اما بالنسبة للفكر الديني فالامر فيه اوضح، اذ ان الاجماع على حتمية ظهور المصلح العالمي مقترن بـالايـمـان بـأن ظـهوره يأتي بعد غيبة طويلة، وهذا امر واضح من خلال مراجعة عقائدهم بهذا الـخـصـوص، فـقد آمن اليهود بعودة عزير او منحاس بن العازر بن هارون، وآمن النصارى بغيبة الـمـسـيح عليه السلام وعودته، وينتظر مسيحيو الاحباش عودة ملكهم تيودور كمهدي في آخر الزمان، وكذلك الهنود آمنوا بعودة فيشنوا, والمجوس بحياة اوشيدر, وينتظر البوذيون عودة بوذا, ومنهم من ينتظر عودة ابراهيم الخليل عليه السلام,وغير ذلك.(16) اذن، فـقـضـيـة الغيبة قبل ظهور المصلح العالمي ليست مستغربة لدى الاديان السماوية، ولا يمكن لـمـنـصف ان يقول بأن كلها قائمة على الخرافات والاساطير, فالخرافات والاساطير لا يمكن ان توجد فكرة متأصلة بين جميع الاديان، دون ان ينكر اي من علمائها اصل هذه الفكرة، فلم ينكر احد مـنـهـم اصل فكرة الغيبة، وان انكر صحة مصداق الغائب المنتظر في غير الدين الذي عشقه وآمن بالمصداق الذي ارتضاه. اذن، انتشار اصل هذه الفكرة في جميع الاديان السماوية كاشف عن ارضية اعتقادية مشتركة رسخها الـوحـي الالـهـي فـيها جميعا, ودعمتها تجارب الأنبياء عليهم السلام التي شهدت غيبات متعددة، مثل غيبة ابـراهـيم الخليل عليه السلام وعودته، وغيبة موسى عليه السلام عن بني اسرائيل وعودته اليهم بعد السنين التي قضاها في مدين، وغيبة عيسى عليه السلام وعودته في آخر الزمان التي اقرتها الايات الكريمة، وما اتفق عليه المسلمون من الاحاديث النبوية الشريفة، وغيبة نبي اللّه الياس عليه السلام التي قال بها اهل السنة كما صـرح بـذلك مفتي الحرمين الكنجي الشافعي، في الباب الخامس والعشرين من كتابه البيان في اخبار صاحب الزمان،وصرح كذلك بايمان اهل السنة بغيبة الخضر عليه السلام وهي مستمرة إلى ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في آخر الزمان، حيث يكون وزيره. بـل ان انـتشار فكرة غيبة المصلح العالمي في الاديان السابقة قد تكون مؤشرا على وجود نصوص سـماوية صريحة بذلك، كما سنلاحظ في نموذج النبوءة الواردة في سفر الرؤيا من الكتاب المقدس والتي طبقها الباحث السني سعيد ايوب على المهدي الامامي. امـا الاخـتـلاف فـي تشخيص هوية المصلح الغائب فهو ناشئ من الخلط بين النصوص المخبرة عن غيبات بعض الأنبياء عليهم السلام وبين المتحدثة عن غيبة المصلح العالمي بدوافع عدة سنشير اليها لاحقا. الاختلاف في تشخيص هوية المنقذ العالمي: نـتـيـجـة لـما مضى فان الاجماع قائم في الاديان السماوية على حتمية اليوم الموعود, وكما يقول العلامة المتتبع آية اللّه السيد شهاب الدين المرعشي النجفي في مقدمة الجزء الثالث عشر من احقاق الـحـق: ولـيـعـلم ان الامم والمذاهب والاديان اتفقت كلمتهم ـ الا من شذوندر ـ على مجيء مصلح سـمـاوي الهي ملكوتي، لاصلاح ما فسد من العالم، وازاحة ما يرى من الظلم والفساد فيه، وانارة ما غشيه من الظلم. غاية الامر, انه اختلفت كلمتهم بين من يراه عزيرا, وبين من يراه مسيحا, ومن يراه خليلا, ومن يراه ـ من المسلمين ـ من نسل مولانا الامام ابي محمد الحسن السبط, ومن يراه من نسل مولانا الامام ابي عبد اللّه الحسين السبط الشهيد. واذا اخـتـلـفـت الاديان، بل الفرق والمذاهب المتشعبة عنها في تحديد هوية المصلح العالمي، رغم اتفاقهم على حتمية ظهوره، وعلى غيبته قبل عودته الظاهرة، فما هو سر هذا الاختلاف؟ اسباب الاختلاف في هوية المنقذ المنتظر: ان مـا نـعتقده هو ان سبب هذا الاختلاف يرجع إلى تفسير النصوص والبشارات السماوية وتأويلها, اسـتـنـادا إلى عـوامـل خارجة عنها, وليس إلى تصريحات او اشارات في النصوص نفسها, وإلى الـتـأثـر العاطفي برموز معروفة لاتباع كل دين او فرقة، وتطبيق النصوص عليها ولو بالتأويل، بمعنى ان تحديد هوية المصلح الموعود لا ينطلق من النصوص والبشارات ذاتها, بل ينطلق من انتخاب شـخـصـيـة مـن الـخـارج، ومحاولة تطبيق النصوص عليها. يضاف إلى ذلك عوامل اخرى سياسية ومصلحية كثيرة، لسنا هنا بصدد الحديث عنها, ومعظمها واضح معروف فيما يرتبط بالاديان السابقة، وفـيـما يرتبط بالفرق الاسلامية، ومحورها العام هو: ان الاقرار بما تحدده النصوص والبشارات السماوية والنبوية نفسها ينسف قناعات لدى تلك الاديان، وهذه الفرق يسلبها مبرر بقائها الاستقلالي، ومسوغ اصرارها على عقائدها السالفة. اما بالنسبة للعامل الاول فنقول: ان النصوص والبشارات السماوية واحاديث الأنبياء واوصيائهم عليهم السلام بـشـأن الـمـصلح العالمي، تتحدث عن قضية ذات طابع غيبي، وعن شخصية مستقبلية، وعن دور تـأريـخـي كبير يحقق اعظم انجاز للبشرية على مدى تأريخها,ويحقق في اليوم الموعود اسمى طموحاتها, والانسان بطبعه ميال لتجسيد القضايا الغيبية في مصاديق ملموسة يحس بها, هذا من جهة ومن جهة اخرى فكل قوم يتعصبون لشريعتهم ورموزهم وما ينتمون اليه، ويميلون ان يكون صاحب هذا الدور التأريخي منهم. لذا كان من الطبيعي ان يقع الاختلاف في تحديد هوية المصلح العالمي، لان من الطبيعي ان يسعى اتباع كـل ديـن إلى اختيار مصداق للشخصية الغيبية المستقبلية، التي تتحدث عنها النصوص والبشارات الـثـابتة في مراجعهم المعتبرة والمعتمدة عندهم، ممن يعرفون ويحبون من زعمائهم، يدفعهم لذلك الـتعصب الشعوري او اللا شعروي لشريعتهم ورموزها, والرغبة الطبيعية العارمة في ان يكون لهم افتخار تحقق ذاك الدور التأريخي على يد شخصية تنتمي اليهم او ينتمون اليها. الخلط بين البشارات وتأويلها: من هنا اخذت كل طائفة تسعى لتطبيق الصفات التي تذكرها تلك النصوص والبشارات المروية لدى كل منها على الشخصية المحبوبة لديها, او اقرب رموزها إلى الصفات المذكورة، فاذا وجدت بعض تـلـك الـصـفـات صـريحة في عدم انطباقه على الشخصية التي اختارتها, عمدت إلى معالجة الامر بـالـتـأويـل والتلفيق. او بتغييبها او تحريفها, لتنطبق على من انتخبته مسبقا, اوالخلط بين النصوص والـبـشـارات الـسـماوية الواردة بشأن النبي اللاحق او المنقذ للعالم في برهة معينة، او المصحح لانـحـراف امـة معينة، وبين النصوص والبشارات الخاصة بالحديث عن المصلح العالمي الذي يقيم الدولة العادلة على كل الارض في آخر الزمان، ويحقق اهداف الأنبياء والأوصياء عليهم السلام جميعا. منهج لحل الاختلاف: وحيث اتضح سبب الاختلاف في تحديد هوية المصلح، امكن معرفة سبيل حله والتوصل الاستدلالي لمصداقه الحقيقي بصورة علمية سليمة ومقنعة، ويمكن تلخيص مراحله على النحو التالي: 1 ـ تـمييز البشارات والنصوص الخاصة بالمصلح العالمي الموعود في آخر الزمان، عن غيرها من الـواردة بـشـأن نـبـي او وصي معين، استنادا إلى دلالات نصوص البشارات نفسها ومن مصادرها الاصـلـيـة، وكذلك استنادا إلى ما تقتضيه المبادىء الاولية المرتبطة بمهام الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وسـيـرهـم والـواقـع التأريخي الثابت، وكذلك ما تقتضيه معرفة الثابت من دوره ومهمته الكبرى كمصلح عالمي. 