عربي
Tuesday 15th of October 2024
0
نفر 0

الامام السجاد و وقعة الحرة :

الامام السجاد و وقعة الحرة :

و رجع الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة :
ليستقبله أهلها، بالبكاء والتعزية، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كر بلاء، و يركّزها في الأذهان من طريق القلوب، كي لا يطالها التشويش والإنكار، بمرور الأعصار، كما طال كثيراً من الوقائع والحوادث، فأصبحت مغمورة أو مبتورة.
فأرسل بشر بن حذْيم (1) إلى المدينة و أهلها ناعياً الحسين عليه السلام ومعرفاً إيّاهم بمكان الإمام السجاد عليه السلام .
قال بشر: فما بقيتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهن، ...، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرَ على المسلمين منه .
قال: فخرج علي بن الحسين، ومعه خرقة يمسح بها دموعه، و خلفه خادم معه كرسيّ، فوضعه له و جلس عليه، و هو لا يتمالك عن العَبْرة، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء، و حنين النسوان والجواري، والناس يعزّونه من كل ناحية، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة، فأومأ بيده: أن اسكنوا، فسكنت فورتهم، فقال :
الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارى الخلق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلا، و قرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور، و فجائع الدهور، وألم الفجائع، و مضاضة اللواذع، و جليل الرز، و عظيم المصائب الفاظعة، الكاظّة، الفادحة الجائحة .
أيّها القوم إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتِلَ أبو عبد الله، الحسين، و عترته، و سبيت نساؤه و صبيته، و داروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، و هذه الرزية التي لا مثلها رزية .
أيّها الناس فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ? أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ? أم أية عين منكم تحبس دمعها، و تضنّ عن انهمالها ?
فلقد بكت السبع الشداد لقتله و بكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحيتان في لجج البحار والملائكة المقرّبون و أهل السماوات أجمعون.
أيّها الناس أصبحنا مشرّدين، مطرودين، مذودين، شاسعين عن الأمصار، كأنّنا أولاد ترك و كابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنْ هذا إلا اختلاق .
والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا، لما زادوا على ما فعلوا بنا .
فإنّا لله و إنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، و أفجعها، و أكظّها، و أفظعها، و أمرّها، و أفدحها فعنده نحتسب ما أصابنا، فإنّه عزيز ذو انتقام(2) .
ولم تذكر المصادر شيئاً عن رجالات المدينة المعروفين، إلا أن صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه، فترحّم الإمام على أبيه .
والظاهر أنّ رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجاد عليه السلام بالعواطف الحارّة فقط، وأنهم لم يتجاوزوا ذلك، إذ لم يجدوا مبرّراً في التورّط مع الحكومة، ولو بعد قتل الحسين عليه السلام بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد عليه السلام .
و يظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحرّكهم ضدّ يزيد و حكومته أنهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما يُنكر من فعل أو ترك، حتّى وفدوا عليه، وحضروا بلاطه، ورأوا بأمّ أعينهم ما رأوا، فرجعوا، و ثاروا عليه .
وقد جاء في إعلانهم الأوّل ما نصّه: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، و يدع الصلاة، و يعزف بالطنابير، و تضرب عنده القيان، و يلعب بالكلاب، ويسامر الخرّاب، والفتيان، و إنّا نُشهدكم أنا قد خلعناه .
و أتوا عبدالله بن الغسيل، فبايعوه وولّوه عليهم (3) .
فليس في بيانهم ذكر الحسين عليه السلام، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت عليهم السلام وأما الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره، فقد أعلنه الإمام الحسين عليه السلام قبل سنين في كتابه إلى معاوية (4) .
فأين كان أهل المدينة يومذاك ?
ولماذا لم يتحرّكوا من أجله حينذاك ?
