ولد عام 1964م فی صفاقس بدولة تونس، ترعرع فی أسرة مالکیة المذهب، واصل دراسته الأکادیمیة حتى أتم الثانویة ثم دخل الجامعة فی فرع العلوم الطبیعیة.
تبلور اهتمام الأخ الأسعد بعد بلوغه سن الرشد فی مجال مطالعة الکتب والمقالات المختصة بالعلوم الحدیثة والأفکار المعاصرة المهتمة بشأن طرح الایدیولوجیة من المنظور الاسلامی، وجعل یتصفّح ما یُقال فی هذا المجال، وجعل یبحث حول التاریخ ونوامیسه وقوانین حرکته لیصل إلى رؤیة شمولیة حول التاریخ الذی یندمج فیه الانسان من جدید فی الکون مع الله وبالله جل جلاله.
البحث عن الوعی الاسلامی:
حاول الأخ الأسعد أن یصل إلى الوعی الاسلامی الذی یقود الحیاة إلى آفاق مستقبلیة رحبة وأن یُرقی مستوى معرفته من أجل الإحاطة بالنظم الفکریة والثقافیة والحضاریة الشاملة للاسلام، والتی تخلّص الانسان والمجتمع وتبشّر بحیاة سعیدة عادلة.
الاسعد بن علی
واجتهد الأخ الأسعد فی رحلة بحثه هذه أن یتعرّف على الشخصیات المتبحرة فی هذا المجال، فتعرّف خلال بحثه على کتب السید محمد باقر الصدر (قدس سرّه الشریف)، فوجد انتاجه یشکل نسیجاً متماسکاً لمدرسة إسلامیة متکاملة الأبعاد. فانبهر بشخصیته وذاب فی عطائه الفکری.
وکانت من جملة المواضیع التی نالت اعجاب الأخ الأسعد من کتب السید محمد باقر الصدر هی مسألة التجدید الکلامی والمضامین والأفکار الاعتقادیة التی خاضها فی ضوء منهجه الجدید.
ومن هذا المنطلق انفتح الأخ الأسعد على التراث الشیعی، وبدأ یتعرّف بالتدریج على اصول ومبادىء هذا المذهب، والمرتکزات الفکریة التی یعتمد علیها اتباع هذا المذهب.
معرفة الامامة:
تعرّف الأخ الأسعد خلال مطالعته لکتب السید محمد باقر ومراجعته لباقی الکتب الشیعیة على مسألة الإمامة ومکانتها فی الدین، وتبیّن له أن الإمامة کالنبوة حاجة حضاریة متأصلة فی حرکة المجتمع والتاریخ، وأن الإمام کالنبی شهید وخلیفة لله فی الأرض من أجل أن یواصل الحفاظ على الثورة ضد الجاهلیة والانحراف بکل محتواه الفکری والنفسی وبکل جذوره ومظاهره المختلفة من استبداد واستغلال، غیر أن جزء من دور الرسول یکون قد اکتمل وهو إعطاء الرسالة والتبشیر بها والبدء بالثورة الاجتماعیة على أساسها، فالوصی لیس صاحب رسالة ولا یأتی بدین جدید بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة التی جاء بها الرسول.
دارسته لموقف الرسول ازاء الخلافة من بعده:
واصل الأخ الأسعد بحثه حول الإمامة، ثم احبّ أن یتعرّف على موقف النبی(صلى الله علیه وآله)من الخلافة، فرأى أن الأمر لا یخرج من ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: الطریق السلبی وإهمال أمر الخلافة، وهذا لا یمکن قبوله فی حق رسول الله(صلى الله علیه وآله)، لأنّه ناشىء من أحد أمرین: الأمر الأوّل: أن یعتقد الرسول أنّ ذلک غیر مؤثر فی مستقبل الرسالة، الأمر الثانی: نظرته للدعوة نظرة مصلحیة ولا یهمه إلاّ أن یحافظ على الرسالة ما دام حیاً ولا یعنیه مستقبلها وحمایتها من بعده.
الاحتمال الثانی: الموقف الإیجابی المتمثل فی نظام الشورى، ولکن الأخ الأسعد خلال استقراء جملة من الشواهد من تاریخ الرعیل الأول ومواقفه لم یجد أن الرسول قد طرح هذا الأمر أو بیّن له الطریقة الخاصة للاتباع، ولم یجد سوى النصوص المصرّحة على خلافة الإمام علی (علیه السلام) من بعده.
