عربي
Thursday 26th of December 2024
0
نفر 0

الإمام الرضا (ع) وتجربة المشارکة السياسية في الحکم(القسم الثاني)

الإمام الرضا (ع) وتجربة المشارکة السياسية في الحکم(القسم الثاني)

من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.

الإمام الرضا (ع) وتجربة المشارکة السياسية في الحکم(القسم الثاني)

القبول بولاية العهد لمواصلة العمل الرسالي:

علی کلٍ وافق الإمام (ع) مکرهاً علی تسلم مهام ولاية العهد للمأمون، وبدأ يقود العمل الرسالي وهو أحد أقطاب الدولة الإسلامية رسمياً، مستفيداً من الإمکانات التي یتيحها وجوده هذا المنصب لتکريس تيار التحرک الإسلامي الذي يقوده في الساحة وتدعيم وجوده. فقد أتت الفرصة للتحرک بشکل أکثر حرية من ذي قبل، وها هي جموع الرساليين بدأت تستثمر مناخ الحرية في مواصلة أعمالها ونشاطاتها الرسالية الخلاقة في الساحة، دون خوف أو وجل من الممارسات المضادة التي تقوم بها السلطات الحاکمة ضد کل تحرک رسالي يهدف إلی نشر الفضيلة والهدی في ربوع الأمة، وإلی مقاومة کل إنحراف وإستهتار تقوم بها السلطات الحاکمة ضد القيم.

وفضلاً عن کل ذلک فقد واجه الإمام (ع) خطة المأمون التي وضحها له في الرواية المتقدمة بما يلي:

1_ کشف حقيقة إندفاع المأمون تجاه الإمام (ع) وإبداء رأيه الرافض إزاء ولاية العهد. ففي أکثر من موقف يوضح الإمام (ع) رفضه، علی أنه وافق علی تسلم زمام أمور ولاية العهد مکرهاً ومرغماً علی ذلک.

يقول الإمام الرضا (ع): قد نهاني الله_عزوجل_ أن ألقی بيدي إلی التهلکة، فإن کان الأمر علی هذا فافعل مابدا لک، وأنا أقبل ذلک علی أني لا أولّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولاسنة وأکون في الأمر من بعيد مشيراً، فرض منه بذلک وجعله ولي عهده علی کرهة منه لذلک(5).

2_ إشتراط الإمام (ع) عدم ممارسة أي لون من ألوان السلطة السياسة التنفيذية، مما يبعد الشبهة التي أراد المأمون تريجها ضد الإمام (ع) علی أنه طالب سلطة ورئاسة.

يقول الإمام (ع): بعد موافقته عی ولاية العهد علی أن أکون من بعيد مشيراً_الحديث الآنف الذکر_.

وهکذا تمکن الإمام (ع) من إحباط محاولة المأمون تشوية صورة الإمام (ع) في أذهان الأمة وکذا إستفاد من موقفه کولي للعهد من تثبيت دعائم التحرک الرسالي في الأمة وفي أجهزة الدولة، مما أعطاه أکثر قوة وانتشاراً ونفوذاً، رغم أن المأمون حاول من خلال تقريب الإمام (ع) أحتواء التموجات الجماهيرية الغاضبة هنا وهناک في أرجاء الدولة الإسلامية.

وقد يظن البعض ببساطة أن المأمون تمکن من تحقيق أحد أبرز أهدافه من تقريب الإمام (ع) وهو أحتواء أجواء الإضطراب التي أخذت تشل شيئاً فشيئاً قدرات الدولة العباسية، وجعلتها تعاني من الضعف والإنهيار. لکن حقيقة الأمر تکشف لنا عکس هذا الإتجاه تماماً ذلک أن الإمام (ع) قد عمل من أجل إستثمار فرصة وجود کولي للعهد في تأکيد الخطوط الفکرية الرئيسية للنظرية الإسلامية وتبيان الکثير من الحقائق المهمة حولها بما لا يمکن ممکناً في ظروف المواجهة السلبية مع السلطات القائمة.

