من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.
الإمام علي (ع) وتجربة الصراع الشامل 10_40 هـ(القسم الأول)
لماذا تحتاج الأمة إلی «قيادة»؟
سؤال كان لابد من الإجابة عليه قبل الحديث عن مسيرة الأحداث التي لحقت برسالة الإسلام في عهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بالذات لأن موضوع القيادة هو من أهم الموضوعات التي ينبغي فهمها ووعيها بصورة دقيقة ومحكمة كل ذلك لأن مستقبل الأمة مرهون بمقدار رشدها القيادي.
وبطبع الحال فإن حاجة الأمة أو الحركة إلی قائد نابع من عدة عوامل:
1_ حفظها من التشتت والضياع: فما الذي يحفظ مسيرة الحركة أو الأمة وهي تتعرض في اليوم الواحد بل اللحظة الواحدة إلی جملة من الأحداث التي يمثل بعضها تحديا صارخا في تقدم مسيرتها والذي ربما يهددها بالإنكسار ومن ثم التشتت والضياع، غير وجود مايكفل ويحفظ لها توازنها واندفاعتها وحيويتها في مختلف مراحل العمل وتطورات الأحداث فيه، ولايمكن أداء هذا الدور إلّا من خلال المركز القيادي يتصدر قمة العمل والحركة.
2_ حفظ الإنجازات والمكاسب التي حققتها وهي من أهم وأبرز معطيات الدور القيادي في الأمة أو الحركة بالذات لأن من يتحمل دور القائد سيكون حريصا كل الحرص علی المنجزات التي حققتها الحركة أو الأمة خلال مسيرتها الماضية من التحريك والجهاد.
3_مواصلة التحرك لتحقيق كامل الأهداف الرسالية: وهي أهم مسؤولية يضطلع بها دور القائد، فهو المخطط الرئيسي لكافة مشاريع العمل الميدانية علی الساحة ومسؤولية هذا الدور تقتضي بلا شك تحقيق كامل الأهداف الرسالية العليا التي جاهدت من أجلها الحركة والأمة طوال السنوات الماضية وتم في طريقها تقديم التضحيات الجسام، حيث سجلت خلالها أروع الملاحم والبطولات بعطاء طلائعها وكوادرها حتی الإستشهاد.
هذه ثلاثة عوامل أساسية تجعل من «القيادة» حاجة ملّحة للحركة، أثرنا إبرازها في الموقع حرصنا منا علی أهمية تبيانها ونحن في صدد الحديث عن مسار «الإسلام» بعد إستشهاد الرسول الأكرم (ص)، فما الذي حدث بعد إستشهاده (ص)؟ وما هو موقف الإمام علي (ع) كقائد للأمة، كان الرسول (ص) قد عينه قبيل استشهاده أمام مرأی ومشهد من الأمة_ كما سيأتي؟
هناك أربع موضوعات هامة ينبغي تناولها عن دراسة الإمام علي (ع)، لأنها تمثل المحاور التي تأثرت بها استراتيجيته في التحرك نظرا لوزنها وثقلها السياسي والإجتماعي من جهة، ولأنها تقف وراء كل الأحداث والتطورات التي تلف الساحة وبمختلف أنواعها من جهة ثانية، وهذه الموضوعات هي:
1/ موقوف الإمام علي (ع) من حادثة السقيفة.
2/ موقفه (ع) من الخلفاء.
3/ موقفه (ع) من إستلام دفة الحكم.
4/ موقفه (ع) من الفتن والصراع مع الحزب الأموي.
أولاً: موقف الإمام علي (ص) من حادثة السقيفة:
رغم مبايعة عامة المسلمين للإمام علي (ع) للتصدي لأمورهم بعد الرسول (ص) في الثامن عشر من ذي الحجة للسنة العاشرة من الهجرة في غدير خم بأمر رسول الله (ص) الذي نصّبه خليفة من بعده إلّا أن مجريات الأمور فيما بعد إستشهاده (ص) حال دون اجراء أهم بنود وصاياه للأمة.
