل من کان علی دين علي فقتلهم ومثّل بهم...»(5).
وهکذا تصاعدت حدة الصراع السياسي وجعلت الرسالة الثانية للإمام (ع)، مسرح الصراع أمام مفترق طرق کان لابد لمعاوية أن يجيب عليها کتحديات جديدة، ولکن بأية طريقة وأية أسلوب؟
سؤال عريض ربما طرحه معاوية لأکثر من مرة علی نفسه لمجابهة مثل هذه التطورات، وربما جعلته يتوقف قليلاً ليعيد النظر في طريقته وأسلوبه في التعامل مع الإمام الحسين وخط أهل البيت (ع). ولکن الأحداث سارت بصورة متسارعة مما جعل من التريث بالنسبة للحزب الأموي أمراً خطيراً يهدد وجوده کله.
يزيد في مواجهة المد الرسالي:
لقد جعل الحزب الأموي من الحکم والخلافة الإسلامية حقاً شخصياً موروثاً فبعد أن مات معاوية خلّف يزيداً إبنه علی الأمة الإسلامية في ظل مناخ سياسي يشهد تطورات أحداث الأزمة في مسرح الصراع.
واستسلم يزيد زمام الأمور وهو علی دراية بأوجه الصراع وجذوره.
ولذلک فأن أول عمل أراد إنجازه لتحقيق طموحاته في الملک والسيطرة هو أخذ المبايعة من الإمام الحسين (ع)، وربما أراد بذلک أيضاً أن يحقق دفع کل الأمة علی طول الساحة لمبايعته. دون الإمام الحسين (ع).
فکتب يزيد إلی ولاته بأخذ البيعة له من قبل جمهور الناس في المناطق التي يشرفون عليها، وفي المدينة کتب إلی الوليد بن عتبة(6):
«من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلی الوليد بن عتبة أما بعد:
فإن معاوية کان عبداً من عبيد الله أکرمه واستخلفه...وکان عهد إليّ وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتهم علی سفک الدماء وقد علمت يا وليد إن الله منتقم للمظلوم عثمان من آل أبي تراب بآل أبي سفيان لأنهم أنصار الحق وطلاب العدل فإذا ورد عليک کتابي هذا فخذ البيعة لي علی أهل المدينة...ثم کتب صحيفة صغيرة أما بعد فخذ الحسين وعبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً، ليس فيه رخصة، فمن أبي عليک فأضرب عنقه والسلام(7)».
لقد کانت هذه الرسالة تعبّر عن الإهتمام المتزايد لدی يزيد بقضية الإمام الحسين (ع)، وميل الأمة إليه کقيادة شرعية، ورغبته في التخلّص منه کتحدٍ أوحد أمامه، بالذات إذا عرفنا طبيعة حياة البذخ والمجون والترف التي کان قد تربي عليها قبل إستلامه مهام الحکم، وهو يريد الآن مواصلتها والإستمرار فيها، وأن الإمام الحسين (ع) وأتباعه هم الوحيدون الذين يشکلّون خطراً ما حقاً أمام دولته التي يريد اللعب من خلالها.
وبطبع الحال فقد رفض الإمام الحسين (ع) البيعة حينما أستدعاه الوليد وطلب منه ذلک. وهنا ابتدأت مسيرة الثورة تأخذ طريقها التصاعدي في البروز والنمو، حينما علم الإمام (ع) بأمر قتله إن لم يبايع. وبدأ (ع) يوجه عناية أصحابه وأنصاره إلی الإنعطافة الثورية، ويعرفهم حجم التحديات الموجودة التي تهدد رسالة الإسلام وأهمية الدفاع عنها وعن القيم والمبادیء التي جاهد من أجلها الرسول (ص).
ولما تناهي إلی سمع يزيد نبأ رفض الإمام (ع) للبيعة بعث بمائة مسلح لإغتياله حتی لو کان متعلقاً بأستار الکعبة. ولکن يقظة الإمام (ع) جعلته يبادر لترک مکة متوجهاً إلی الکوفة حيث کانت أسباب عديدة تقف وراء إختياره للکوفة منها:
1_ عدم رغبة الإمام (ع) في إثارة الصراع المسلح في مکة، لأن ذلک کفيل بهتک حرمة الکعبة التي جعلها الله داراً للأمن ونهی عن القتال فيها.
2_ إن ترکه لمکة وفي اليوم الثامن من ذي الحجة، إعلان هام لإثارة قضية نهضة الإمام (ع) وبحث الأسباب التي دفعته لترک موسم الحج في مثل هذا اليوم عند عامة المسلمين في أقصی مشارق الأرض ومغاربها ممن يحجون نفس العام في مکة.
3_ إن الکوفة أعلنت عن بکرة أبيها مبايعتها للإمام (ع) وأبدت إستعدادها للقتال في صفه ضد فلول الحزب الأموي القابعة في الشام وعاهدت علی الحرب معه متی شاء.