کما أن من أبرز الأمور الخطيرة التي حاول المأمون تحقيقها وراء تفريب الإمام (ع) هو محاولة عزله عن قواعده الشعبية، فوجود الإمام ضمن السلک الحاکم يجعل کل تصرفاته وحرکاته ضمن الأجواء الرئاسية التي هو فيها، إذ تتطلب منه حضور دائم وواضح عند الخليفة الحاکم، هذا مما يجعل إتصالاته وسائر تحرکاته محصورة في دائرة الحکم ونطاق المهنة السياسية الوظيفية التي کان يتحملها کولي للعهد، لکن الإمام (ع) إستطاع بفعل موقفه الواضح من بني العباس ومن دولتهم أن يبقي علی دوره الأهم والأساسي في الأمة.

ومن خلال دراستنا لمنهج تحرک الائمة (ع) نجد أن غاية التحرک الرسالي هو أفراد الأمة، فمنهم الإنطلاقة وإليهم تتحقق غاياتها فتصبح الأمة هي الوسيلة (الأداة)، وهي الغاية (الهدف) في نفس الوقت.

ولاشک أن الإمام الرضا (ع) لم يکن منصب ولاية العهد ليبعده عن قواعده الشعبية وعن الأمة التي هي نتاج سلسلة متواصلة ومتلاحقة من العمل والعطاء لحرکة الائمة (ع) لابد من المحافظة عليها کأهم الإنجازات التي تحققت منذ النشوء لحد الآن.

 

الإمام الرضا (ع) يواصل نشاطه الفکري:

هذا عن التحرک السياسي للإمام الرضا (ع) فماذا عن المسألة الفکرية؟

لم تکن المسألة الفکرية والعقائدية في عهد الإمام الرضا (ع) بأفضل حال مما کانت عليه في عهود ومراحل عمل الائمة (ع) السابقين. ولذا فإننا نجد تحرک الإمام الرضا (ع) واضحا علی جبهة الفکر والعقيدة، إضافة إلی دوره السياسي المستمر في الأمة.

إن التحرک الرسالي يقوده الائمة (ع) هو تحرک حضاري يتسم بالشمولية ولذا فإن أهدافها لايمکن أن تنحصر في دائرة ما دون سواها، ذلک أن أي نقص في اي من إتجاهات التحرک من شأنه أن يلصق بها ضعف وثغرات عديدة وفضلاً عن ذلک فإنه يصبح ذا بعد واحد في الإتجاه أو إنه تحرک تجزيئيٌ مريض، فالخلل الذي تعاني منه الأمة ليس خللاً معيناً بذاته في الإقتصاد، أو السياسة کما يظن بعض البسطاء وإنما هو منحدر بشکل أعمق من مشکلة الوعي والحضارة وهي أکبر من أن تحدها حدود السياسة أو الإقتصاد أو أي لون من ألوان القوة والسيطرة.

وبما أن تيارات الإنحراف في الأمة إنطلقت وليقت من دعم ومساندة أصحاب النفوذ والقوة والوجاهة السياسية، فإنما ظلت تتواصل لتضرب بجذورها أعماق الواقع المعاش، ولم تسترح الأمة يوماً ما عن مجابهة تلک التيارات التي تغذيها السلطات الحاکمة بغية إفشال إطروحة الائمة (ع) علی أنهم أصحاب الحق والفضيلة من بين البشر.

ومن هنا نجد أن حياة کل إمام من الائمة الهداة المهديين لاتخلو من سجل حافل بالمساجلات والحوارات العلمية والعقائدية المهمة.

وهذه حياة الإمام الرضا (ع) _أيضاً_ حافلة بعدد غير قليل من هذه الحوارات والنقاشات التي دارت بينه (ع) وبين بعض أدعياء العلم والمعرفة في عصره حتی قال عنه محمد بن عيسی اليقطيني: جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب فيه ثمانية عشر ألف مسألة. ويقول إبراهيم بن العباس الصوري: ما رأيت الرضا (ع) سئل عن شيء إلا علمه(6).