بل جرت محاولات تحريف مسار الأمة في اللحظات الأخيرة من حياة الرسول (ص)، فقد جاء في رواية البخاري من كتاب المرضی والطلب أنه أجتمع عند رسول الله (ص) رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال لهم النبي (ص) هلّموا أكتب لكم كتابا لاتضلّوا بعده أبدا «فقال عمر بن الخطاب: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا القرآن، حسبنا الله» وفي بعض روايات البخاري قال بعضهم ما شأنه أهجر؟!
ولقد برر الخليفة الثاني ذات مرة اتهامه للرسول (ص) بغلبة الوجع عليه بأنه لم يكن يری مصلحة في استخلاف النبي للإمام علي (ع).
جاء في شرح بن أبي الحديد: روی أحمد بن إبن طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد مسندا عن إبن عباس قال: دخلت علی عمر بن الخطاب في أول خلافته، وقد القی له صاع من تمر علی خصفة فدعاني إلی الأكل فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتی أتی عليه، ثم شرب من جز كان عنده وأستلقي علی مرفقه وطفق يحمد الله، يكرر ذلك، ثم قال: من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلفت ابن عمك_ فظننته يعني عبد الله بن جعفر_ قلت: خلفته يلعب مع أتراب له، قال: لم أعن ذلك، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالقرب علی نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن، قال: يا عبد الله عليّ دماء البدن إن كتمتنيها، هل بقي شيء من أمر الخلافه؟ قلت: نعم، قال: أيزعم إن رسول الله نص عليه، قلت: نعم، وأزيدك سألت أبي عما يدعيه، فقال: صدق، فقال عمر: لقد كان رسول الله في أمره ذرو من قول لايثبت به حجة ولايقطع عذرا، ولقد كان يرجع في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرح بأسمه فمنعت من ذلك أشفاقاً وحيطة علی الإسلام، لا ورب هذه البنية لاتجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها لانتفضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسك وأبی الله إلّا إمضاء ماحتم.(1)
وهكذا تم التخطيط في أواخر حياة الرسول الأكرم (ص) لتحريف المسار الذي اراده أن يتم بعد إستشهاده للأمة، تجسدت تفاصيلها فيما بعد بحادثة «السقيفة».
حادثة السقيفة:
فتحت حادثة السقيفة بابا من أخطر أبواب الإنحراف والفتنة الذي مرت بها الأمة الإسلامية منذ ولادة «الإسلام» وحتی لحظة إستشهاد النبي الأكرم (ص)، وقد صرح عمر بذلك فيما بعد عدة مرات وكان يقول في كل مرة: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي الله المسلمين شرها فمن عاد إلی مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنما تغره يجب أن يقتلا»( 2).
وتمت حادثة «السقيفة» بينما الإمام علي (ع)، وثلة من أصحابه مشتغلون بتجهيز الرسول (ص) استعدادا لأيوائه المثوی الطاهر، وقد قال الإمام علي (ع) بعد الحادثة تلك مبينا أحقيته بأمر الخلافة: «ولقد قبض رسول الله (ص) وأن رأسه لعلی صدري، ولقد سألت نفسه في كفي، فأمررتها علی وجهي، ولقد وليت غسله (ص) والملائكة أعواني، فضجت الدار والأفنية، ملأ يهبط ويعرج وما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلون عليه حتی واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حيا وميتا»(3).
الخارطة السياسية بعد إستشهاد الرسول (ص) كانت تتوزع بين ثلاث قوي ذات إتهاجات مختلفة وهي:
1_ الحركة الإسلامية بقيادة الإمام علي (ع) مع ثلة من الأنصار وقليل من المهاجرين، وهي الامتداد الشرعي للتحرك الذي قام به الرسول الأكرم (ص).
2_ المهاجرين وقليل من الأنصار وهم اللذين إجتمعوا، وبينهم تمت أحداث «السقيفة».
3- الحزب الأموي بقيادة أبي سفيان، ولكن هذا الحزب يمثل القوة الضاغطة من وراء الأحداث واليد الخفية التي تحرك الأوضاع السياسية حينها لإنتشار قوی الحزب في عموم الجزيرة العربية، وتراكم التجربة القيادة لدی قادة الحزب خلال سنوات المواجهة مع الرسول (ص) وكذا إمتلاك الحزب للتكثير من الرجال والأموال الطائلة.
