بعد أن اضطرّ الإمام أمير المۆمنين لخوض معركة صفّين وسقط آلاف القتلى من كلا الطرفين، وبعد أن كان النصر قاب قوسين أو أدنى منه سلام الله عليه، تدارك الجيش المعادي الأمر بحيلة رفع المصاحف وانطلت حيلتهم على قسم كبير ممّن كان يحارب في ركاب أمير المۆمنين سلام الله عليه فطالبوه بوقف الحرب وهدَّدوه إن لم يفعل!! فاضطُرّ الإمام لوقف الحرب كما اضطُرَّ لخوضها وطلب من مالك الأشتر التوقّف عن التقدّم، ثم أجبروه على قبول التحكيم ثم اعترضوا على قبوله له بعد ذلك مطلقين شعار حقّ أرادوا به باطلاً، فقالوا: «لا حكم إلا لله»(1). الذي كان باكورة حدوث فرقة الخوارج من داخل جيش الإمام نفسه!
ولم يكتفِ هۆلاء بمروقهم حتى تظاهروا ضدّ الإمام أيضاً، وقد رفعوا في وجهه الشعار نفسه عندما دخل المسجد ـ وكان يوم جمعة ـ وهو يومذاك إمام وحاكم لأكبر وأوسع وأقوى دولة على وجه الأرض(2).
ومع ذلك لم يعاقبهم الإمام بل لم يسمح لقادة جيشه أن يمنعوهم ولا أحال أحداً منهم إلى القضاء أو السجن؛ مع أنّهم كانوا يعلمون بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال في حقّه:
عَليٌّ معَ الحَقِّ والحَقُّ مَع عَلِيٍّ (3).
لا يُحِبُّكَ إلاّ مُۆمِنٌ ولا يُبْغِضكَ إلاّ مُنافِقٌ أوْ كافِرٌ.
وهذا معناه أنّه لم يمنع أصحاب الباطل من حرّية التعبير. فأين يمكن أن تجدوا مثل هذه الحرّية؟ هل عهدتم حرّية كهذه حتى ممّن يدّعي حرصه عليها في هذا اليوم المعروف بعصر الحريات؟!
والأعظم من هذا أنّ الإمام لم يسمّ ولم يسمح بأن يُسَمّى هۆلاء ـ الذين خرجوا عليه وهتفوا بهذا الشعار في وجهه ـ بالمنافقين (4) مع أنهم كانوا أجلى مصداق لهذه المادّة، لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال لعليّ بن أبي طالب سلام الله عليه:لا يُحِبُّكَ إلاّ مُۆمِنٌ ولا يُبْغِضكَ إلاّ مُنافِقٌ أوْ كافِرٌ.
نعم، فالذين خرجوا ضدَّ الإمام أمير المۆمنين سلام الله عليه هم المنافقون الحقيقيون، ولكن سياسة الإمام ـ التي هي من سنخ سياسة النبي صلى الله عليه وآله ـ تقتضي أن لا يستخدم سيف الترهيب؛ ولا يُمارس ضدّ المعارضين أسلوب السباب والشتم فضلاً عن الوصف بالنفاق.
فمن أجل إدارة الحكومة ومراعاة المصلحة الأهمّ في سياسة حال الأمَّة بما فيها المعارضون أيضاً، نهى الإمام أن يقال عنهم: إنّهم منافقون.
المصادر:
(1) قال سلام الله عليه: «كلمة حقّ يراد بها باطل»! انظر نهج البلاغة: ص82، رقم40 من كلام له عليه السلام في الخوارج لمّا سمع قولهم «لا حكم إلاّ لله».
(2) راجع بحار الأنوار: ج33 ، ص343 - 419 باب23 قتال الخوارج واحتجاجاته صلوات الله عليه.
(3) ممّن رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أم سلمة: ج14، ص321.
(4) عن الإمام الصادق سلام الله عليه: إنّ عليّاً عليه السلام لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنّه كان يقول: هم إخواننا بغوا علينا. (قرب الإسناد للحميري القمّي: ص94 رواية رقم 318).
source : www.tebyan.net