تناول رجل الدين اللبناني سماحة الشيخ معين دقيق العقيدة المهدوية في بحث له، حيث تطرق فيه إلى بعض أبعاد المسألة بقدر الإمكان مع مراعاة الاختصار، وذلك ضمن عناوين عدة، منها:
* العقيدة المهدويّة
1- فطريتها عند النَّوْع البشري.
2- أدلّة هذه العقيدة ودفع الشبهات عنها.
3- تشخيص صاحبها صفةً ونسباً، وكونه قد وُلِد وغاب غيبتين.
4- الفرق بين الغيبتين الصغرى والكبرى وخصائصهما.
5- أسباب الغيبة، ووظيفة الأُمَّة في زمن الغيبة، والارتباط بالإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
6- كيفيّة غيبته وإمكان رؤيته في غيبته، والادِّعاءات الكاذبة.
7- حقيقة الانتظار، وصفات المنتظرين.
8- علائم الظُّهور، والأحداث التي تحصل في زمن الظُّهور.
9- انتصار المهدي الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف وإرساؤه قواعد القسط والعدل بعد حاكميّة الظُّلم والجور إلى أنْ يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
كُلُّ ذلك لإعطاء صورة جليّة وواضحة عن هذه الشخصيّة الموعودة، وكلّ ما يحيط بها مِمَّا له علاقة بالناس على المستوى الفرديّ والجَمعيّ.
* أهميّة البحث عن فكرة المهدويّة
تظهر أهميَّة هذا البحث بعد الالتفات إلى النُّقاط الآتية:
الأُولى: إِنَّ فكرة المهدوية باعتبارها ترتبط بأصلٍ من أُصول العقيدة، الذي وقع في بعض تفصيلاته الاختلاف بين النَّاس، كان لزاماً على كُلِّ مكلَّفٍ أنْ يتّخذ موقفاً منه، إمَّا من خلال الاعتقاد به، وإمَّا من خلال إنكاره، وكلٌّ من الاعتقاد والإنكار لا يتأتَّى إِلَّا من خلال البحث والمعرفة التفصيليّة.
الثانية: إِنَّ فكرة المهدوية تعتبر من صُلبِ عقيدة الإمامة، التي عُدَّت في النُّصوص الواردة في التراث الإسلامي ميزاناً للطاعة والعصيان، وفرقاناً بين ميتة الجاهلية وميتة المعرفة.
فقد ورد في تراث الفريقين ما يؤكِّد على ذلك، اخترنا منها النُّصوص الآتية:
- روى الطبرانيّ في المعجم الكبير، قال: ... قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إِمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً"(1).
- وعن ابن أبي شيبة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: "إيَّاكُمْ وَقِتَالَ عِمِّيَّةٍ وَمِيتَةَ جَاهِلِيَّةٍ، قَالَ: قُلْت: مَا قِتَالُ عِمِّيَّةٍ؟ قَالَ: إذَا قِيلَ: يَا لَفُلَانُ، يَا بَنِي فُلَانٍ، قَالَ: قُلْت: مَا مِيتَةُ جَاهِلِيَّةٍ؟ قَالَ: أَنْ تَمُوتَ وَلَا إمَامَ عَلَيْك"(2).
ومن طرق مدرسة أهل البيت عليهم السلام ورد:
- الشَّيْخ الصّدوق بإسناده إِلَى حَفْصٍ الْكُنَاسِيِّ، قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله عليه السلام: مَا أَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ مُؤْمِناً؟ قَالَ: "يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيُقِرُّ بِالطَّاعَةِ وَيَعْرِفُ إِمَامَ زَمَانِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ"(3).
وعلى هذا الأساس، يكون البحث عن المهدوية داخلاً في إطار التعرُّف إلى إمام الزَّمان، الَّذِي لولاه لكان كل من حياتنا وموتنا على العهد الجاهليّ.
* موكب الإيمان وموكب الجاهلية
فإذا كان موكب المعرفة والإيمان منذ فجر التاريخ الإنساني موكباً واحداً موصولاً، يقوده رسل الله الكرام، سائرين على منهج واحد، كلّهم يدعون إلى ألوهية واحدة، وربوبية واحدة، وكلّهم لا يدعون مع الله أحداً، ولا يتوكّلون على أحد غيره، ولا يلجأون إلى ملجأ سواه، ولا يعرفون له سنداً إلا إيّاه، فموكب الجاهلية منذ فجر التاريخ الإنسانيّ أيضاً موكبٌ واحدٌ موصول، يقوده المترفون في الأرض، يدعون إِلَى دينونة العِباد للعباد، ويجهرون بتأليه وربوبية غير الله، ويتوكّلون على غيره، ويلجأون إلى سواه.
وإذا كان موكب المعرفة والإيمان يقوم على أساس احترام حياة الإنسان، وحرمة الاعتداء عليها، وأنّ ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ (المائدة: 32)، فموكب الجاهلية لا قيمة عنده للإنسان إِلَّا بمقدار ما يملك من وجاهةٍ ومالٍ في هذه الحياة الدُّنيا، وإنْ كان خليّاً عن كلّ القيم الإنسانية والأخلاق الفاضلة.
* كلمة "الجاهليّة" في القرآن الكريم
وإذا أردنا أنْ نقارن بين الموكبين فإنَّ المقام يطول بنا، وتكفينا الآيات الأربعة الواردة في القرآن الكريم، والتي صُرِّح فيها بكلمة (الجاهلية)؛ لنتعرّف من خلالها إلى "ميتة الجاهلية" التي تنتظر مَنْ لم يعرف إمام زمانه:
- ﴿وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ﴾ (آل عمران: 154).
- ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50).
- ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ (الأحزاب: 33).
- ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ (الفتح: 26).
* جعفر بن أبي طالب وموكب الإيمان
فصَّل جعفر بن أبي طالب مبعوث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة، في قصته المشهورة مع الملك النجاشيّ، الامتياز بين موكب المعرفة والإيمان وموكب الجاهلية والكفر أكمل تفصيل، ومما قاله: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ الله إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ الله وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا الله وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا..."(4).
وعلى أساس ما تقدّم يتّضح لنا أَنَّ البحث عن فكرة المهدوية من صلب العقيدة، وبها يمتاز موكب الطاعة والإيمان عن موكب الجاهلية والعصيان.
الثالثة: بعد الفراغ عن لابدّيّة الإِمام في كلِّ زمان، والالتفات إِلَى أَنَّ الإِمام إِنَّما نُصِّبَ من قِبَلِ الله عزّ وجلّ ليؤتمَّ به طاعةً واقتداء، وتنعكس هذه المعرفة على سير الإنسان وسلوكه في هذه الدُّنيا. رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قَالَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إِمَاماً لِيُؤْتَمَّ بِه"(5).
ومن جميع ما تقدَّم، يتَّضح لكُلِّ منصفٍ ضرورةُ البحث عن العقيدة المهدوية بشكلٍ مفصّلٍ لكلِّ إنسانٍ موحّدٍ وتابعٍ لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ــــــــــــــــــــــــ
1- المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الحافظ الطَّبراني، ج19، ص388. ورد المضمون نفسه في صحيح البخاري، ج3، ومسند أحمد بن حنبل، ج4.
2- المصنّف في الأحاديث والآثار، عبد الله ابن أبي شيبة، ج8، ص598.
3- معاني الأخبار، ابن بابويه، ص393.
4- تاريخ الإسلام، الذهبي، ج2، ص131.
5- مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري، ج6، ص