الإسلام یرفض الظلم، والجبابرة، والطواغیت. والتشیع وحده هضم من الإسلام هذه الخصلة، لأنّ التشیع هو الإسلام بدون تحریف.ولقد ضرب التشیّع مثلاً رائعاً فی الإباء. وبقی القاعدة الحصینة التی لم تستسلم. لا یجوز الاستسلام للظلم، ولا السکوت عنه. لا تربط بیننا وبینه مودّة، ولا عاطفة. ولئن عجزنا یوماً عن ضربه، فإنّنا لا ننسى بغضنا له، ولا ننسى الرجاء فی أن یزول، وتمور به الأرض موراً. حتى فی الدعاء والمناجاة نجسّد إباءنا، وبراءتنا. إنّنا أحرار ... نعمّق ذلک ونؤکّده حتّى فی الدعاء. لکی نتذکّر دائماً الخصلة التی شرّفتنا، ومیّزتنا عن أناس صالحوا الظلم، وخدموه، وهم یدّعون الإسلام. هذا الدرس تجده فی مناجاتک للقائد المنتظر. فأی مناجاة هذه التی تحوی روائع الدروس. علاقة مودّة
أیّها القائد المنتظر
"هل إلیک ـ یا ابن أحمد ـ سبیل فتلقى؟
هل یتّصل یومنا منک بعدة فنحظى؟
متى نرد مناهلک الروّیة فنروى؟
متى ننتقع من عذب مائک فقد طال الصدى؟
متى نغادیک ونراوحک فنقرّ عیناً؟
متى ترانا ونراک؟
وقد نشرت لواء النصر..
هذه المناجاة المملوءة بالحب والمودّة، والحنان. هذه المناجاة التی هی أشبه بالشعر، ولیست بشعر. هذه المناجاة التی تسکب فی النفس أعمق معانی الودّ والإخلاص. هل تفاعلت معها، لتشعرکم تحدث فیک انقلاباً؟ إنّ علاقتک بقائدک المغیّب لیست فقط علاقة هدف، ومبدأ وقیادة. وإنّما لا بد أن تعیش فی نفسک الحب العمیق لهذه القیادة. حتى تحن إلیها کما تحن إلى أغلى شیء فی حیاتک. إنّها قیادتک التی تنتظر یومها السعید. إنّها معقد آمالک. إنّها تکمن لک الحب والاحترام والتقدیر. إنّها تعیش همّک ومأساتک. إنها تحمل إلیک معنى الأبوّة.
لکنّها مضطرة إلى الاحتجاب عنک. وهی تشکو من لوعة هذا الاحتجاب. تنتظر ساعة لقائها مع قواعدها وأنصارها ومحبّیها تحت لواء النصر. المناجاة هذه المرّة تعطیک شحنة عاطفة وحب. ترضی خاطرک وتهدّئ علیک من اللوعة. ما أحلى هذه المناجاة!!
لقد کان ما مضى حدیثاً عن العمل على صعید ذواتنا، واستطعنا أن نعطی بعض الأضواء حول طبیعة هذا العمل.
فما هو عملنا على صعید المجتمع والأمّة. ما هو الدور الذی یجب أن ننفّذه فی عملیة التمهید للدولة الإسلامیة الکبرى، تلک الدولة التی نقترب یوماً بعد یوم من بزوغ فجرها الأصیل. أی موقف نتّخذه فی داخل جبهتنا، وبعضنا مع البعض الآخر؟ ثم أیّ موقف نتّخذه مع الآخرین من غیر جبهتنا؟ إننی ما زلت أشعر بصعوبة الوغول فی هذا البحث، وأجد أن لیس بالإمکان إلاّ إعطاء بعض الخطوط العریضة. ثم إنّی أحاول أن استلهم هذه الخطوط من توجیهات قادتنا أنفسهم، الأئمّة من أهل البیت، ومن مدرسة القرآن، ومحمّد صلى الله علیه وآله. وفی هذا الضوء فإنّ بالإمکان أن نؤکّد على ثلاث من مهامّنا:
حینما نجد أنفسنا وسط مجتمع إسلامی ـ مهما کانت درجة تعامله مع الإسلام ـ فإنّ علینا أن نتذکّر بتقدیر السواعد التی شیّدت صرح الإسلام وأمدّته بمصدر الحیاة إلى الیوم وإلى الأبد. کم هی تلک الجهود الأبیّة؟ وکم هی التضحیات التی قدّمت فی هذا السبیل؟ من یحصی عدد الشهداء الذین سخوا بدمائهم؟ وماذا کان یصیر مستقبل الإسلام، لولا ذاک الصبر، والتحمّل، والجهاد. ولولا تلک الجهود، والسواعد .