الاحتمال الثالث: الایجابیة المتمثّلة فی اعداد من یقود الأمة، ویقول الأخ الأسعد: وجدت أن هذا الطریق هو الطریق الوحید الذی ینسجم مع طبیعة الأشیاء، ویعقل فی ضوء ظروف الدعوة والدعاة وسلوک النبی(صلى الله علیه وآله)، وهو أن یقف النبی(صلى الله علیه وآله)من مستقبل الدعوة بعد وفاته موقفاً ایجابیاً، فیختار بأمر الله سبحانه وتعالى شخصاً یعدّه اعداداً رسالیاً وقیادیاً خاصاً لتمثّل فیه المرجعیة الفکریة والزعامة السیاسیة.
وکانت من جملة الشواهد التاریخیة والنصوص المرویة عن رسول الله(صلى الله علیه وآله)، والتی دفعت الأخ الأسعد للتثبت من صحة هذا المسلک هی حدیث "الدار" وحدیث "الثقلین" و"المنزلة" و"الغدیر" وغیرها.
صعوبة التحول الفکری:
لم یکن من السهل للأخ الأسعد بعد اکتسابه القناعات الجدیدة أن یتحرّر من الجانب العاطفی الذی کان یشدّه بمعتقداته السابقة، ولکنه وقف بکل صمود وتحدی ازاء کل التیارات التی حاولت أن تسلب منه القناعات التی توصّل إلیها عبر الأدلة والبراهین الساطعة.
واستعان الأخ الأسعد بالله تعالى، فشعر بعدها أنه یمتلک القدرة على تخطی کافة الحواجز والعقبات التی وقفت بوجهه لتصرفه عن السیر باتجاه الحقیقة.
اعلان الاستبصار:
ورغم الموانع النفسیة التی واجهها الأخ الأسعد خلال اتخاذه القرار النهائی بشأن الانتماء المذهبی، لکنه واصل سیره نحو الحق هادىء النفس، قوی الحجة، ثابت الجنان، واعلن عام 1984م فی تونس اعتناقه لمذهب أهل البیت (علیهم السلام) ، ثم سافر إلى سوریا وأقام فی دمشق بجوار مرقد العقیلة زینب بنت الإمام علی (علیه السلام) والتحق بالحوزة العلمیة الموجودة هناک من أجل تلقی علوم ومعارف أهل البیت (علیهم السلام) والالمام بسیرتهم ومنهجهم وتراثهم الذی جاؤوا به لیخرجوهم من الظلمات إلى النور.
مؤلّفاته:
1- التجدید الکلامی عند الشهید الصدر(قدس سره):
صدر عن مرکز الأبحاث العقائدیة ضمن سلسلة الرحلة إلى الثقلین.وهو دراسة تحلیلة تستهدف الکشف عن أوجه التجدید والإبداع منهجیاً ومفاهیمیاً فی دراسة اصول الدین عند الشهید الصدر.ویحتوی هذا الکتاب على ثلاثة فصول وخاتمه:
الفصل الأول: مراحل علم الکلام.
الفصل الثانی: معالم التجدید المنهجی.
الفصل الثالث: المضامین الجدیدة فی ضوء المنهج الجدید.
الخاتمة: على طریق التجدید الکلامی.
2- المنهج الجدید فی تدریس العقائد": مخطوط.
3- فصول فی ثقافة الانتظار": مخطوط.
وله أیضاً العدید من المقالات فی مجلة الثقافة الاسلامیة الصادرة فی دمشق ومجلة المنهاج الصادرة فی بیروت، ومجلة النور الصادرة فی لندن.
وقفة مع کتابه: "التجدید الکلامی عند الشهید الصدر(قدس سره)"
یقدّم الکاتب لکتابه هذا، فیقول:
بدأ التاریخ فی المشرق... وأذن التاریخ بنهایته فی الغرب نهایة تمخضت فی تحولات سیاسیة خطیرة عرفها المعسکر الاشتراکی... ولا نزال نترقب تمثلاتها فی المعسکر الرأسمالی... بدأ التاریخ فی المشرق بعودة الوعی وعودة الإسلام یقود الحیاة إلى آفاق مستقبلیة رحبة... ویؤسس لنظم فکریة وثقافیة وحضاریة شاملة... تخلص الإنسان والمجتمع.. وتبشر بحیاة سعیدة عادلة.
