الشبهة الأُولى: البرزخ مانع من الاتصال
إنّ الحیاة البرزخیة حیاة لا یعلمها إلاّ الله فهی حیاة مستقلّة نؤمن بها ولا نعلم ماهیتها، وإنّ بین الأحیاء والأموات حاجزاً یمنع الاتصال فیما بینهم قطعیاً، وعلى هذا یستحیل الاتصال لا ذاتاً ولا صفاتاً وأنّه سبحانه یقول: ( ومن ورائهم برزخ إلى یوم یبعثون )(1) والبرزخ معناه الحاجز الذی یحول دون اتصال هؤلاء بهؤلاء(2).
هذه العبارة تتضمن أمرین قد خلط الکاتب بینهما:
أ ـ إنّ الحیاة البرزخیّة لا نعلم حقیقتها.
ب ـ إنّ البرزخ حاجز مانع عن الاتصال.
فعلى هامش الأمر الأوّل نقول: إنّ حقیقة الحیاة مطلقاً ـ مادیة کانت أم برزخیة ـ أمر مجهول لا یعلم حقیقتها إلاّ خالقها، والذی یعود إلى إمکاننا هو التعرف على آثارها وخصوصیاتها، فکما أنّ الحیاة المادیة معلومة لنا ببعض آثارها، وکلّما یتقدم العلم یتقدم الإنسان فی میادین التعرف على آثارها، وهکذا الحیاة البرزخیة فهی مجهولة الحقیقة ولکنّها معلومة بآثارها، وقد ذکر الکتاب العزیز بعضها، وأنّ الشهداء الأحیاء بحیاتهم البرزخیة یُرزَقون، یَفْرحون بما آتاهم الله، یَستبشِرون بالذین لم یلحقوا بهم، ویستبشِرون بنعمة من الله، وأنّهم ربّما یتمنون أموراً کتمنّی حبیب النجار عرفان قومه بمصیره کما قال سبحانه: (قِیلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ یَا لَیْتَ قَوْمِی یَعْلَمُونَ* بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِی مِنَ الْمُکْرَمِینَ)(3).
إنّ الحیاة البرزخیة لا تختص بالمؤمنین، وهناک من المذنبین الکافرین من تعمّهم کآل فرعون إذ یعرضون على النار غدواً وعشیاً، قال سبحانه: ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النّار یعرضون علیها غدوّاً وعشیاً * ویوم تقومُ الساعة أدخِلوا آل فرعون أشدَّ العذاب ) (4).
وهذا المقدار من التعرف یکفینا فی القضاء بأنّ لهم شعوراً واستشعاراً ودرکاً وتعقّلا وظواهر نفسیة من الفرج والألم وغیر ذلک، ولا تتطلب مسألة التوسّل سوى کون المتوسّل به عاقلا حیّاً مدرکاً شاعراً ملتفتاً إلى الدنیا وما یجری فیها.
وعلى هامش الأمر الثانی نقول: إنّ البرزخ بمعنى الحاجز لا بمعنى انقطاع الصلة بین أهل الدنیا وأهل الآخرة ومن فسّره بالمعنى الثانی فإنّما انتخبه لدعم مذهبه وإنّما هو مانع من رجوع الناس إلى حیاتهم الدنیا.
ویدلّ على ذلک: أنّه سبحانه ذکر أمر البرزخ بعدما ذکر تمنّی العصاة الرجوع إلى الدنیا، قال سبحانه: (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّی أَعْمَلُ صَالِحًا فِیمَا تَرَکْتُ کَلَّا إِنَّهَا کَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ یَوْمِ یُبْعَثُونَ) (5).
فقوله: { کلاّ } ردع لتمنّی رجوعهم، یعنی لا یستجاب دعاؤهم، ثم عاد سبحانه یؤکده بقوله: { ومن ورائهم برزخ إلى یوم یبعثون } أی حائل مانع من الرجوع إلى الدنیا إلى یوم یبعثون.
