لقد استقبل المأمون خلافته بأخطر ثورة ضده في تلك الفترة من التأريخ، وهي ثورة محمد بن إبراهيم، المعروف بابن طباطبا، التي قادها ومهد لها السري بن منصور، المعروف بأبي السرايا، وقد انطلقت من الحجاز إلى الكوفة، ومنها إلى أكثر المناطق في العراق، وتفرعت عنها انتفاضات قادها العلويون في البصرة واليمن والبحرين والحجاز وغير ذلك من الأقطار. فوثب في اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر، واستولى عليها، وفي مكة الحسين ابن الحسن الأفطس، وفي البصرة زيد بن موسى بن جعفر، المعروف على لسان بعض المؤرخين بزيد النار، لكثرة ما قتل وأتلف وأحرق في البصرة من دور العباسيين وأنصارهم وممتلكاتهم، إلى غير ذلك من المناطق الأخرى، وقد ذكرنا عندما تحدثنا عن الأسباب التي دفعت المأمون إلى تولية الإمام الرضا ولاية العهد، إن الذي دفعه إلى هذه الخطوة هو تطويق هذه الانتفاضات، وتخدير الشيعة المناصرين لهم في مختلف الجهات، وبخاصة شيعة خراسان الذين ناصروا الدولة العباسية، وعززوا موقفه خلال المعارك الدامية بينه وبين أخيه محمد الأمين، وقد نجح في هذا التدبير إلى حد ما، فلزم العلويون جانب الهدوء مراعاة لمركز الإمام الرضا (عليه السلام)، ولم يحدث التأريخ عن أي تحرك علوي ضد المأمون خلال تلك الفترة القصيرة التي عاشها الإمام الرضا (عليه السلام) بعد ولاية العهد. أما موقف الإمام الرضا من انتفاضات العلويين وتحركاتهم ضد الحاكمين، فلم يكن على ما يبدو سلبيا من حيث مبدأ الثورة المناهضة للظلم والطغيان والاستغلال، بل كان كغيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يباركون كل ثائر على الظلم والباطل حتى ولو لم ينجح عسكريا، إذا كانت ثورته ضمن الحدود المشروعة ولصالح الأمة، لأن الثورة النزيهة في الغالب تكشف للشعوب زيف الحكام وواقعهم الكريه، وتترك وراءها فئة تحس بالظلم والتجاوزات، وتحاسب عليهما، وأحيانا تضطر الحاكم إلى تصحيح سلوكه ووسائل حكمه إلى حد ما. والسؤال الذي يعترض القارئ في هذا المقام هو أن الأئمة إذا افترضنا أنهم كانوا يباركون بعض تلك الانتفاضات، فلماذا لم يتولوا قيادتها؟ وأحسب بأن القارئ سوف لا يقف طويلا إلى جانب هذا التساؤل لو قارن بين المهمات التي انصرف إليها الأئمة (عليهم السلام) وبين تلك الانتفاضات، ذلك لأنهم كانوا يعلمون بأن نصيب تلك الانتفاضات سيكون الفشل السريع، لأنها لم تقم على أسس صحيحة ومدروسة تضمن لها النجاح، والثورة الناجحة تحتاج إلى قاعدة شعبية واضحة مزودة بالوعي والإخلاص، وتستجيب لتخطيط القائد في كل ما يتوقف عليه نجاحها، ولم يتوفر ذلك لتلك الانتفاضات التي كانت تحدث هنا وهناك. وفي الوقت الذي كانت ترتفع فيه الأصوات ضد الحاكمين، كان الأئمة (عليهم السلام) يقودون الثورة الثقافية التي فرضتها مصلحة الإسلام يوم ذاك، وكان النجاح حليفها في مختلف الميادين، كما يبدو ذلك للمتتبع في تأريخهم. وعندما قلنا بأنهم كانوا يباركون كل ثائر على الظلم والباطل، إذا كانت ثورته للحق والمظلومين، لم نقل ذلك لأنهم كانوا يرجون لتلك الانتفاضات أن تحقق كل أهدافها، بل لأن الثورة على الظلم حتى ولو كان نصيبها الفشل، تكشف زيف الحاكم وواقعه، وتترك وراءها من يحس بالظلم والعدوان، ويحاسب عليهما. وقد حققت تلك الانتفاضات هذا المقدار وأكثر منه بلا شك في ذلك، ولكن المكاسب الكبرى التي حققتها ثورة الأئمة (عليهم السلام) لمصلحة الإسلام، لم يكن بالإمكان تحقيق شيء منها لو أنهم اشتركوا بتلك الانتفاضات أو تولوا قيادتها. ومهما كان الحال، فالذي أنكره الإمام الرضا والأئمة (عليهم السلام) على بعض الثائرين من العلويين، أنهم كانوا يغترون ببعض المظاهر، وينخدعون لبعض الأصوات التي كانت تهتف باسمهم، فيدعون ما ليس لهم، ويخرجون بدون تخطيط، وبالتالي يكون نصيبهم القتل والتشريد، كما أنكروا على بعض الثائرين إسرافهم في القتل والسلب وإحراق البيوت والممتلكات، وكان نصيب الأبرياء من ذلك أكثر من نصيب الحاكمين وأعوانهم، ولذا فإن الإمام الرضا (عليه السلام) قد وقف من أخيه زيد ابن الإمام موسى بن جعفر ذلك الموقف المتصلب، وأنبه على عدوانه وتجاوزاته التي لا تقرها الشرائع والأديان. وقد عرف عند المؤرخين وبعض المحدثين بزيد النار، لكثرة ما أحرق من الدور والممتلكات التي تخص العباسيين ومن يلوذ بهم من الأتباع والأعوان، وكان كما جاء في تأريخ ابن الأثير إذا قبض على رجل من المسودة أحرقه بالنار، واستولى مع ذلك على الكثير من أموال التجار سوى ما أخذه من أموال العباسيين وأنصارهم. وقد خرج في البصرة عندما استولى أبو السرايا على الكوفة وجهاتها، بعد أن انتقلت الخلافة إلى المأمون، والإمام الرضا (عليه السلام) لا يزال في المدينة، فأرسل إليه المأمون جيشا كبيرا بقيادة علي بن سعيد، وبعد معارك ضارية بين الطرفين طلب زيد بن موسى الأمان، فأعطاه القائد العباسي ما أراد، وأخذه أسيرا، فأرسله إلى الحسن بن سهل، فأمر بضرب عنقه، وكان قد حضر مجلسه الحجاج بن خيثمة، فقال له: أيها الأمير، إن رأيت أن لا تعجل عليه، فإن عندي نصيحة لك، فأمر السياف الذي كان قد استعد ليضرب عنقه بالتوقف، وقال للحجاج: ما هي نصيحتك؟ قال: أيها الأمير، هل أتاك بما تريد أن تفعله أمر من أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فعلام تقتل ابن عم أمير المؤمنين من غير أمره، وقبل أن تستطلع رأيه، ثم حدثه بما كان من أمر أبي عبد الله بن الأفطس، وقد حبسه الرشيد عند جعفر بن يحيى فقتله جعفر بن يحيى، وبعث برأسه إلى الرشيد في طبق مع هدايا النيروز، فحقد عليه الرشيد، ولما غضب على البرامكة وأمر مسرورا بقتل جعفر بن يحيى، قال له: إذا سألك جعفر عن ذنبه، فقل له: إنه يقتلك بابن عمه ابن الأفطس الذي قتلته من غير أمره. ثم قال الحجاج بن خيثمة للحسن بن سهل: أفتأمن أيها الأمير حادثة تحدث بينك وبين أمير المؤمنين، وقد قتلت هذا الرجل فيقتلك به، ويحتج عليك بمثل ما احتج به الرشيد على جعفر بن يحيى. فقال الحسن للحجاج: جزاك الله خيرا، ثم أمر بترك زيد وإرجاعه إلى الحبس، فلم يزل محبوسا في بغداد حتى كانت ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام)، فأرسله الحسن إلى المأمون في خراسان، فلما أدخل على المأمون قال له: يا زيد، خرجت بالبصرة، وتركت أن تبدأ بدور أعدائنا من بني أمية وثقيف وعدي وباهلة وآل زياد، قصدت دور بني عمك وأحرقتها!
فقال له زيد كما يدعي الراوي: أخطأت يا أمير المؤمنين، من كل جهة، وإن عدت إليها بدأت بأعدائنا. فضحك المأمون، وبعث به إلى الإمام الرضا (عليه السلام) وقال له: لقد وهبتك جرمه، فاحكم عليه بما ترى (1). وجاء في رواية ياسر الخادم أنه لما دخل على الإمام الرضا (عليه السلام) قال له: ويحك يا زيد، ما الذي غرك حتى أرقت الدماء وقطعت السبيل، أغرك حديث سمعته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار . وفي رواية ثانية: أغرك قول سفلة أهل الكوفة: إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار ، ويحك يا زيد، إن ذلك ليس لي ولا لك، لقد عنى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك حسنا وحسينا (عليهما السلام)، والله ما نالا ذلك إلا بطاعة الله، فإن كنت ترى أنك تعصي الله وتدخل الجنة، فأنت إذن أكرم على الله منهما، ومن أبيك موسى بن جعفر. والله – يا زيد – لا ينال أحد ما عند الله إلا بطاعته. فقال له زيد: أنا أخوك وابن أبيك. فقال له الرضا (عليه السلام): أنت أخي ما أطعت الله عز وجل، إن نوحا قال: *(رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين)*، فقال له الله عز وجل: *(يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح)*(2)، فأخرجه الله من أن يكون من أهله بمعصيته لله (3).
وجاء في رواية (العيون) عن محمد بن يزيد النحوي، عن أبيه، أنه قال: إن المأمون وهب جرم زيد بن موسى إلى أخيه الرضا (عليه السلام) وقال له: يا أبا الحسن، لئن خرج أخوك وفعل ما فعل، فلقد خرج قبله زيد بن علي وقتل، ولولا مكانك مني لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الإمام الرضا (عليه السلام): يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيدا إلى زيد بن علي بن الحسين، فإنه من علماء آل محمد (صلى الله عليه وآله)، غضب لله عز وجل، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله. ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: رحم الله عمي زيدا، إنه دعا إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظفر لوفى بما دعا إليه، ولقد استشارني في خروجه، فقلت له: يا عم، إن رضيت أن تكون المقتول بالكناسة فشأنك ، فلما ولى قال جعفر بن محمد (عليه السلام): ويل لمن سمع داعيته فلم يجبه. فقال له المأمون: يا أبا الحسن، أليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء. فقال الإمام الرضا (عليه السلام): إن زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذلك، إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، وكان زيد والله ممن خوطب بهذه الآية: *(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم)*(4).
المصادر :
1- المعالم 22: 383 و384، عن الشيخ الصدوق في العيون.
2- هود: 45 و46.
3- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 234 / 4، بحار الأنوار 49: 217 / 2
4- سيرة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) – القسم الثاني: 397 – 401. والآية من سورة الحج: 78، ولمزيد من الإطلاع حول هذا الموضوع انظر: الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام)، للسيد محمد جواد فضل الله: 175 – 182، وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته: 452
source : rasekhoon