لقد ساهم فی صنع هذه اللحظة التاریخیة العظیمة من فجر هذه الأمة رجالات کثر.. یشمخ على رأس قائمتهم... محمد باقر الصدر(قدس سره) الذی استشهد لیمْنَحَ کیان الأمة الإسلامیة نفحة من روحه الطاهرة.. فیشارک إلى جانب آخرین فی بعث الحیاة فی هذا الکیان.
لقد مثل باقر الصدر نموذجاً متمیزاً من منظری الساحة وعلماً بارزاً فی سماء نهضتها الفکریة وانبعاثها الحضاری.
وبعد عقدین من رحیله لا یزال انتاج باقر الصدر یشکل نسیجاً متماسکاً لمدرسة إسلامیة متکاملة الابعاد.. وبالرغم من التطورات الثقافیة والفکریة التی عرفها العالم منذ استشهاده إلاّ أن مشروعه الفکری لا یزال یمثل من عناصر القوة والجدیة ما یبقیه حاجة مستمرة إلى قراءة جدیدة...
ثم یتحدّث عن الجانب الفکری والکلامی بالخصوص عند الشهید الصدر(قدس سره)، فیقول:
یمتاز بأنه أسس لنقلات منهجیة خطیرة خاصة على مستوى نظریة المعرفة، حیث أنّه بنى لنفسه نظریة خاصة فی المعرفة (المذهب الذاتی) طبقها على العدید من المسائل فی علم الکلام فی بحوثه المتفرقة وهی میزة یفتقدها غیره من المجددین.
إن باقر الصدر رغم عدم امتلاکه أثراً متکاملا لتجدید المنهج الکلامی وطرق مسائله وفق منظوره الجدید لکن ما ترکه من نتاج عقائدی متناثر فی مؤلفاته المختلفة ومحاضراته العدیدة یشکل أرضیة صلبة لنقد المنهج القدیم، وصیاغة النهج الجدید، وقراءة لأصول الدین من وجهة نظر مبتکرة بلحاظ ثقافة العصر وحاجاته وأسئلته واستفساراته.
لقد تحولت لوحة أصول الدین فی منهج الصدر إلى نظریات متکاملة فی الثورة، والتغییر الاجتماعی والقیادة والخلافة والحیاة..
وفی هذا السیاق وفی مجال البحث العقائدی یتجلى إبداع (محمد باقر الصدر) فی القدرة على الانتقال بعلم الکلام نقلات منهجیة کبرى من شأنها أن تسهم فی أرساء أسس جدیدة لعلم عقائدی جدید.
وباستقراء الانتاج الکلام والعقائدی للسید محمد باقر الصدر المبثوث هنا وهناک فی أکثر کتبه یمکن أن نستکشف: خمس نقلات منهجیة أساسیة:
أولا: من المنطق الأرسطی إلى المذهب الذاتی
ثانیاً: من الاتجاه التجزیئی إلى المنهج الترابطی الموضوعی ثالثاً: من النزعة الثبوتیة إلى المنهج التکاملی رابعاً: من عقیدة الفرد إلى عقیدة المجتمع خامساً: من المذهبیة الجدلیة إلى الإنسانیة الیقینیة.
ونقف هنا بعض الشیء عند النقلة المنهجیة الأولى.
من منطق أرسطو إلى المذهب الذاتی:
یقول الکاتب فی هذا المجال:
فی کتاب فلسفتنا تبنّى باقر الصدر النظریة الأرسطیة فی المعرفة حیث سلّم بالبدیهیات الست، وضرورة مبدأ العلیة، ومسألة: بداهة الواقع الخارجی، لکنه لم یکن لیقف فی حدود منطق أرسطو الذی حکم إلى حد ما تراثنا الفکری وخاصة الکلامی الذی تأثر بالمباحث المنطقیة والفلسفیة إثر ترجمة التراث الیونانی. واتخذ طابعاً جدلیاً وتطرف أحیاناً کثیرة فی ملاحقة إشکالات الفلسفة والمنطق الارسطی حتى سقط فی التجرید المطلق، والبحث عن شبهات افتراضیة أکثر منها واقعیة لا ثمرة عملیة من ورائها.