2 ـ تحديد الصفات والخصائص التي تحددها النصوص والبشارات نفسها للمصلح الموعود وبصورة مـجـتـمعة، وتوضيح الصورة التي ترسمها له قبل افتراض مسبق لمصداق لها, لكي لا تكون الصورة المرسومة له متأثرة بالمصداق المفترض سلفا. 3 ـ وبـعـد اكـتـمـال الـصورة التجريدية المستفادة، تبدا عملية تعرف على الصفات والخصائص والـحقائق التأريخية المذكورة، كمصاديق للمصلح العالمي الموعود, ثم عرضها على الصورة التي تـرسـمـهـا له نصوص البشارات نفسها, والمتحصلة من المرحلتين السابقتين، ليتم بذلك تبيان عدم انسجام صفات المصاديق غير الحقيقية مع تلك الصورة،ومن ثم معرفة المصداق الحقيقي من بينها. التعريف بالمهدي الامامي لحل الاختلاف: نـعـتـقد ان البشارات السماوية الواردة في الكتب المقدسة تهدي إلى المهدي المنتظر الذي يقول به مـذهـب اهـل الـبـيـت عليهم السلام, كـمـا سـنشير لذلك لاحقا, واثبتته دراسات متعددة في نصوص هذه الـبشارات،(17) لذلك فان جهلهم به هو احد الاسباب المهمة لاختلاف علماء الاديان السابقة في تـشـخـيـص هـويـة المصلح العالمي، الذي بشرت به نصوص كتبهم المقدسة، اذ لم يجدوا بين من يـعـرفون من تنطبق عليه الصفات التي حددتها له النصوص التي بين ايديهم، فعمدوا إلى تأويل هذه الصفات ليطبقوها على من يحبون، تأثرا بالعوامل الاخرى التي ذكرناها فيما سبق. من هنا فان مما يساعد على رفع هذا الاختلاف هو تعريف علماء واتباع تلك الديانات بعقيدة اهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف, فاذا تعرفوه انفتحت امامهم آفاق اوسع للاهتداء للمصداق الحقيقي للمصلح العالمي الذي بشرت به اديانهم، وعرفوه وآمنوا به طبقا لدلالات نصوص البشارات الواردة في كتبهم المقدسة، حتى لو كان ايمانهم الجديد خلاف قناعاتهم السابقة. وكـنـمـوذج على تأثير هذا التعريف نشير ـ مثلا ـ إلى نتيجة تحقيق القاضي جواد الساباطي،من اعـلام القرن الثاني عشر الهجري، اذ كان في بداية امره عالما نصرانيا ثم تعرف الاسلام واعتنقه، عـلـى الـمذهب السني الذي كان اول ما عرف من الفرق الاسلامية، والف كتابه المعروف البراهين الـسـابـاطـيـة فـي رد الـنـصارى، واثبات نسخ شرائعهم استنادا إلى ما وردفي نصوص كتبهم المقدسة.(18) راي القاضي الساباطي كنموذج ففي معرض تناوله لهذه النصوص، تناول القاضي الساباطي احدى البشارات الواردة في كتاب اشعيا, مـن الـعـهـد القديم من الكتاب المقدس بشأن المصلح العالمي، ثم ناقش تفسير اليهود والنصارى لها, ودحـض تأويلات اليهود والنصارى لها ليخلص إلى القول: .. وهذا نص صريح فى المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف, حيث اجمع المسلمون انه ـ رضي اللّه عنه ـ لا يحكم بمجرد السمع والظاهر, ومجرد البينة، بل لا يلاحظ الا الباطن، ولم يتفق ذلك لاحد من الأنبياء والالياء, ثم يقول بعد تحليل النص: . .. وقد اختلف المسلمون في المهدي، فأما اصحابنا من اهل السنة، وجماعة قالوا: انه رجل من اولاد فاطمة سلام الله عليها, اسمه محمد واسم ابيه عبد اللّه، واسم امه آمنة. وقـال الامـامـيـون: بل هو محمد بن الحسن العسكري، الذي ولد سنة خمس وخمسين ومئتين، من جـاريـة لـلـحـسن العسكري اسمها نرجس في سر من راى في عصر المعتمد (العباسي), ثم غاب سنة،(19) ثم ظهر, ثم غاب، وهي الغيبة الكبرى، ولا يرجع بعدها الا حين يريد اللّه تعالى. ولـما كان قولهم اقرب لما يتناوله هذا النص، وان هدفي الدفاع عن امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قطع النظر عن التعصب لمذهب، لذلك ذكرت لك ان ما يدعيه الامامية يتطابق مع هذا النص.(20)