ثم إن مَنْ يحرّكه شرب الخمر، والفسق، والفجور، لماذا لا يتحرّك من أجل قتل الحسين عليه السلام و الفجائع التي صُبّت على أهل البيت عليهم السلام، والتي أدّى علي بن الحسين عليهم السلام حقّ بلاغها في خطبته تلك ? بل، إن المسعودي يذكر: أن حركة اهل المدينة و إخراجهم بني أمية وعامل يزيد، من المدينة، كان عن إذن ابن الزبير (4) . فلم يكن لأهل البيت، ولا للإمام السجاد عليه السلام، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة، و أصحاب الحرّة، لمّا تحرّكوا ضدّ حكم يزيد .
بينما كان دخول الإمام عليه السلام معهم في التحرك توقيعاً على شرعيّة حركتهم .
والحقّ أن أهل المدينة جفوا الإمام السجاد عليه السلام بعد كر بلاء، و هذه الحقيقة كانت واضحة، حتّى أعلنها الإمام في قوله: ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (5)
ولعلّ علم الإمام عليه السلام بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلّة، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة و بطش و قسوة، من دواعي حياده عليه السلام .
مضافاً إلى أن اتّخاذه القرار السابق، بالابتعاد عن المدينة، للأسباب والمبرّرات التي ذكرناها سابقاً، كان كافياً لعدم تورّطه في هذه الحركة .
و يظهر أن الدولة التي واجهت هذه المرّة حركة أهل المدينة، كانت على علم بجفأ أهل المدينة لأهل البيت عليه السلام، و بما أنها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت عليهم السلام، أرادت أن تستفيد من الوضع، بالتزلّف إلى علي بن الحسين والتودّد إليه، لامتصاص النقمة، فلم تتحرّش به، بل حاولت أن يتمثّل الناس به، حسب نظر رجال الدولة!
ثم إن اختيار أهل الحرّة للمدينة بالذات مركزاً للتحرّك، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكّة، والمسجد الحرام بالخصوص، مركزاً لتحركه، حتّى عرّضوا هذين المكانين الحرمين المقدّسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الامويين الحاقدين على الإسلام و مقدّساته .
بينما أهل البيت عامة، بداً بالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، و مروراً بالإمام الحسين عليه السلام، و كذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكّام، إنما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين، حفاظاً على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم، و تهتك لهما حرمة، و إبعاداً لأهالي الحرمين من ويلات الحروب و مآسيها، و نقمة الجيوش و بطشها (6).
و هذه مأثرة لأهل البيت عليهم السلام لابد أن يذكرها لهم التاريخ لكنّ أهل الحرّة، لم يصلوا الى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق، لبعدهم عن الإمام السجاد عليه السلام الذي كان في عمر (7) سنة .
ولقد هيّأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد عليه السلام أمرين كانا في صالح الإمام عليه السلام، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل:
أحدهما: النجاة من اتّهام السلطات له بالتورّط في الحركة، ولذلك لم تضعه في القائمة السودأ، فإن الحكومة و حسب بعض المصادر كانت تعرف ابتعاده عنها .
الثاني: تمكّن الإمام عليه السلام من تخليص كثير من الرؤوس أن تقطع، و كثير من الحرمات أن تهتك .
و مَنْ يدري ? فلعلّ اشتراك الإمام السجاد عليه السلام في تلك الحركة كان يؤدّي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي، إبادة شاملة، تلك التي كانت من أماني آل أمية ?
فتمكّن الإمام السجاد عليه السلام بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل .
ولقد كان الإمام عليه السلام ملجأ للكثير من العوائل الأخرى، حتّى من عوائل بني أمية نفسها .
ففي الخبر أنه عليه السلام ضمّ إلى نفسه أربعمأة مُنافيّة يعولهن إلى أن تفرّق الجيش(8) .
وكان في مَنْ آواهنّ عائلة مروان بن الحكم، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفّان الأموي، فكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين ذلك(9) .
ويحاول بعض الكتّاب أن يجعل من حياد الإمام عليه السلام، و تصرّفاته مع مروان ،و عدم تعرّضه من قبل الجيش بسو، دليلاً على عدم تحرّكه عليه السلام ضدّ الحكم الأموي ?