وإليک _عزيزي القاريء_ إحدی تلک المداولات التي أفحم فيها الإمام (ع) من تجمعوا أو أجمعوا حوله، فقد روي عن الهاشمي قوله(7). أنه لما قدم الإمام علي بن موسی الرضا (ع) علی المأمون أمر الأخير الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل: الجاثليق، ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين، والهربذ الأکبر، وأصحاب زردشت، وسفاس الرومي وسائر المتکلمين ليسمع کلامه وکلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل ثم أعلم المأمون بإجتماعهم فقال: أدخلهم عليّ ففعل، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم: إني إنما جمعتکم لخير، وأحببت أن تناظروا إبن عمي هذا المدني القادم عليّ، فإذا کان بکره فاغدوا علي ولا يتخلف منکم أحد. فقالوا: السمع والطاعة أمير المؤمنين نحن مبکرون إن شاء الله تعالی.

قال: فبينما نحن حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (ع) إذ دخل علينا ياسر وکان يتولی أمر أبي الحسن (ع) فقال: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤک السلام ويقول: فداک أخوک أنه إجتمع إليه أصحاب المقالات، وأهل الأديان والمتکلمون من جميع الملل، فرأيک في البکور علينا إن أحببت کلامهم، وأن کرهت ذلک فلا تتجثم وإن نصير إليک خف ذلک علينا، فقال أبو الحسن (ع): أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليک بکرة إنشاء الله تعالی.

قال الحسن بن النوفلي الهاشمي: فلما مضی ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي وورقة العراقي غير غليظة، فما عندک في جمع إبن عمک علينا أهل الشرک وأصحاب المقالات؟

فقلت: جعلت فداک يريد الإمتحان ويجب أن يعرف ما عندک ولقد بنی علی أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بني.

فقال لي: وما بناوءه في هذا الباب؟

قلت: إن أصحاب الکلام والبدع خلاف العلماء، وذلک ان العالم لا ينکر غير المنکر، وأصحاب المقالات والمتکلمون وأهل الشرک وأصحاب انکار ومباهته، ان احتججت عليهم بأن الله تعالی واحد: صحّح وحدانية وإن قلت: إن محمداً رسول الله (ص) قالوا: ثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل فيبطلون عليه حجته، ويغالطونه حتی يترک قوله، فأحذرهم جعلت فداک.

فقلت: لا والله ما خفت عليک قط، وإني لا رجو أن يظفرک الله عليهم إن شاء الله تعالی.

فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متی يندم المأمون؟

قلت: نعم!

قال: إذ إسمع إحتجاجي علی أهل التوراة بتوراتهم، وعلی أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلی أهل الزبور بزبورهم، وعلی الصائبين بعبرانيتهم، وعلی أهل الهرابذ بفارسيتهم، وعلی أهل الروم بروميتهم، وعلی إصحاب المقالات بمقالاتهم. فإذا قطعت کل صنف ودحضت حجته وترک مقالته ورجع إلی قولي. علم المأمون أن الموضع الذي هو بسبيله ليس بمستحق له، فعند ذلک تکون الندامة، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل، فقال له: جُعلت فداک إن عمک ينتظرک وقد إجتمع القوم فما رأيک في إتيانه؟ فقال له الرضا (ع) تقدمني وإني صائر إلی ناحيتکم إنشاء الله ثم توضأ (ع) وضوءه للصلاة وشرب شربه سويق وسقانا منه، ثم خرج وخرجنا معه حتی دخلنا علی المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله ومحمد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور.

فلمّا دخل الإمام الرضا (ع) قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم فمازالوا وقوفاً والإمام الرضا (ع) جالس مع المأمون حتی أمرهم بالجلوس فجلسوا فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ثم التفت إلی الجاثليق فقال: يا جائليق هذا إبن عم لي هو علي بن موسی بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي إبن أبي طالب (ع) فأحب أن تکلمه وتحاججه وتنصفه، فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين کيف أحاج رجلاً يحتج عليّ بکتابٍ أنا منکره ونبي لا أومن به.

فقال الرضا (ع): يا نصراني فإن إحتججت عليک بإنجليلک أتقرّ به؟ قال الجاثليق: وهل أقدر علی دفع ما نطق به الأنجيل، نعم والله أقرّ به علی أنفي.