"لکن باقر الصدر لم یستسلم للهیبة التاریخیة للمنطق الأرسطی رغم کل التعدیلات التی أدخلها علیه المفکرون الإسلامیون، وقطع مع هذا التراث الطویل بأطروحته المتمیزة: الأسس المنطقیة للاستقراء، والذی قال عنها باقر الصدر نفسه.. أنها استطاعت أن تملأ فراغاً کبیراً فی نظریة المعرفة البشریة لم یستطع الفکر الفلسفی أن یملأه خلال الفی سنة"(1)
لیس کتاب الأسس المنطقیة للاستقراء، کما قد یوحی عنوانه دراسة لمشکلة الاستقراء فحسب، وحل لقضیة التعمیم الاستقرائی، وانما هو أطروحة لنظریة معرفیة جدیدة أسماها باقر الصدر: المذهب الذاتی فی المعرفة: إنه مذهب ثالث مقابل المذهب التجریبی والمذهب العقلی.
مقارنة بین المذهب الذاتی والمذهب العقلی:
سنحرّر هذه المقارنة فی النقاط التالیة:
أولا: تحدید مصدر المعرفة: فالمذهب الذاتی یتفق مع المذهب العقلی حول وجود قضایا وإدراکات قبلیة التی تمثّل أساساً یقوم علیه البناء الفوقی للمعرفة.
ثانیاً: یختلف مع المذهب العقلی فی الأساس المنطقی للتعمیم الاستقرائی، فالمذهب العقلی یستند فی هذا التعمیم إلى مبادىء ثلاثة: مبدأ السببیة ومبدأ عدم تکرر الصدفة باستمرار، ومبدأ: ان الحالات المتشابهة من الطبیعة تؤدی إلى نتائج متماثلة، ویعتقد هؤلاء أن هذا المبدأ مستقل عن التجربة، ومستقبل برهانیا عن مبدأ السببیة، ومن نقطة الخلاف هذه حول رجوع الاستقراء إلى القیاس حسب المنطق العقلی ینطلق باقر الصدر لیشید نظریتة فی المعرفة.
ثالثاً: إن المذهب العقلی یؤمن اساساً بالتوالد الموضوعی فی المعرفة، والقیاس هو العمدة فی الاستدلال، وحتى الاستقراء یرجع فی الأخیر إلى قیاس صغراه الملازمة بین ظاهرتین کما تعکسها ملاحظاتنا، وکبراه ان الصدفة لا تتکرر باستمرار.
والتلازم الموضوعی یعنی أنه اعتماداً على التلازم بین قضیة وأُخرى، أو بین قضیة ومجموعة قضایا أخرى یمکن أن تحصل معرفتنا بتلک القضیة من معرفتنا بالقضیة أو القضایا التی تستلزمها. مثال ذلک من قولنا: (سقراط انسان) و(کل إنسان فان) نستنج ان (سقراط فان)، فهذا توالد موضوعی لأنه ناشىء عن التلازم بین الجانب الموضوعی للمقدمات والجانب الموضوعی للنتیجة. (فالتوالد الموضوعی هو الأساس فی کل استنتاج یقوم على القیاس الأرسطی، لأن النتیجة دائماً ملازمة للمقدمات على أساس التوالد الموضوعی والتلازم بین القضایا المستدل بعضها على البعض الآخر بصورة قیاسیة(2)
أما التوالد الذاتی الذی یعتقد المذهب الذاتی أنها الطریقة التی تحصل بها أکثر معارفنا فهی تؤمن بأنه یمکن أن تنشأ معرفة جدیدة انطلاقاً من التلازم بین الجانبین الذاتیین للمقدمات والنتائج دون تلازم فی الجانبین الموضوعیین والمقصود من الجانب الذاتی الادراک. فی حین ان المنطق الأرسطی یعتبر أن هذا التلازم الذاتی دون تلازم فی الجانب الموضوعی غیر کاف للانتقال إلى النتیجة وهکذا حاول المنطق الارسطی أن یفسّر کل معارفنا بأنها إمّا أن تکون أولیة أو أنها مستنتجة على أساس التوالد الموضوعی. أما المذهب الذاتی فیؤمن: بوجود معارف أولیة تمثل الجزء العقلی القبلی من المعرفة (مبدأ عدم التناقض)، وأن هناک معارف ثانویة مستنتجة على طریقة التوالد الموضوعی (مثال ذلک نظریات الهندسة الاقلیدیة والمستنتجة من بدیهیات تلک الهندسة)، وهناک معارف ثانویة مستنتجة من معارفنا السابقة بطریقة التوالد الذاتی (التعمیمات الاستقرائیة) وهی تهم أکثر معارفنا.