ومن هنا اختار الإمام (ع) وأنصاره الرحيل إلی الکوفة لتصبح القوة الجماهيرية هناک الأداة التي يتحرک من خلالها لتنفيذ مخططه في القضاء علی الحزب الأموي.
ولکن مسيرة الأحداث التالية جاءت لتقلب کل معادلات الصراع التي کانت تسير في صالح الإمام (ع)، إذ خذل الکوفيون إمامهم الذي بايعوه بالأمس خوفاً من تهديد ووعيد الحزب الأموي، وطمعاً في المال والثروة التي وعدهم بها الأمويون في حال تخلّيهم عن نصرة الإمام (ع) ورجاله.
وهکذا راح سفير الإمام في الکوفة مسلم بن عقيل ابن عم الإمام (ع) ضحية التخاذل والتقاعس، بعد أن کان حاکماً مطلق اليد علی حاضرة الکوفة حينها، وکذا ذهب هاني بن عروة أحد کبار الرساليين والکوادر المتقدمة الذين إعتمد عليهم الإمام (ع) في الکوفة.
وقد وصل خبر مقتلها وغدر الکوفيین بهما إلی الإمام (ع) وهو في طريقه إليهم _إلی الکوفة_ وکان بمثابة هزة عنيفة لکل الآمال والتطلّعات التي جاء بها کل الرساليين(8) من مکة، إذ کان يحدوهم الأندفاع والحماس للقاء کل أولئک الذين کتبوا علی أنفسهم عهوداً ومواثيقاً بالحرب مع الإمام (ع) ضد يزيد في الوقت الذي يأمر به.
حينما وصل نبأ سقوط الکوفة في أيدي الأمويين إلی الإمام (ع) فکّر ملياً في معالجة الموقف مع أصحابه فکان أن خطب فيهم خطبة جاء فيها: «أيها الناس: إنما جمعتکم علی أن العراق لي، وقد أتاني خبر فضيع عن إبن عمي مسلم يدل علی أن شيعتنا قد خذلتنا فمن منکم يصبر علی حر السيوف، وطعن الأسنة فليأت معنا، وإلّا فلينصرف(9)».
ولأول مرة يعلن الإمام الحسين (ع) صراحة وبوضوح لايقبل التأويل رغبته في خوض معرکة مسلحة ضد الحزب الأموي.
ويبدو أن قرار الإمام (ع) بالصبر علی حر السيوف وطعن الأسنة، قرار العارف بالمصير الذي ستؤول إليه المعرکة وهي الشهادة الحمراء.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا أختار الإمام (ع) هذا الطريق لمعالجة الموقف؟
هنا ربما تتعد محاور الإجابة عن هذا التساؤل لکن تبقی حادثة التخاذل الأخيرة عن نصرة مسلم بن عقيل کسفير من الإمام (ع) لأهل الکوفة هي نقطة التحول في إستراتيجية الإمام (ع) لمجابهة الموقف، وقراره بالصبر علی حر السيوف وطعن الأسنة.
إن الحادثة الأخيرة أکدت حقائق عديدة کان الإمام (ع) يحاول إصلاحها في المجتمع الإسلامي إبرزها موت الضمير الإنساني، إذ أصبحت التوجهات الذاتية طاغية علی ما ترفعه المبادیء والقيم من شعائر وممارسات ومواقف، ووصل الحال آنذاک إلی حدٍ خرج فيه التفکير من دائرة القيم والمبادیء إلی دائرة الذات والحفاظ عليها وتحقيق مصالحها. بل تحولت رسالة الإسلام إلی مجرد إنتماء إسمي لا يحمل إلّا رسماً وشکلاً فارغاً يتشرف به من يدعيه. مما ساعد بشکل کبير في تکريس روح التقاعس والتخاذل في نفوس أبناء الأمة، وسرعة إستجابتهم لکل عوامل التثبيط، وبواعث الدعة والکسل وکل ما يؤّمن للذات الراحة والترف.
وهنا کان لابد للإمام (ع) من القيام بعمل يمکن من خلاله أن يوقظ ذلک الضمير الذي أستحوذ عليه الشيطان وأسکنه دار الغافلين وأن ينبّه الأمة من سباتها الذي لفها ولم يکن ذلک إلّا من خلال عمل إستشهادي عظيم، تبرز فيه صورة المأساة بأبشع صورها. فکانت عاشوراء الملحمة الکبری التي أيقظت ضمير الأمة مما بعثها للأنطلاق من جديد وذلک بعد أن فشلت کل الوسائل الأخری من تحقيقه. ذلک رغم المحاولات العديدة التي قام بها البعض من أجل أن يتراجع الإمام (ع) عن قراره الذي أتخذه بالشهادة الدامية.
وتشير بعض المصادر إلی أن يزيداً هو أول من حّرک بعض الأشخاص لإقناع الإمام (ع) بعدم الخروج أساساً إلی العراق فکتب إلی إبن عباس کتاباً جاء فيه: ..أنت کبیر أهل بيتک والمنظور اليهم فأکففه عن السعي في الفرقة ثم کتب أبياتاً منها:
ياقومنا لا تشبوا الحرب إذ سکنت
وأمسکوا بحبال السلم وأعتصموا
فأجاب إبن عباس قائلاً: إني لأرجو أن يکون خروج الحسين (ع) لأمر تکرهه ولست أدع النصيحة له في کل ما يجمع الله به أمر الأمة وتطفی به النائرة؟(10).