ثم قرأ الإمام الرضا (ع) عليه الإنجيل وأثبت عليه أن نبينا (ص) مذکور فيه ثم أخبره بعدد حواري عيسی (ع) وأحوالهم، وإحتج بحجج کثيرة أقرّ بها ثم قرأ عليه کتاب أشعيا إلی أن قال الجاثليق: «ليسألک غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلک، فالتفت الرضا (ع) إلی رأس جالوت واحتج عليه بالتوراة والزبور وکتاب أشيعا وحبقوق، حتی أفحم ولم يُحر جواباً ثم دعا (ع) باهربذ الأکبر وإحتج عليه حتی إنقطع هربذ مکانه، فقال الرضا (ع): يا قوم ان کان فيکم أحد يخالف الإسلام وأراد أن يسأل غير محتشم، فقام إليه عمران الصابي وکان واحداً من المتکلمين، فقال: يا علم الناس لولا أنک دعوت إلی مسألتک لم أقدم عليک بالمسائل، فلقد دخلت الکوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتکلمين فلم أقع علی أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانية افتأذن أن أسألک.

قال الأمام الرضا (ع): إن کان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو: قال أنا هو.

قال: سل يا عمران، وعليک بالنصفة، وإياک والجور، فقال: والله يا سيدي ما أريد إلّا أن تثبت لي شيئاً: تعلق به فلا اجوزه، قال: سل عما بدا لک فأزدحم الناس وانضم بعضهم إلی بعض فاحتج الرضا (ع) عليه وطال الکلام بينهما إلی الزوال، فالتفت الرضا (ع) إلی المأمون فقال: الصلاة قد حضرت: فقال عمران: يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.

فقال الإمام الرضا (ع): نصليّ ونعود، فنهض المأمون فصلی (ع) داخلاً وصلی الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر ثم خرجا فعاد الرضا (ع) إلی مجلسه ودعا بعمران، فقال: يا عمران، فسأله عن الصانع تعالی وصفاته وأجيب إلی أن قال: فهمت يا عمران؟ قال: نعم يا سيدي قد فهمت، وأشهد أن الله علی ما وصفت ووحدت. وان محمداً عبده المبعوث بالهدی ودين الحق، ثم خر ساجداً نحو القبلة وأسلم.

قال الحسن بن محمد النوفليّ: فلمّا نظر المتکلمون إلی کلام عمران الصابي وکان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد قط. فلم يدن من الإمام الرضا (ع) أحد، فدخلا وإنصرف الناس، فکان عمران بعده يجتمع إليه المتکلمون من أصحاب المقالات فيطل أمرهم حتی إجتنبوه.

وروی عن محمد بن الفضل الهاشمي قال: فلمّا کان اليوم الثالث من دخولي البصرة إذا بالرضا (ع) قد أتی فقصد منزل الحسن بن محمد فأخلی له داره، وقام بين يديه يتصرف بين أمره ونهيه فقال: يا حسن بن محمد أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمد بن الفضل وغيرهم من موالينا، وأحضر جاثليق النصاري ورأس الجالوت والقوم يسألون کما بدالهم. فجمعهم کلهم والزيديه والمتعزلة وهم لا يعلمون لماذا يدعوهم الحسن بن محمد. فلمّا تکاملوا ثنّی الرضا (ع) وسادة فجلس عليها ثم قال: (السلام عليکم ورحمة الله وبرکاته، هل تدرون لم بدأتکم بالسلام). قالوا: لا

قال: لتطمئن أنفسکم.

قالوا: من أنت يرحمک الله.

قال: أنا علي بن موسی بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وابن رسول الله (ص) صليت اليوم الفجر في مسجد رسول الله (ص) مع والي المدينة. وأقرأني بعد أن صلينا کتاب صاحبه إليه، واستشارني في کثير من أموره فأشرت عليه بما فيه الخطر له ووعدته أن يصير إليَّ بعد العصر من هذا اليوم ليکتب عندي جواب کتاب صاحبه وأنا واف له بما وعدته ولا حول ولا قوة إلّا بالله.