لكنّها محاولة مخالفة للحقيقة:
فإن الإمام عليه السلام إنّما ينطلق في تصرّفاته، من منطلق الحكمة والتدبير، و ما ذكرناه من الشواهد كافٍ لأن نبرّر موقفه الحيادي من حركة الحرّة، فكل من يدرك تلك الحقائق و يقف عليها يتبيّن له أن التحرّز من عمل تكون عواقبه مرئيّة و واضحة و مكشوفة، هو الواجب والمتعيّن، فلو دخل في الحركة، فإما أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم، أو تنجح الحركة التي لم تبتنِ على الحقّ في دعواها، و إنما تبنّاها مَنْ لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقّاً في الإمامة .
مع أن من النصوص ما يدلّ على أن الإمام كان مستهدفاً:
قال الشيخ المفيد: قدم مسرف(4) بن عقبة المدينة، وكان يقال: (إنه لايريد غير علي بن الحسين عليه السلام )(10) . ولا ريب أن الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت عليهم السلام في كربلاء، لم يكن يخاف الإمام السجاد عليه السلام، لما هو معلوم من وحدته و غربته، و مع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه، لأنّه الوارث الوحيد لأهل البيت بمالهم من ثارات و دماء، و بما لهم من مكانة مرموقة في أعين مُحبّيهم، الذين يترقّبون فيهم من الإمامة فلا ريب أن الإمام السجاد عليه السلام كان مستهدفاً و هذا النصّ قبل كل شي يدلّ على أن الإمام السجاد عليه السلام كان في نظر الناس عنصراً معارضاً للحكم والدولة، ولم يكن مستسلماً قط، حتّى كان الناس يرون أن الجيش الجرّار إنما توجّه بقصده إلى (علي بن الحسين) لا ليحترمه طبعا . فعلي بن الحسين، في نظر الناس، لا يزال عدوّاً للدولة، رغم انعزاله، و ابتعاده، و عدم تورّطه في الحركة كما يدلّ قول البلاذري أن علي بن الحسين عليه السلام استجار بمروان و ابنه عبد الملك، فأتيا به ليطلبا له الأمان(11) على أن الإمام عليه السلام كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة .
لكن الدولة، التي لم تغفل عن الإمام السجاد عليه السلام كانت على علمٍ بتصرفاته، ولم يقع لها ما يبرّر اتهامه وصبّ جام الغضب عليه والفتك به .
و من أجل امتصاص النقمة، وخاصة بعد تحرّك أهل المدينة، صار رجال الدولة الى النفاق، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة و أهلها، فأخذوا يعلنون التزلّف الى الإمام عليه السلام بإظهار التودّد إليه، و يكرمونه، و يقرّبونه، و يعبّرون عنه بالخير الذي لا شرّ فيه، مع موضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و مكانه منه) (12) .
وقال المسعودي: و نظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد، وقد لاذ بالقبر و هو يدعو، فأتي به إلى مسرف، وهو مغتاظ عليه، فتبرّأ منه و من آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، و أقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قدّم الى السيف إلاّ شفّعه فيه، ثم انصرف عنه .
فقيل لعلي: رأيناك تحرّك شفتيك، فما الذي قلت ؟
قال: قلت: اللهم رب السماوات السبع و ما أظللن، والأرضين و ما أقللن، رب العرش العظيم، رب محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، و أدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، و تكفيني شرّه .
وقيل لمسلم: رأيناك تسبّ هذا الغلام و سلفه، فلمّا اُتي به إليك رفعت منزلته ?
فقال: ما كان ذلك لرأي منّي، لقد مُلىء قلبي منه رعباً (13) .
و هكذا يفرض عنصر (الغيب) نفسه في البحث، ولا يمكن إبعاده لكونه وارداً في المصادر المعتمدة .
و نحن و إن كنّا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به، إلاّ أن الذين يريدون أن يُضفوا على حياة الإمام السجاد عليه السلام أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر مع أن خوف الإمام عليه السلام وفزعه، من الجيش السفّاك، ولجوءه و عوذه بالحرم الشريف، وسبّ القائد الأموي له و تبرؤه منه، أدلة كافية في إثبات أن الإمام عليه السلام كان مستهدفاً، إلاّ أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته و خلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة و أشرافها !.