کم هی الجهود العلمیة الضخمة؟ کم هو العناء الذی تحمّله الشیعة فی الدعوة للحق؟ الدعوة التی مارسها التشیع خلال أزمنة طویلة، وفی ظل أقسى الظروف. تلک جهود ضجّت بها صفحة التأریخ الإسلامی. وإننا لنعیش الیوم ثمرة تلک الجهود.
فأنت ترى من خلال هذا التأریخ أنّ کیان الإسلام کلاً قام على الدعوة، بمختلف أشکالها، وبکل ما تتطلبه من مقدّمات وما تجرّ إلیه من نتائج. بکل ما یسبقها من إعداد، وما یلحقها من تضحیات. ولقد حدّثنا القرآن عن هذه المسؤولیة، وجعلها فی أعناقنا
(وَکذلِکَ جَعَلْناکُمْ أمّةً وَسَطاً، لِتَکُوُنُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَیَکُونَ الرّسُولُ عَلَیْکُمْ شَهِیداً..).(1)
أمّا الذین یرفضون العمل، ویریدون أن یعیشوا على جهود الآخرین، ویستأکلوا بالعلم، وبالدین، هؤلاء یخرجون عن حقیقة أساسیة من حقائق هذا الدین. إنّهم یتّخذون من الهوى ما یبرر لهم القعود، وهؤلاء هم (الّذِینَ اتَّخَذُوا دِینَهُم لَهْواً وَلَعِباً..).(2)
مهما نسینا فإنّه لا یحق لنا أن ننسى مسؤولیتنا فی عصر الغیبة.إنّ مسؤولیتنا هی الدعوة إلى الحق. وعصر الغیبة فی هذا لا یختلف عمّا تقدّمه من عصور. فالمسلم أینما کان، ومتى ما کان، فإنّ علیه العمل أوّلاً وأخیراً. العمل فی الإسلام لیس کمالاً، بل هو ضرورة. والعمل فی الإسلام لیس أمراً طارئاً. التدیّن هو العمل للحق ومن أجل الحق. التدیّن هو أن تعمل على مستوى ذاتک، وعلى مستوى الآخرین.
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرى اللهُ عَمَلَکُمْ...).(3)
استمعوا إلى محمّد صلى الله علیه وآله ماذا یقول، وهو یتحدّث عن مستقبل الأمّة فی عصر الانحراف:
"إنّ من ورائکم أیّام الصبر، الصبر فیهن على مثل قبض الجمر، للعامل فیهن أجر خمسین رجلاً یعملون بعمله".(4)
والدعوة إلى الحق ذات أنماط وأشکال. ومهما کان الشکل فإنّ علینا أن نوطّن أنفسنا على مضاعفات العمل. وعمل بلا مضاعفات لا تتوقع أن یوجد فی الأرض. انفض عنک غبار الکسل والخمول. اصبر نفسک مع الذین یدعون. وهؤلاء الذی یثبّطون عن العمل لا تنسى الشبه بینهم وبین أبی موسى الأشعری، فمن قبل خذّل الناس عن علیّ، وهؤلاء خرّیجوا مدرسته.