رابعاً: إن المذهب الذاتی لا یشترط أن تکون المعرفة الأولیة یقینیة: فهو یُرجع بدایة المعرفة إلى قسمین: أحدهما: المعرفة التی تفرضها بدیهیات نظریة الاحتمال. والآخر: نفس الخبرة الحسیة بالموضوعات، فنحن حین نشاهد سحاباً فی السماء تعتبر مشاهدتنا خبرة حسیّة والسحاب فی السماء هو موضوع هذهِ المشاهدة، ومعرفتنا بالمشاهدة نفسها معرفة ابتدائیة أولیة ولیست مستدلة، وأما معرفتنا بوجود سحاب فی السماء فهی معرفة مستدلة بطریقة استقرائیة، ومع تمسک المذهب الذاتی بوجود بدایة للمعرفة حتى لا یلزم التراجع إلى ما لا نهایة، لا یقر بأن تکون هذه البدایات ضروریة ویتصور المذهب الذاتی المعرفة الأولیة احتمالیة فی مجالین: المجال الأول: مجال الخبرة الحسیّة والثانی مجال القضایا العقلیة الأولیة التی یکون ثبوت المحمول فیها للموضوع ثبوتاً مباشراً دون حدّ أوسط. هذه القضایا التی لا یمکن اثباتها باستنباط عقلی قد تکون متقدمة بدرجة عالیة من التصور، وکذلک بدرجات أقل (وما دامت بعض المعارف الأولیّة بالامکان أن تحصل بقیم احتمالیة فی البدایة فمن الممکن تنمیة هذه القیم الاحتمالیة وفقاً لنظریة الاحتمال، فکلما وجدت احتمالات تتضمن تلک المعرفة الأولیة المحتملة ازدادت قیمتها الاحتمالیة(3)
ومن المهم ونحن نتحدث عن نظریة المذهب الذاتی کنقلة منهجیة فی المبحث الکلامی أن نلخص طریقة التوالد الذاتی للمعرفة.
ذکرنا سابقاً أن المذهب الذاتی یرى أن أکثر معارفنا تتوالد بطریقة ذاتیة لا موضوعیة، وهذا التوالد یمر بمرحلتین مرحلة موضوعیة ومرحلة ذاتیة: (إن کل معرفة ثانویة یحصل علیها العقل على أساس التوالد الذاتی تمر بمرحلتین إذ تبدأ أولا مرحلة التوالد الموضوعی، وفی هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالیة وینمو الاحتمال باستمرار، ویسیر نمو الاحتمال فی هذه المرحلة بطریقة التوالد الموضوعی حتى تحظى المعرفة بدرجة کبیرة جداً من الاحتمال غیر ان طریقة التوالد الموضوعی تعجز عن تصعید المعرفة إلى درجة الیقین، وحینئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتی لکی تنجز ذلک وترتفع بالمعرفة إلى مستوى الیقین)(4)
مضامین جدیدة فی ضوء المنهج الجدید:
یبین الکاتب ذلک بالقول:
مع تحقق النقلات المنهجیة الهامة کان لابد لعلم الکلام أن یتجدد لا فی آلیات البحث فقط وانما فی المضامین والمفاهیم، حتى انه یمکن القول أن (العقیدة) اضحت فی تعریفها کنظریة للانسان والحیاة والثورة أقرب ما تکون من قاعدة للنهضة والتقدم والتغییر.
ولکن کیف یمکن أن ندرس المضامین الجدیة والمفاهیم الناتجة عن المنهج المبتکر؟ خاصة وأن العقیدة فی ضوء هذا المنظور الجدید تتقاطع مع الرؤیة الکونیة وفلسفة الدین وفلسفة التاریخ والنظام الاجتماعی.
إن دراسة هذه المضامین خارج الاطار الکلاسیکی (التقسیم الخماسی) یجعلنا نواجه صعوبات ما.. أدناها انه لن تتضح العلاقات بین المطالب العقائدیة والمجالات الأخرى.