إنّ اتّخاذ موقف مسبق فی المسألة یشکّل مانعاً من الوصول إلى الحقیقة، ویعد من موانع المعرفة الصحیحة فبما أنّ القائل یقتفی أثر من یقول لا یصح التوسّل بدعاء النبی الأکرم فی البرزخ، فقد أراد نحتَ دلیل لقوله ففسّر البرزخ فی الآیة بمعنى المانع عن الاتصال لا المانع عن انتقال أهل البرزخ إلى الدنیا، فکأنّه یصوّر أنّ بین الحیاتین ستاراً حدیدیاً أو جداراً ضخماً یمنع من اللقاء والسماع، ولیس لما یتخیله دلیل، بل الدلیل على خلافه، ترى أنّه سبحانه یحکی عن ماء البحرین أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج ثم یقول: { وبینهما برزخ لا یبغیان } أی مانع یمنع عن اختلاط المائین، یقول سبحانه: ( مرج البحرین یلتقیان * بینهما برزخ لا یبغیان ) (6) ولم یکشف العلم عن وجود سدّ مادّی بین البحرین.
الشبهة الثانیة: امتناع اسماع الموتى
إنّ الله تعالى یقول: ( فإنّک لا تسمع الموتى )(7)
ویقول عزّ وجلّ: ( وما أنت بمسمع من فی القبور ) (8).
والرسول بعد أن توفّاه الله هو من الموتى ومن أهل القبور فثبت أنّه لا یسمع دعاء أحد من أهل الدنیا وإن کان هو والأنبیاء، لا یُبْلُون لأنّ الله قد حرّم على الأرض أن تأکل أجساد الأنبیاء، ولکنّهم أجساد بلا أرواح وهم أموات(9).
فعلى هامش هذه الشبهة نقول:
أوّلا: إنّ قوله: " الرسول بعدما توفّاه الله هو من الموتى " ظاهر فی إنکار الحیاة البرزخیة للأنبیاء، فلو کان النبی من الموتى فالشهداء من الموتى مع أنّ القرآن یندد من یعدهم أمواتاً إذ یقول: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْیَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ )(10).
نعم یقول سبحانه: ( إنک میّت وإنّهم میّتون ) (11) ولکن لا بمعنى الفناء المطلق، بل انسلاخ الروح عن البدن وانتقاله إلى العالم الآخر.
وثانیاً: إنّ هاتین الآیتین ناظرتان إلى الأجساد الموجودة فی القبور، فإنّها هی التی لا تسمع ولا تعی والاتصال لا یکون بیننا وبین هذه الأجساد، بل یتحقق بیننا وبین الأرواح الطاهرة والنفوس الزکیة الباقیة الخالدة، وإنْ تبعثر الجسد وتناثرت أجزاؤه، فالأرواح هی التی یُسلّم ویُصلّى علیها وهی التی تَسمع وتَرد.
وأمّا الحضور عند المراقد التی تضمّنت الأجساد والأبدان، فلأجل أنّه یبعث على التوجه إلى صاحب تلک الأجساد ویکون أدعى إلى تذکّر خصاله أو صفاته، وإلاّ فانّ الارتباط بهم، والسلام علیهم، ممکن حتى من مکان ناء وبلد بعید، کما تصرح بذلک بعض أحادیث الصلاة على رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم).
ولابن القیم کلام فی تفسیر الآیتین نأتی بنصّه: قال: أمّا قوله تعالى: { وما أنتَ بمسع من فی القبور } فسیاق الآیة یدل على أنّ المراد منها أنّ الکافر المیّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً یُنتفع به کما أنّ من فی القبور لا نقدر على إسماعهم إسماعاً ینتفعون به، ولم یُرِد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا یسمعون شیئاً البتة کیف وقد أخبر النبیّ (صلى الله علیه وآله وسلم) أنّهم یسمعون خفق نعال المشیّعین وأخبر أنّ قتلى بدر سمعوا کلامه وخطابه وشرّع السلام علیهم بصیغة الخطاب للحاضر الذی یسمع، وأخبر أنّ من سلّم على أخیه المؤمن ردّ علیه السلام.
هذه الآیة نظیر قوله: (إِنَّکَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِینَ)(12) وقد یقال: نفی إسماع الصُمّ مع نفی إسماع الموتى یدل على أنّ المراد عدم أهلیة کل منهما للسماع، وأنّ قلوب هؤلاء لمّا کانت میتة صمّاء کان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب المیّت والأصمّ، وهذا حقّ ولکن لا ینفی إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبیخ وتقریع بواسطة تعلّقها بالأبدان فی وقت ما، فهذا غیر الإسماع المنفی والله أعلم(13).