و مع أعباء القيادة: .
و رجع الإمام عليه السلام الى المدينة: .
ليواجه الخطر المحدق بالإسلام، والذي انتشر في نفوس الامة و هو اليأس والقنوط من الدين و أهدافه، بعد ما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لمثل هذا القتل، و ما تعرّض له أهله من التشريد والسبي، في بلاد المسلمين .
فهذا الوزير عبيدالله بن سليمان كان يرى: أن قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه، و عدل ينتظرونه (14) .
هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام .
وأما بالنسبة إلى الإمامة، و إلى أهل البيت، و إلى الإمام عليه السلام، فقد تفرّق الناس عنهم، و أعرضوا، بحيث عبّر الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك بالارتداد .
قال عليه السلام: ارتدّ الناس بعد قتل الحسين عليه السلام إلاّ ...(15) .
وكان منشأ اليأس والردّة: أنهم وجدوا الاَمال قد تبدّدت بقتل القائد، وسبي أهله، و ظهور ضعف الحقّ وقلة أنصاره، هذا من جهة .
و من جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة، فكيف يمكن التصدي لها، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّياً إلى الاتهام والمحاسبة، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه السلام .
لكن الإمام زين العابدين عليه السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد، و قلبه إلى عنصر مطلوب، و مفيد لنفسه، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه .
حتّى أصبح، بما ذكرنا من التصرفات، في نظر رجال الحكم (خيراً لا شرّ فيه) .
و بذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام عليه السلام، لا على نفسه و أهل بيته من الإبادة الشاملة، فقط، بل تمكّن من استعادة قواه، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس، لكونه مواطناً صالحاً لا يُخاف من الاتصال به والارتباط به . لانه أصبح (عليّ الخير )(16) .
و طبيعي أن يعود الناس، و تعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام في ذيل كلامه السابق: (...ثم إن الناس لحقوا وكثروا )(17) .
إن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه السلام وتشتت قواهم، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه السلام بعد رجوعه الى المدينة، وكان عليه لأنه الإمام، وقائد المسيرة أن يخطط لاستجماع القوى، وتكميل الإعداد من جديد، و هذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي و عقيدي و إحيأ الأمل في القلوب، وبثّ العزم في النفوس .
وقد تمكّن الإمام السجاد عليه السلام بعمله الهادى الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة، و على هذا الإعداد، والتمهيد، بكل قوة، و بحكمة و بسلامة وجدّ .
وكما قد يكون تأسيس بنأ جديد، أسهل وأمتن من ترميم بنأ متهرّى، فكذلك، إن بنأ فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة، والجادّة في الالتفاف حولها، والعزم على إحيائها، هو أسهل، و أوفر جهداً من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها، و تصوّروا إخفاق تجربتها، و هم يُشاهدون إبادة كبار حامليها، و ضعف أنصارها، واستيلا المعارضين عليها، فحرّفوا معالمها، و شوّهوا سمعتها، و زيّفوا أهدافها .
فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض، ويحاولون الانسحاب والارتداد، والوقوف على الحواشي، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة.
فقد مُنِيَ المسلمون بإخفاق و يأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية، و مخلّصة من العبودية والفساد، و ذلك لمّا رأوا الأمويين أعدأ هذا الدين قديماً، و مناوئيه حديثاً قد استولوا على الخلافة، و بدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأنصار القدمأ له، و يعيثون فساداً في أرض الإسلام بالقتل والفجور، وكل منكر، حرّمه الإسلام .
و إذا كان صاحب الحقّ، منحصراً في الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام، الذي قام النصّ على إمامته، و هو وارث العترة، وزعيم أهل البيت في عصره، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية، ليجمع القوى، ويلملم الكوادر المتفرّقة، و يعيد الأمل إلى النفوس اليائسة، والرجأ إلى العيون الخائبة، والحياة إلى القلوب الميّتة .