هناک صنفان من الناس أنت بالخیار مع أیّهما تکون. هناک ناس لا یعرفون سوى ذواتهم، وأهون علیهم أن یترکوا الدین ویرفضوه من أن یقدّموا من عندهم حبة شعیر، أو یمسّهم حرّ الصیف أو ینالهم برد الشتاء.لقد صارح القرآن هذا النموذج من الناس فقال:
(ما لَکُمْ إذا قِیلَ لَکُمْ انْفِرُوا فی سَبِیلِ اللهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأَرْضِ، أَرَضِیتُمْ بِالحَیاةِ الدّنْیا مِنَ الآخِرَةِ، فَما مَتاعُ الحَیاةِ الدّنیا مِنَ الآخِرَةِ إلاّ قَلیل).(5)
والقرآن أیضاً شرح حقیقة هؤلاء للرسول فقال: (لَوْ کانَ عَرَضاً قَرِیباً وَسَفَراً قاصِداً لاتّبَعُوکَ وَلکِنْ بَعُدَتْ عَلِیْهِم الشّقّة..).(6)
هؤلاء الناس لیسوا من مدرستک، ولا تعرفهم مدرسة أهل البیت علیهم السلام.والصنف الآخر من الناس هم:
(الّذینَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قّدْ جَمَعُوُا لَکُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إیماناً، وَقالُوا حَسْبُنا اللهُ وَنِعْمَ الوَکیل).(7)
هؤلاء عرفوا أنّ الحق بحاجة إلى رجال. وانتصار بلا عمل لا یمکن أن یکون. وعمل بلا تضحیة لا تعرفه البشریة. إذا جمع لهم الناس لا تهتز عزائمهم، فإنّهم حینما قدموا کانوا على علم. هؤلاء یعرفون أنّ الجهاد باب فتحه الله لأولیائه. والذین لا یریدون العمل، ویرفضون الجهاد، هم من فسطاط النفاق بلا إیمان. وإذا کانت الدعوة إلى الحق ضرورة، فإنّ ما تتجسّد فیه هو الدعوة إلى إقامة المجتمع الإسلامی.
المجتمع الذی یکون الإسلام فیه هو الحاکم، وهو المسیّر للحیاة.
توحید الصّف:
مرّة أخرى نرجع إلى وصایا أهل البیت علیهم السلام لنأخذ بعض الخطوط حول مسؤولیاتنا. قال الإمام الصادق علیه السلام وهو یحدّث أحد أصحابه: "إذا أصبحت وأمسیت لا ترى إماماً تأتم به، فأحبب من کنت تحب، وابغض من کنت تبغض، حتى یظهره الله عز وجل".(8)من أجل أن لا نتلاشى ولا نتمزق یعطینا الإسلام هذا الدرس. فالضعف قد لا یکون ولید القلّة، بمقدار ما هو ولید التفرّق.
ومهما بلغ العدد، فإنّ ما یبقى شرطاً فی الانتصار هو التکتل، وتوحید الجبهة، ووحدة الکلمة. إنّ وحدتنا فی الهدف یجب أن تنعکس على علاقاتنا مع بعضنا البعض. على ولائنا، وکلمتنا، وموقفنا. فالموقف یجب أن یکون واحداً. والکلمة یجب أن تکون واحدة. والولاء والتعاطف یجب أن نحکّم فیه أهدافنا، فمن یشترک معنا فی الهدف نشترک معه فی الولاء. أینما کنّا فالواجب علینا أن نتکاتف، ونتکتل، ونعرف أنّنا جبهة واحدة، وکتیبة من کتائب جیش الحق. حینما تعیش وحدک، بعیداً عن الدائرة، معزولاً عن رفاقک. فإنّ اقتناصک یکون سهلاً وسریعاً. والقنّاصون دائماً من یکون فریستهم؟ الإنسان الفرید، التائه، المترسّل، الذی لا یعرف الطریق، هو الذی تردیه الرصاصة إلى الأرض. ارتبط دائماً مع الکتلة، اعمل بالاشتراک مع أصحابک. وإن لم توجد کتلة، فإنّ ما علیک هو أن تخلقها، وتکون أنت محورها. وحینما ترید أن تعمل للحق، لماذا لا تحفّز الآخرین على العمل معک. (وَاصْبِرْ نَفْسَکَ مَعَ الّذینَ یَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدوَةِ وَالعَشِیِّ).(9)
إنّک لست وحیداً..إنّ الملایین من الناس معک، إنّنا أمّة ولقد أراد لنا القرآن أن نکون أمّة. (وَلْتَکُنْ مِنْکُمْ أمّةً..).(10)
إنّ علینا أن نربط حبل الصلة مع کل من نعرفه بالانتماء إلى جبهة الحق. إنّ علینا أن نکون أمّة. أمّة فی إصرارک على الحق، وتماسک عزیمتک، وقوّة معانیک. ألم یکن کذلک أبو ذر الغفاری!!"رحم الله أبا ذر، یمشی وحده، ویموت وحده، ویبعث وحده".(11)
فی عصر الغیبة بمن نرتبط؟
وإذا کانت قیادتنا محتجبة عنّا فمن إذن قادة المرحلة؟ وقائدنا المنتظر حیث غاب عنّا هل وضع لنا البدیل؟ القیادات التی تبرز نفسها کثیرة... والاتجاهات هی الأخرى کثیرة. ومع أیّ تحدّثت، وأینما ولّیت شطرک فإنّک تسمع النداء بالحق، والدعوة له، فلمن نصدّق؟
والذین یدّعون أنّهم مع الحق، هل یرضى الحق بزمالتهم؟ وهل توجد قیادة، أم هل یوجد إنسان یقول أنّه على باطل؟
فمن هی قیادتنا إذن؟
إنّ قیادتنا الرائدة هی باختصار: "الفقهاء الواعون والمخلصون".