فقالت الجماعة: يا إبن رسول الله (ص) ما نريد مع هذا الدليل برهاناً وأنت عندنا الصادق القول، وقاموا لينصرفوا فقال لهم الإمام الرضا (ع) (لاتتفرقوا فإني انما جمعتکم لتسألوا عما شئتم من آثار النبوه وعلامات الإمامة. التي لا تجدونها إلّا عندنا أهل البيت فهلموا مسائلکم).

فإبتدأ عمران بن هدّاب وکان ينحو نحو التزيد فقال: ان محمد بن الفضل الهاشمي ذکر عنک أشياء لا تقبلها القلوب. فقال الإمام الرضا (ع): وما تلک؟

قال: أخبرنا عنک أنک تصرف عمل ما أنزل الله وإنک تعرف کل لسان ولغة فقال الرضا (ع):

أصدق محمد بن الفضل فأنا أخبربته بذلک فهلموا فأسألوا.

قال: فإنا نختبرک قبل کل شيء بالألسن واللغات وهذا رومي وهذا هندي وفارسي وترکي، فأحضرناهم، فقال (ع): فليتکلموا بما أحبوا، فأجيب کل واحد منهم بلسانه إنشاء الله: فسأله کل واحد منهم بلسانه ولغته فأجابهم عما سألوا بألسنتهم ولغاتهم فتحير الناس وتعجبوا وأقروا جميعاً بأنه أفصح منهم بلغاتهم، ثم نظر الرضا (ع) إلی إبن هداب فقال: أخبرتک أنک ستبتلی في هذه الأيام بدمٍ ذي رحم لک کنت مصدقاً لي؟

قال: لا...فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالی.

قال (ع): أوليس الله يقول:

(عالم الغيب فلا يُظهر علی غيبه أحداً، إلّا من إرتضی من رسول).

_الجن:27.

(فرسول الله عند الله مرتضی ونحن ورثة ذلک الذي أطلعه الله علی ماشاء من غيبه، فعلمنا ما کان وما يکون إلی يوم القيامة وإن الذي أخبرتک به يا إبن هداب لکائن إلی خمسة أيام فإن لم يصح ما قلت في هذه المدة فإني کذاب مفتر، وان صح فتعلم أنک الراد علی الله ورسوله، ولک ولا له أخری، أمّا أنک ستصاب ببصرک وتصير مکفوفاً فلا تبصر سهلاً ولا جبلاً، وهذا کائن بعد أيام، ولک عندي دلالة أخری أنک ستحلف يميناً کاذباً فتصاب بالبرص).

قال محمد بن الفض: تالله لقد نزل ذلک کله، بإبن هداب، فقيل له: صدق الرضا أم کذب؟

قال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنه کائن، ولکنني کنت أتجلد، ثم إن الرضا إلتفت إلی الجاثليق فقال: هل دلَّ الإنجيل علی نبوّة محمد (ص)؟

قال: لو دلِّ الإنجيل علی ذلک ما مجدناه. فقال (ع):

(أخبرني عن السکته التي لکم في السفر الثالث).

فقال الجاثليق: إسم من أسماء الله تعالی لا يجوز لنا أن نظهره.

قال الرضا (ع): (فإن أقررتک أنه إسم محمد، وذکره وأقر عيسی به وأنه بشر بني اسرائيل بمحمد لتقر به ولا تنکره؟

قال الجاثليق: إن فعلت أقررت فإني لا أرادّ الإنجيل ولا أجحد.

قال الرضا (ع): (فخذ عليّ السفر الثالث الذي فيه ذکر محمد وبشارة عيسی بمحمد.

قال الجاثليق: هات!

فأقبل الرضا (ع) يتلو ذلک السفر من الإنجيل حتی بلغ ذکر محمد فقال: يا جاثليق من هذا الموصوف؟

قال جاثليق: صفه.

قال: لا أصفه إلّا وصفه الله وهو صاحب الناقه والعصا والکساء النبي الأمي الذي يجدونه مکتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنکر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي کانت عليهم يدعو إلی الطريق الأقصر، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم، سألتک يا جاثليق بحق عيسی روح الله وکلمته، هل تجد من هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبي؟

فأطرق الجاثليق مليّاً وعلم أنه إن جحد الإنجيل کفر.

فقال: «نعم هذه الصفة من الإنجيل وقد ذکره عيسی في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصاری أنه صاحبکم.