خاصة فی ظل العقلیّة القدیمة التی تشکلت عبر قرون عدیدة ورؤیتها المسبقة لأصول الدین فی تعیناتها الثابتة، فی حین أن المشروع الفکری العام لباقر الصدر یستند إلى حلقات متلاحمة ومتراصة تحتل فیها العقیدة (الرؤیة الکونیة) إلى جانب نظریة المعرفة الأسس الجذریة للبناء الفکری العام فی شتى میادین الحیاة (اجتماع، سیاسة، اقتصاد... الخ).
لأجل ذلک حافظنا على الاطار القدیم للتصنیف المعروف فی أصول الدین (اللوحة الخماسیة) وهذا سیساعد على تلمس معالم التجدید العمیق الذی أحدثه باقر الصدر فی مستوى المفاهیم والمضامین، والتی لا تقل أهمیة التجدید فی مجالها عن التجدید من المناهج والآلیات. لأن السید باقر الصدر یولی دائماً المفاهیم أهمیة خاصة.. ویعتبرها قاعدة السلوک والخط الذی یختاره ویشقه الانسان فی الحیاة.
وسوف نقف مع بعض ما أورده فی الأصل الأول.
التوحید:
أدرک القدماء أهمیة التوحید ومحوریته لکل الأصول الاخرى فسمّوه: أصل الأصول. واطلق على العقائد اسم (علم التوحید)، لأن الأصول الاخرى متوقفة علیه. وعرّف بعضهم علم الکلام بأنّه العلم الذی یبحث عن ذات الله وصفاته وأفعاله. ویندرج تحت أفعاله: النبوة والامامة والمعاد، لانها تمثل تجلیات الفعل الإلهی فی الکون والحیاة وما بعد الحیاة.
یلتقی باقر الصدر مع رؤیة القدماء حول مرکزیة التوحید، ویفجر فی کتاباته مفاهیم عدیدة وتصورات مستجدة تواکب المعرکة التی یعیشها الإسلام فی عصره الحالی ولحظته التاریخیة.
ویختار القضیة التالیة کعنوان للتجدید فی مستوى هذا الأصل:
التوحید والمثل الأعلى المطلق:
نظرة جدیدة تلک التی یطرحها باقر الصدر عبر مفهوم (المثل الأعلى المطلق)، فالمجتمع والفرد سواء بسواء یتشخص سیرهما، ومعالم هذا السیر من خلال اختیار المثل الأعلى (فبقدر ما یکون المثل للجماعة البشریة صالحاً وعالیاً وممتداً تکون الغایات صالحة وممتدة، وبقدر ما یکون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تکون الغایات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أیضاً)(5).
فالمثل الأعلى هو محور أی حرکة تاریخیة لأنه یحدد غایاتها وأهدافها، وبدورها هذه الأهداف هی التی ترسم حدود الانشطة والحرکات ضمن مسار ذلک المثل الأعلى.
لقد صنف المثل العلیا إلى ثلاثة أقسام:
ـ القسم الأول: المثل الأعلى المنتزع من الواقع المعیش بکل ما یحویه من ظروف وملابسات.
ـ القسم الثانی: المثل الأعلى المحدود هذا النوع لیس تعبیراً تکراریاً عن الواقع کما هو القسم الأول بل هو تطلع للمستقبل، لکنه منتزع عن جزء من هذا الطریق المستقبلی الطویل.
ـ القسم الثالث: المثل الأعلى المطلق: الذی تؤمن به عقیدة التوحید وهو الله جل جلاله.