وقد جاء إبن عباس بالفعل إلی الإمام (ع) محاولاً إقناعه بضرورة التوقف عن ما إعتزم عليه ومما قاله للإمام (ع): بلغني أنک تريد العراق وأنهم أهل غدر وإنما يدعونک للحرب، فلا تعجل وإن أبيت إلّا محاربة هذا الجبار (يعني يزيد)، وکرهت المقام بمکة فأشخص إلی اليمن ..(11).
کما حاول آخرون ذلک أمثال عبد الله بن عمر الذي جاء الإمام (ع) يشيره بترک الجهاد، بل ودعاه للدخول في بيعة يزيد ومما قال: «يا أبا عبد الله قد عرفت عداوة هذا البيت لکم وظلمهم إياکم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية ولست آمن أن يميل الناس اليه لمکان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونک ويهلک فيک بشر کثير ... وأنا اشير عليک أن تدخل في صالح ما دخل فيه الناس وتصبر کما صبرت من قبل»(12).
وهکذا فعل محمد بن الحنفية الذي لم يجد في نهضة الإمام (ع) أية عوامل للنجاح .. وعرض إبن الزبير علی الإمام (ع) الإقامة في مکة ليبايعه الناس، رغم إنه کان يرغب کثيراً في رحيل الإمام (ع) طمعاً في الخلافة.
وقراءة سريعة لمجمل المحاولات نجد أن خيطاً واحداً يضم الجميع وهو خيط اليأس والتخاذال وحب حياة الراحة والدعة، التي کانت إحدی أخطر إفرازاتها سيطرة الحزب الأموي ورجالاته المعروفين بولعهم بالملذات والشهوات الآنية، علی مقاليد الحکم الإسلامي، في الوقت الذي تضيع فيه من يد أصحابها الشرعيين.
فتقدم الإمام (ع) وهو مدرک بأبعاد العمل الذي ينوي القيام به ودلّل علی ذلک في عدة مواقع، کان يوضح فيها إنه مقتول وعياله تسبی..
وقد حدثت معرکة عاشوراء في صبيحة يوم العاشر من المحرم عام 61 هـ. إستشهد فيها الإمام (ع) مقتولاً هو و72 رسالياً مخلصاً من أصحابه بصورة دموية رهيبة تجتمع فيها کان معاني الألم وصور المأساة(13). لتبدأ بعدها تفاصيل مرحلة جديدة من المواجهة لها ملامحها وخصائصها المتميزة بقيادة الإمام علي بن الحسين (ع). سنأتي علی ذکرها في الفصل التالي.
------------------------
1)وأن الاخبار الأول مرفوض أساساً في حق الإمامة
2)إن معاویة هو أول من قال بالجبر، وهو أن مایحدث کله من أمر الله وقضاءه. وکان کثیراً مایردد الآیة القرآنیة (ویؤتي الملک من یشاء) لیضفي علی حکمه الشرعیة المطلقة، ویحرم کل صوت ینادي بمعارضته کغاصب للحکم من أصحابه الشرعیین.... و أما المرجئة: فقد روح لها الحزب الأموي بقوة لانها جاءت لتبریر الواقع المأساوي الذي یعیشه المسلومن إذ کانت تؤکد علی وجوب إرجاء کل الأمور الی الله سبحانه و تعالی لیکون هو الحکم والفصل. و من أقوالهم المأثورة: إن الایمان قول بلا عمل... وقد راجت أفکار هذین التیارین بشکل کبیر عند بعض شرائح المجتمع الاسلامي ممن سئموا الحروب وآثروا الدعة.
3)وهم شهداء المواجهة المسلحة في معرکة عاشوراء.
4)الامام الحسین (ع)/ العلامة المدرسي.
5)راجع الامام الحسین/ المصدر السابق.
6)هو الوالي الجدید الذي نصبه یزید علی المدینة بدلاً عن مروان.
7)تاریخ الیعقوبي: ج 2 ص 215.
8)تقدر بعض المصادر التاریخیة أن عدد الذین خرجوا مع الامام (ع) من مکة قاصدین الکوفة زهاء ألف شخص.
9)بلاغة الامام الحسین(ع)/ص 69.
10)ابن عساکر/ ج4 ص 221.
11)مروج الذهب المسعودي/ج3 ص 64.
12)مع الحسین في نهضته/ أسد حیدر/ ص 144.
13)وتفاصیل هذه المعرکة لازالت تتواصل من علی منابر المآتم الحسینیة التي یقیمها المحبون لآل البیت (ع) وذلک بعید حادثة الطف وحتی یومنا هذا، لتکون علامة مضیئة في تاریخ کل الرسالیین في العالم.
source : www.sibtayn.com