هذه القیادة هی التی حدّدها لنا الإمام الصادق علیه السلام حین سئل عن رجلین اختصما فی مسألة فقال:
" ینظران من کان منکم ممن قد روى حدیثنا، ونظر فی حلالنا وحرامنا وعرف أحکامنا، فلیرضوا به حکماً فإنّی قد جعلته علیکم حاکماً.
فإذا حکم بحکمنا فلم یقبل منه، فإنّما استخف بحکم الله، وعلینا ردّ، والرادّ علینا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرک".(12)
والإمام المنتظر أعطانا هذا التحدید أیضاً، فحین سئل عن المسائل التی تقع جدیداً، کتب فی الجواب:
"وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلى رواة حدیثنا، فإنّهم حجّتی علیکم، وأنا حجّة الله".(13)
قیادتنا إذن هی القیادة التی تحمل مفاهیم هذا الدین، وتحکم وفق مقاییس هذا الدین. على أن تبقى هذه القیادة مخلصة لقضیتها، ورسالتها، وأمّتها. بعیدة عن رغبة الذات، ودافع الأنا. وبمقتضى هذا الإخلاص فإنّها تکون مدفوعة للتعایش مع الأمة وحمل همومها، والتعرّف على مشاکلها، وتکوین أوضح صورة عن المرحلة التی تمرّ بها، ویمرّ بها الحق. الالتزام بالدین والمسؤولیة هو أوضح شرط فی هذه القیادة.
أن یکون: "صائناً لنفسه، حافظاً لدینه، مخالفاً لهواه، مطیعاً لأمر مولاه" کما ورد فی الحدیث.(14)
إنّ مسؤولیتنا فی عصر الغیبة أن نتعرّف على قیادتنا. نرتبط بها، نستجیب لندائها، نتفاعل معها بوصفها هی الموجّه لمسیرتنا. کیف کنا نتعامل مع القائد المنتظر علیه السلام لو رفعت بیننا وبینه الحجب؟ بنفس هذا المستوى یجب أن نتعامل مع الفقیه الصالح. ومسؤولیتنا لا تنحصر فی حدود الانقیاد لهذه القیادة. إنّ جزءً آخر من مسؤولیتنا هو اطلاعها على ما یجری فی الساحة، المشارکة فی تکوین صورة واضحة لدیها عن طبیعة المرحلة. فنحن جمیعاً العیون التی تنظر بها هذه القیادة. کما نحن فی ذات الموقف الأصابع التی تتحرّک بها. إنّ من مسؤولیتنا أیضاً التنبیه على کل قضیة نرى ضرورة التنبیه علیها. لقد کان أمیر المؤمنین علیه السلام یقول:
"إذا علمت الخاصّة بالمنکر، فلم تغیّر ذلک العامّة استوجب الفریقان العقوبة من الله عزّ وجل".(15)
المصادر:
1- البقرة : 143
2- الأعراف : 51
3- التوبة: 105
4- سنن ابن ماجة : 2 /1331 الحدیث 4014, سنن أبی داوود: 2: 324 الحدیث 4341
5- التوبة : 38
6- التوبة : 42
7- آل عمران : 173
8- إکمال الدین وإتمام النعمة: 348 الحدیث 37, بحار الأنوار : 52/148 الحدیث 71
9- الکهف : 28
10- آل عمران : 104
11- بحار الأنوار : 31/ هامش الصفحة 186, کنز العمّال : 3/712 الحدیث 8538, السیرة النبوّیة لابن هشام: 4/179
12- الکافی : 1/ 67 الحدیث 10, من لا یحضره الفقیه : 3/8 الحدیث 3233, وسائل الشیعة: 1/34 الحدیث 51
13- إکمال الدین وإتمام النعمة : 484 الحدیث 4
14- الاحتجاج للطبرسی : 2/263, وسائل الشیعة: 27/131 الحدیث 33401
15- وسائل الشیعة : 16/136 الحدیث 21174
source : .www.rasekhoon.net