النوع الأول یمثل محاولة لتجمید الواقع، ویکون المستقبل تکراراً للواقع و(هذا النوع من الآلهة یعتمد على تجمید الواقع، وتحویل ظروفه النسبیة إلى مطلقة لکی لا تستطیع الجماعة البشریة أن تتجاوز الواقع، وأن ترتفع بطموحاتها عن هذا الواقع)(6)
إن تبنی هذا النوع من المثل العلیا یرجع إلى أحد سببین:
أولا: سبب نفسی: وهی حالة الخمول والالفة التی تجعل المجتمع یعیش حالة ضیاع فینغلق على آلهة ینتزعها من واقعه یحوّلها إلى حقیقة مطلقة، وقد عبّر القرآن الکریم عن ظاهرة تقدیس الواقع الموروث وتحویل رموزه النسبیة إلى حقائق مطلقة فی آیات عدیدة(7)
(قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَیْنَا عَلَیْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَ لَوْ کَانَ ءَابَآؤُهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ شَیْـاً وَ لاَ یَهْتَدُونَ) (8)
السبب الثانی: اجتماعی ویتمثّل فی التسلط الفرعونی: فالفراعنة یرون فی التوحید تجاوزاً للواقع الذی یسیطرون علیه، وبالتالی خطراً یهدد سلطانهم ویزلزل کیانهم، فیکون من مصلحتهم أن یغمضوا عیون الناس عن أی أفق وراء الواقع.. ولن یحصل ذلک إلاّ بتحویل هذا الواقع إلى مطلق إلى مثل أعلى لا یمکن تجاوزه.. ففرعون یحاول دائماً أن یعبىء الجماهیر ویؤطرها فی ظل وجوده ورؤیته هو (قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِیکُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَ مَآ أَهْدِیکُمْ إِلاَّ سَبِیلَ الرَّشَادِ) (9)، (وَ قَالَ فِرْعَوْنُ یَـأَیُّهَا الْمَلاَ مَا عَلِمْتُ لَکُم مِّنْ إِلَـه غَیْرِی) (10).. إنه خط الطاغوت فی التاریخ الذی یسعى لتجمید حرکة المجتمع البشری، وتحویل الواقع إلى مطلق، وسجن الجماعة البشریة فی ضیق الماضی وحُدُودِ رموزه.. هکذا تتحول معرکة التوحید والکفر إلى معرکة بین قوى التقدم وقوى التآمر والجمود، وتکون (الفرعونیة) بکل مظاهرها الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسة.. المؤسسة وتحررها الرسالی.. إن مصیر الأمم التی تخضع لهذه المثل العلیا المنخفضة إنها تتحول إلى ما أسماه(قدس سره).. (شبح أمة) تعیش الفرقة والتمزق، لأنه بغیاب عقیدة التوحید.. ینتفی الإطار الذی یوحد صفوف الأمة، و(یبقى کل إنسان مشدود إلى حاجاته المحدودة إلى مصالحه الشخصیة إلى تفکیره فی أموره الخاصة، کیف یصبح؟ کیف یمسی؟ کیف یأکل؟ کیف یشرب؟ کیف یوفر الراحة والاستقرار لأولاده ولعائلته أی راحة؟ أی استقرار؟ الراحة بالمعنى الرخیص للراحة والاستقرار بالمعنى الرخیص من الاستقرار.. یبقى کل انسان سجین حاجاته الخاصة سجین رغباته الخاصة..)(11)، ویحدد باقر الصدر هذه الأمة النهائی بأحد الإجراءات الثلاثة التالیة:
الاجراء الأول: ان تتداعى الأمة لغزو عسکری من الخارج، لأن الأمة أفرغت من محتواها وصار کل فرد یفکّر فی ذاته.
الاجراء الثانی: الذوبان والانصهار فی مثال أعلى أجنبی مستورد.
الاجراء الثالث: أن ینشأ فی اعماق هذه الأمة بذور إعادة المثل الأعلى من جدید بمستوى العصر الذی تعیشه تلک الأمة.
أما النوع الثانی (المثل الأعلى المحدود) فقد نجد لتبنی المجتمعات والأفراد لهذا النوع عذراً، لأنّهم لا یستطیعون أن یستوعبوا المطلق بحکم محدودیة الأذهان، ویکمن الخطر هنا أیضاً فی أن یضفی على هذا المستقبل القریب الاطلاق من جمیع الجهات، لا شک أن هذا النوع یعطی للجمیع طاقة نحو المستقبل ودفعاً، ولکن فی حدود آفاق هذا المثل الأعلى، لأنه سرعان ما یبلغ مداه الاقصى فیتحول إذا لم نتجاوزه إلى عائق یعطل المسیرة ویشدها إلى عهود تکراریة.
بهذه الموازنة بین هذه الأنواع المختلفة للمثل العلیا یبرز الصدر الأهمیة الحضاریة لعقیدة التوحید، وللمثل الأعلى المطلق الذی یجعل من الله غایة للمسیرة (یَـأَیُّهَا الاْنسانُ إِنَّکَ کَادِحٌ إِلَى رَبِّکَ کَدْحاً فَمُلَاقِیهِ ) (12) بکل ما یعنیه ذلک من تألق المسیرة ودیمومتها وتکاملها اللامحدود.