وقال أیضاً: قال ابن عبد البر: ثبت عن النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) أنّه قال: ما من مسلم یمرّ على قبر أخیه کانَ یعرفه فی الدنیا فیسلِّم علیه إلاّ ردَّ الله علیه روحه حتى یرد علیه السلام. فهذا نص فی أنّه یعرفه بعینه ویرد علیه السلام.
وفی الصحیحین عنه (صلى الله علیه وآله وسلم) من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا فی قلیب، ثم جاء حتى وقف علیهم وناداهم بأسمائهم یا فلان ابن فلان ویا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدکم ربکم حقّاً فإنّی وجدت ما وعدنی ربّی حقّاً؟ فقال له عمر: یا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جیّفوا؟ فقال: والذی بعثنی بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولکنّهم لا یستطیعون جواباً.
وثبت عنه (صلى الله علیه وآله وسلم) أنّ المیت یسمع قرع نعال المشیّعین له إذا انصرفوا عنه.
وقد شرّع النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن یُسلِّموا علیهم سلام من یخاطبونه فیقول: السلام علیکم دار قوم مؤمنین وهذا خطاب لمن یسمع ویعقل ـ ولولا ذلک لکان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.
والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ المیّت یعرف زیارة الحیّ له ویستبشر به.
قال أبوبکر عبد الله بن محمّد بن عبید بن أبی الدنیا فی کتاب القبور، باب معرفة الموتى بزیارة الأحیاء:
(حدثنا) محمد بن عون: حدّثنا یحیى بن یمان، عن عبد الله بن سمعان، عن زید بن أسلم، عن عائشة ـ رضی الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم): ما من رجل یزور قبر أخیه ویجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ علیه حتى یقوم.
(حدثنا) محمد بن قدامة الجوهری: حدّثنا معن بن عیسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زید بن أسلم عن أبی هریرة قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخیه یعرفه فسلّم علیه ردّ علیه السلام وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا یعرفه فسلّم علیه ردّ علیه السلام(14).
ویدل على هذا أیضاً ما جرى علیه عمل الناس قدیماً وإلى الآن من تلقین المیّت فی قبره، ولولا أنّه یسمع ذلک وانتفع به لم یکن فیه فائدة وکان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد (رحمه الله) فاستحسنه واحتجّ علیه بالعمل.
الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الإنسان
یدل على انقطاع الصلة بین الحیاتین الحدیث المتواتر عن رسول الله: " إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ عن ثلاث: صدقة جاریة، وعلم ینتفع به وولد صالح یدعو له " وهذه الروایة تشمل النبی (صلى الله علیه وآله وسلم)(15).
فعلى هامش هذه الشبهة نقول: إنّ من وطّن نفسه على إثبات ما یتمناه سواء أکان حقاً أم باطلا فهو یتمسّک بکل شیء سواء أکانت له دلالة على ما یتبناه أم لا.
فأی دلالة لهذا الحدیث على انقطاع الصلة، إذ غایة ما یدل علیه أنّ الإنسان لا ینتفع بعمله شخصیاً بعدما انتقل إلى البرزخ إلاّ عن ثلاث، فلیس له عمل مباشر ینتفع به إلاّ هذه الثلاث، وأمّا أنّه لا یتمکن من التکلم والجواب والاستغفار فی حق الغیر فلا دلالة للحدیث علیه.
هکذا تزول الشبهات ویبقى الأصل سلیماً وهو أنّ الأنبیاء أحیاء بعد مفارقة الأرواح لأجسادهم الطاهرة وأنّه من الممکن اتصال الأحیاء بأرواحهم، کل ذلک بإذنه سبحانه.
المصادر :
1- المؤمنون/100
2- محمد نسیب الرفاعی: التوصل إلى حقیقة التوسّل: 267.
3- یس /26-27
4- غافر/45 ـ 46
5- المؤمنون/99-100
6- الرحمن 19 ـ 20
7- الروم/52 والنمل بحذف الفاء/80
8- فاطر/22
9- التوصل إلى حقیقة التوسّل: 267.
10- آل عمران /169
11- الزمر/20
12- النمل /80
13- الإمام شمس الدین ابن القیم: الروح: 45 ـ 46، طـ. دار الکتب العلمیة بیروت.
14- الإمام شمس الدین ابن القیم: الروح: 5 ـ 6.
15- المصدر نفسه: 267.
source : .www.rasekhoon.net