فقال الرضا (ع): (أمّا إذا لم تکفر بنصوص الإنجيل وأقررت بما فيه من صفة محمد عليّ في السفر الثاني فإني أوجدک ذکره وذکر وصيه وذکر إبنته فاطمة وذکر الحسن والحسين).

فلمّا سمع الجاثليق ورأس جالوت ذلک علما أن الرضا (ع) عالم بالتوراة والإنجيل فقال: (والله قد أتی بما لايمکننا رده ولا دفعه إلّا بجحود التوراة والإنجيل والزبور، ولقد بشر به موسی وعيسی جميعاً، ولکن لم يتقرر عندنا بالصحة أنه محمدکم هذا فأمّا إسمه فمحمد، فلا يجوز لنا أن نقرّ لکم بنوبته، ونحن شاکون أنه محمد أوغيره.

فقال الرضا (ع): إحتججتم بالشک فهل بعث الله قبل عيسی أو بعده من ولد إلی يومنا هذا نبي إسمه محمد؟ أو تجد منه في شيء من الکتب الذي أنزلها الله علی جميع الأنبياء؟

فقال الرضا (ع): أنت يا جاثليق آمن في ذمة الله وذمة رسوله أنه لا يبدؤک منا شيء تکره مما تخافه وتحذره.

قال: إذ قد آمنتني فإن هذا النبي الذي إسمه محمد وهذا الوصي الذي إسمه علي وهذه البنت التي إسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان إسمهما الحسن والحسين، في التوراة والإنجيل والزبور.

قال الرضا (ع): فهذا الذي في التوراة والإنجيل والزبور، من إسم هذا النبي وهذا الوصي وهذه البنت وهذين السبطين صدق وعدل أم کذب وزور؟

قال: بل صدق وعدل، ما قال إلّا الحق.

فلمّا أخذ الرضا (ع) إقرار الجاثليق بذلک لرأس الجالوت: فأسمع الآن يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود.

قال: هات بارک الله عليک وعلی من ولدک. فتلی الرضا (ع) السفر الأول من الزبور حتی إنتهی إلی ذکر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين. فقال: سألتک يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟ ولک من الأمان والذمة والعهد ما قد أعطيته الجاثليق.

فقال رأس الجالوت: نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم.

قال الرضا (ع): (بحق العشر الآيات التي أنزلها الله علی موسی بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلی العدل والفضل؟

قال: نعم، ومن جحدهم کافر بربه وأنبيائه.

قال له الرضا (ع): فخذ الآن في سفر کذا من التوراة. قبل الرضا (ع) يتلو التوراة ورأس الجالوت يتعجب من تلاوته وبيانه، وفصاحته ولسانه، حتی إذا بلغ ذکر محمد قال رأس الجالوت: نعم هذا احماد والياً وبنت احماد وشبّر وشبير وتفسيره بالعربية محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين فتلی الرضا (ع) إلی تمامه.

فقال رأس الجالوت: لمّا فرغ من تلاوته: والله يا إبن محمد لولا الرئاسة التي حصلت لي علی جميع اليهود لآمنت بأحمد واتبعت أمرک، فوالله الذي أنزل التوراة علی موسی والزبور علی داود ما رأيت أقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منک، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الکتب منک.

فلم يزل الرضا (ع) معهم في ذلک إلی وقت الزوال فقال لهم حين حضر وقت الزوال: وأنا أصلي وأصير إلی المدينة لوعد والي المدينة ليکتب جواب کتابه وأعود إليکم بکره إنشاء الله. قال: فأذن عبد الله بن سليمان، وأقام، وتقدم الرضا (ع) فصلی بالناس وخفف القراءة ورکع تمام السنة وانصرف، فلمّا کان من الغد عاد إلی مجلسه ذلک، فأتوه بجاريه روميه فکلمها بالرومية، والجاثليق يسمع، وکان فهما بالرومية، فقال الرضا (ع) بالرومية. أيما أحب إليک محمد أم عيسی؟ فقالت: کان فيما مضی عيسی أحب إليّ حين لم يکن عرفت محمداً فأمّا بعد أن عرفت محمداً فمحمد الآن أحب إليّ من عيسی، ومن کل نبي، فقال لها الجاثليق: «فإذا کنت دخلت في دين محمد فتبغضين عيسی؟

قالت: معاذ الله بل أحب عيسی وأؤمن به ولکن محمداً أحب إليّ.