إن عقیدة التوحید تصنع التوافق بین الوعی البشری والواقع الکونی الذی یفرض هذا المثل الأعلى حقیقة قائمة ثابتة.. ولذلک عبرت الآیة عن الکدح بصیغة خبریة لا بصیغة إنشائیة. فالبشریة تکدح نحو الله شاءت أم أبت حتى الذین یتمردون على الله هم یسیرون نحو الله ولکن من حیث لا یشعرون.. لأن کونه سبحانه مثلا أعلى حقیقة کونیة على الانسان أن یعیها ویرتبط بها.. (وَالَّذِینَ کَفَرُواْ أَعْمَـالُهُمْ کَسَرَاب بِقِیعَة یَحْسَبُهُ الظَّمْـَانُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ یَجِدْهُ شَیْـاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَ اللَّهُ سَرِیعُ الْحِسَابِ )(13)
وعقیدة التوحید عندما توحد بین الوعی والواقع وبین الاعتقاد والحقیقة.. یحدث تغیراً کمیاً وکیفیاً على مسیرة الإنسان، فالمثل الأعلى المطلق یحفز الانسان والمجتمع نحو التقدم ویضفی على المسیرة اندفاعاً وتجدداً لا ینضب، فعلى المستوى الکمی یفتح آفاقاً لا نهایة لها، لأنه کلما قطعت المسیرة شوطاً نحو الله انفتحت أمامها أشواطاً جدیدة.. وتسقط حینئذ وتتهاوى کل الاشکال من الالوهیات المزیفة على هذا الطریق الزاحف نحو المطلق (من هنا کان دین التوحید صراعاً مستمراً مع کل اشکال الآلهة، والمثل المنخفضة والتکراریة التی حاولت أن تحدد من کمیة الحرکة من أن توصل الحرکة إلى نقطة ثم تقول قف أیها الإنسان) أما التغیر الکیفی تتجلى فی حل الجدل الداخلی للإنسان بإعطاء الشعور الداخلی بالمسؤولیة الموضوعیة، لأن الانسان من خلال إیمانه بهذا المثل الأعلى ووعیه على طریقه بحدوده الکونیة الواقعیة من هذا الوعی ینشأ بصورة موضوعیة شعور معمق لدیه بالمسؤولیة تجاه هذا المثل الأعلى لأول مرة فی تاریخ المثل البشریة التی حرکت البشر على مر التاریخ) (14)
وسبب ذلک أن المثل الأعلى المطلق حقیقة وواقع عینی منفصل عن الإنسان، وبذلک یتفق الشرط المنطقی للمسؤولیة وجود جهة علیا یؤمن هذا الإنسان بأنه مسؤول أمامها.
على طریق التجدید الکلامی:
إن أطروحة الصدر الکلامیة لا تزال تختزن داخلها مشاریع عدة تستوجب جهوداً کبیرة لتفجیرها، والرقی بالطرح العقائدی إلى مستویات أعلى قادرة على مقارعة کل التیارات المستحدثة، واقتحام کل الساحات الفکریة والفضاءات الثقافیة وتحدی کل المشاریع المضادة..
نعم انه من الطبیعی أن المجددین الکبار یرحلون قبل أن یتموا مشاریعهم الکبرى، لأن مشاریعهم الفکریة والحضاریة هی دوماً أکبر من أعمارهم وتحتاج إلى أجیال عدیدة تستوفی اغراضها على أیدیهم..، ولکن مع ذلک.. لابد من توجه صادق وقوی نحو هذه المهمة حتى نحقق بعد سنین نتائج مثمرة على هذا الطریق.
المصادر :
1- محمود الهاشمی، بحوث فی علم الأصول، المجمع العلمی للشهید الصدر، مج4، ص140
2- محمد باقر الصدر، الأسس المنطقیة للاستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، 1981، ص135
3- میزان الحکمة، ص504
4- میزان الحکمة ، ص141
5- محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنیة، م. س، ص145
6- میزان الحکمة ، ص149
7- من نماذج هذه الآیات: (المائدة 104)، (یوسف 78)، (ابراهیم 10)، (الزخرف 22)، (هود 62)
8- البقرة: 170
9- غافر: 29
10- القصص: 38
11- میزان الحکمة ، ص161
12- الانشقاق: 6
13- النور: 39
14- میزان الحکمة ، ص185
source : .www.rasekhoon.net