ورغم ذلك فإن الحزب الأموي كان منبوذا وغير مقبول من الوجهة السياسية الصرفة للتصدي لأمور الناس، اذ لاتزال ذكريات الحروب وحالات القمع، والارهاب، والتشريد، والتعذيب التي طالت المؤمنين علی أيدي رجالات الحزب، ماثلة في أذهان المسلمين، ومن هنا لم يكن الحزب الأموي قادرا علی طرح نفسه كسلطة سياسية علی المسلمين لا أقل في مثل هذا الوقت.
ولقد حاول الحزب من خلال أبي سفيان التقرب للإمام علي (ع) كقيادة لأحد أهم القوی السياسية المؤثرة في خارطة الحياة السياسية والإجتماعية عند عامة المسلمين، وتقول بعض النصوص التاريخية إن أبا سفيان مشی إلی الإمام علي (ع) بعد رحيل رسول الله (ص) فانخاه للمطالبة بحقه ووعد بأن يملأها خيلا ورجلا، فرفض الإمام علي (ع) ذلك بقوة، ثم القی خطابا وضح فيه رؤيته التي علی أساسها إتخذ موقفه وفيها يقول: « أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا عن طريق المناقرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أو إستسلم فأراح هذا (الملك) ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها ومجتني الثمرة لوقت غير إيناعها، كالمزارع بغير أرض فإن أقلّ، يقولوا حرص علی الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت»(4) .
وهكذا تم إحباط محاولة الحزب الأموي للتقرب إلی الحركة الإسلامية، إلّا أنه بعد حادثة السقيفة وبُعد الإمام علي (ع) عن السلطة السياسية والعسكرية للمسلمين، أصبح الواقع السياسي ومواقف القوی الثلاث الرئسية المتصارعة فيه بالشكل التالي:
أولاً: سيطرة الخط التقليدي المحافظ في الأمة علی السلطة السياسية بطريقة غير مشروعة، وتوجه هذا الاتجاه للعمل والنشاط ضمن المحاور التالية:
1_ التغطية علی حادثة السقيفة علی أنها الخيار الوحيد لفض النزاعات المتحملة بين مختلف شرائح المجتمع الإسلامي.
2- العمل علی كسب مختلف الشرائح والفئات التي يتشكل منها المجتمع الإسلامي من خلال وعودهم بمواقع متقدمة في أجهزة الدولة الإسلامية وفي مقدمتها الجيش.
ثانياً: طبيعة موقف الحزب الأموي الذي فرصته مسيرة الأحداث، فلم يكن الحزب قادرا _ كما أسلفت قبل قليل ¬_ علی ممارسة أي نشاط سياسي يسهم في طرح الحزب وقادته في الواجهة نظرا لطبيعة الصراع والموقف الذي إلتزم به الحزب في محاربة المسلمين ونشوب عدد من الحروب التي راح ضحيتها أعداد من المسلمين، ولذلك إتجهت إستراتيجية الحزب الأموي في فترة ما بعد إستشهاد الرسول الأعظم (ص) بإتجاه تقوية البناء الداخلي للحزب وتهيئة لتحمل أدوار أساسية في مسيرة العالم الإسلامي.
ولتحقيق هذا الغرض إبتدأت محاولات الحزب عبر محاور عديدة لكسب بعض المسلمين من الذين كانوا قريبين من الرسول (ص)، وربما كانوا مرشحين لتبوء أدوار ومسؤوليات خطيرة في الأمة الإسلامية، وقد لعبت الثروة الطائلة عند الحزب دورا بارزا في إغراء العديد من رجالات المسلمين الذين لما يدخل الإيمان الحق في قلوبهم.
ثالثاً: موقف الإمام علي (ع) الذي إتسم بمرونة فائقة للتعاطي مع واقع الأحداث، تجلی ذلك بوضوح بعد حادثة السقيفة.
والسؤال كيف كان ينبغي أن يكون موقف المسلمين بقيادة الإمام علي بن أبي طالب (ع) بعد أن تمت مخالفة وصية الرسول (ص) في خلافة المسلمين بعده.
في المواقع أنه لم تكن هناك أكثر من ثلاثة خيارات أمام الإمام علي (ع) وأتباعه لتجاوز هذه المحنة بموقف رسالي حكيم.