فقال الرضا (ع) للجاثليق: فسر للجماعة ما تکلمت به الجارية وما قلت أنت لها وما أجابتک به. ففسر لهم الجاثليق ذلک کله. فلما فرغ من مخاطبة القوم، قال: قد صح عندکم صدق ما کان محمد بن الفضل يلقی عليکم عني؟

قالوا: نعم والله لقد بأن لنا منک فوق ذلک أضعافاً مضاعفة وقد ذکر لنا محمد بن الفضل أنک تحمل إلی خراسان.

فقال: صدق محمد إلّا أني أحمل مکرماً معظماً مبجلاً.

قال: محمد بن الفضل: فشهد له الجماعة بالإمامة، وبات عندنا تلک الليلة ولمّا أصبح ودع الجماعة واوصاني بما أراد ومضی.

هکذا إذن قاد الإمام الرضا (ع) الأمة ومن خلال المشارکة السياسية في الحکم، رغم کل الأهداف التي کان يتوخاها المأمون لشل قدرات الإمام (ع) وبالتالي التحرک الذي يقوده من مواصلة التأثير علی الأمة، واحتواء الموج الجماهيري الغاضب ضد سلطة بني العباس، وإستطاع بفضل قيادته الحکيمة وعلمه السديد أن يقلب المعادلات لصالح أهداف وتطلعات الحرکة الرسالية ونشر مباديء الإسلام في الأمة، وهنا ولمّا رأی المأمون الأهداف العکسية لتقريب الإمام (ع) دس إليه السم، بعد أن أصبح من المتعذر جداً أمام الرأی العام إعتقاله أو إجباره علی التخلي عن منصبه کولي للعهد وهو الذي أصر علی ذلک أيما إصرار. فقضی الإمام الرضا (ع) شهيداً مسموماً تطاولت عليه الأيدي الأثيمة لتحرم الأمة من أحد قياداتها المؤيدين والمسددين من قبل السماء.

--------

1) للتفاصیل راجع التاریخ الاسلامي/ العلامة المدرسي/ ص330.

2) من أبرز الانتفاضات الجماهیریة التي حدثت في عهد الامام الرضا (ع) ثورة ابن طباطبا العلوي الذي خرج من المدینة قاصداً الکوفة لاشعال فتیل الثورة ضد العباسیین والتف حوله خلق کثیر، وفي الیمن ثورة ابراهیم بن موسی بن جعفر الذي استولی علی الیمن بعد أن طرد والي المأمون علیها، وفي مکة ثار الحسین بن الحسن الأفطس، وفي البصرة ثار زید بن موسی بن جعفر ویسمی بزید النار لکث ما أحرق من دور العباسیین.

3) عیون أخبار الرضا/ ج 6 ص 159.

4) انظر تفاصیل الرسالة في موسوعة البحار/ ج 49 ص 207ـ 214.

5) موسوعة بحار الأنوار: ج49 ص 128.

6) علل الشرایع/ ج1 ص 226/ عیون أخبار الرضا/ ج2 ص 139.

7) سیرة الأئمة الأثنی عشر نقلاً عن حدیث سلسلة الذهب في الفصول المهمة لإبن الصباغ المالکي.

8) راجع موسوعة البحار/ للمجلسي/ ج 49 ص 173.

 


source : www.abna.ir
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أبي قُرة
كلام الإمام الرضا ( عليه السلام ) في التوحيد
سلوك الإمام الرضا ( عليه السلام )
تكملة الإمام الرضا ( عليه السلام ) لقصيدة دعبل ...
الكرامات و المعجزات الرضويّة
حث الإمام الرضا ( عليه السلام ) أصحابه على الدعاء
معاجز وكرامات الامام الرضا عليه السلام
مكارم أخلاق الإمام الرضا عليه السلام
الامام الرضا علیه السلام وثورات العلویین

 
user comment