إلى جانب مقاومته للأعدأ، و تفنيد مزاعمهم واتّهاماتهم، والكشف عن مؤامراتهم و دسائسهم، و تبديد خططهم و أحابيلهم .
إنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة، التي أقرّ بها لهم جميع الاُمّة هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، ليرسَخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام
والإمام عليه السلام قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف و مآثر علمية و عملية، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة .
وهم آباؤه الطاهرون .
وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه، كما في الحديث عن عبدالله بن محمّد بن عليّ، عن أبيه . قال: سمعتُ عليّ بن الحسين يقول:
كنّا نُعلَم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه كما نعلّم السورةَ من القرآن(18) .
فتلقّن الإمام السجَاد عليه السلام أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله و من أجل الإسلام، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة .
و بعد أن رأى باُمّ عينيه في كربلاء بطولات أبيه الإمام الحسين عليه السلام وجهاد أصحابه الأوفيأ، في سبيل إعلا كلمة الله، لم يكن ليرفع اليدَ عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية .
ولقد بدأ الإمامُ السجّاد عليه السلام في الفصول التالية، من جهاده و جهوده، لتحقيق هذه الأهداف السامية .
و حاولنا نحن بقدر و سعنا، لجمع ما انتشر من أنبأ ذلك الجهاد، و تلك الجهود، في المجالات العملية والعلمية، بعون الله و توفيقه .
_______________________________
(1) كذا في بعض نسخ المصدر، ويظهر من هذه الرواية أن أباه كان شاعراً وقد ترحّم عليه الإمام عليه السلام، وفي أصحابه: حذيم بن شريك الأسدي، وجاء في نسخ اُخرى :بشير بن حذلم .
(2) أيام العرب في الإسلام (ص 420) وانظر تاريخ الطبري (4 :368) ولاحظ طبقات ابن سعد (5: 47
(3) الاحتجاج للطبرسي (7 -298) .
(4) مروج الذهب (3: 78) .
(5) شرح نهج البلاغة (104 :4) .
(6) علّق سماحة السيد بدرالدين الحوثي دام علاه هنا: (ولعلّ ما صدر من الامام النفس الزكية كان اضطرارياً، لانّ قيامه أيضاً كان اضطرارياً) تمت .
(7) كشف الغمة للاربلي (2: 7) و انظر ربيع الأبرار للزمخشري (1: 427) .
(8) أيام العرب في الإسلام (ص 424) هامش (1) .
(9) هو المتسمّي باسم (مسلم) معدود من الصحابة، و هذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين، سُمّي لعنه الله بمجرم ومسرف، لما كان من إجرامه بأهل المدينة و إسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد لعنهما الله وقد انفضّ فيها ألف عذراء وقد سمّى المدينة (نتنة) خلافاً لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي سماها طيّبة، مروج الذهب (3: 78) دلائل البيهقي (6: 475) .
(10) الإرشاد للمفيد (ص 292) .
(11) أنساب الأشراف (4: 323) وانظر الأخبار الطوال للدينوري (ص 266) .
(12) الإرشاد للمفيد (ص 260) .
(13) مروج الذهب (3: 8) .
(14) نقله الثعالبي في آخر كتاب (ثمار القلوب) بواسطة: علي جلال في (الحسين) (2: 195) .
(15) اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) (ص 123) رقم (194) .
(16) شرح نهج البلاغة، لابن ابيالحديد (15: 273) .
(17) اختيار معرفة الرجال (الكشي) (ص 123) رقم (194) .
(18) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي (2 288) رقم (1649) .

لسيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ

 


source : www.sibtayn.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ميثم التمار
مناظرات الامام الرضا عليه السلام
كيفيّة‌ نزول‌ التوراة‌ علی النبيّ موسى‌، و ...
الموالي و مشاركتهم في ثورة المختار
خطبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) الأولى يوم ...
التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الاسلام
حركة الاسماعيلية في ايران خلال القرن الخامس .
نظرية عدالة الصحابة (7)
الحصار في شِعْب أبي طالب ( عليه السلام )
الحكومة البويهية والتشيع .

 
user comment