فالخيار الأول كان يتمثل في حمل السيف وإسترداد الحق بالقوة.
والخيار الثاني: الرضوخ للأمر الواقع وإعلان البيعة للخط التقليدي المحافظ الذي إنتزع منه حقه الشرعي في الخلافة.
والخيار الثالث: إتخاذ موقف يتسم بالعقلانية، والعمل علی معالجة الموقف بشكل يتناسب مع واقع الأمة من ناحية وعيها وقدراتها.
وبطبع الحال فإن الإمام علي (ع) لم يشأ حمل السيف لتنفيذ وصية الرسول (ص) بشأن خلافته من بعده لتولي قيادة الأمة وذلك لسببين:
أولهما: لأنه لم يجد تجاوبا كافيا من المؤيدين، مما كان يجعل إعلان المجابهة برفع السلاح نوعا من المغامرة والمخاطرة.
وثانيهما: لأن طبيعت الأوضاع تفرض عليه إتباع غير هذا المنهج، خاصة وأن هناك خشية علی إرتداد عدد غير قليل من المسلمين الذين دخلوا الإسلام توا.
وبعبارة أخری لم يكن عامة المسلمين، في مثل ذلك الوقت يمتلكون وعيا كافيا بالإسلام ولا إيمانا صادقا به، فلذلك كان رفع السلاح في مثل هذه الظروف خطوة فاشلة ربما يعود خطرها ليشمل الإسلام ذاته وهذا أشد ما كان يخشاه الإمام علي (ع)، وقد وضح ذلك في مواقف عديدة إذ قال: «لقد علمتم إني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور الّا عليّ خاصةً»(5).
أما الخيار الثاني فهو مرفوض أيضا فليس الرضوخ للأمر الواقع والإستسلام له أمرا مقبولا ولا هو قضية منطقية سليمة ولا موقفا عقلائيا حكيما حتی بالنسبة للحركات السياسية والفكرية المحضة وإن كانت تؤمن بقضايا وأهداف مغايرة تماما لذلك الواقع، فكيف إذا كانت الحركة تجمع بين هذا وربانيتها في وقت واحد، فإنه ليس من الصحيح علی أية حال الوقوف أمام الواقع السيء برفع الرايات البيض، لتناقضه في كل الأحوال مع أبسط غايات الفكر والأهداف التي إنبثقت من أجلها الحركة ومناف أيضا للمقومات التي قامت علی أساسها.
ويبقی الخيار الثالث وهو الموقف العقلائي الأمثل من بين هذه الخيارات، والذي يقتضي مجابهة الواقع بالأساليب والوسائل المناسبة وحسب مقتضيات الفكر الذي يحملها الإنسان أو تتبناه الحركة.
وقد كان موقف الإمام علي (ع) في المطالبة بحقه يتسم بأقصی مستويات الدراية والمعرفة والإحاطة الشاملة نظرا لما كان يتمتع به كإمام معصوم عن الخطأ ومنزّه عن الزلل، ومسدد بالعناية الإلهية.
ومن هنا فإنه لم يلجأ في المطالبة بحقه إلی السيف لتلافي تعريض المخلصين من أبناء الأمة لخطر التصفية والإبادة كما أنه لم يتخذ السكوت الذليل ولم يرض به، وإنما قام بأداء مسؤوليته ودوره الرسالي كما كان ينبغي فضلاً عن أنه لم يعط عمل الخط التقليدي في السقيفة الشرعية التي كانوا يطلبونها لإمضاء الحادثة وذلك بإمتناعه عن البيعة لمدة طويلة(1) فإنه مشی إلی المهاجرين والأنصار يحرضهم علی الدفاع عن حقه، كما دفع كبار شيعته من كوادر الحركة الإسلامية للعمل علی المحافظة علی تماسك الأمة ووحدتها.
---------
(1) قضاء أمير المؤمنين/ ص 320.
(2)من كتاب الملل والنحل للشهرستاني.
(3) نهج البلاغة / صبح الصالح / ص 311.
(4)نهج البلاغة/ خطبة رقم (5).
(5) البحار/ج28 ص 102
source : www.sibtayn.com