وعندما اُدخل الأسرى على يزيد لعنه الله، قال لعلي بن الحسين (عليه السلام): يابن حسين أبوك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال علي بن الحسين (عليه السلام): ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أنْفُسِكُم إِلاَّ فِي كِتابٍ مِن قَبْلِ أَنْ نَبْرَأهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ [1].
فقال يزيد لابنه خالد: اردُدْ عليه. فلم يدرِ خالد ما يردُّ عليه، فقاله له يزيد: قل ﴿مَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾[2] [3].
ثمّ أمر يزيد خطيبه في مسجد دمشق أن يوقع بعلي والحسين (عليهما السلام) عند اجتماع الناس، وصعد الخطيب المنبر واجتمع الناس بحضور يزيد وأعوانه، فأكثر الخطيب الوقيعة في علي والحسين (عليهما السلام) وأغلظ القول فيهما، فصاح به علي بن الحسين: ويلك أيّها الخطيب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار. ثمّ طلب من يزيد أن يصعد المنبر قائلاً: إئذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلّم بكلمات لله فيهنّ رضا ولهؤلاء الجلساء فيهنّ أجر وثواب.
فأبى يزيد عليه ذلك، فقال له الناس: يا أمير المؤمنين إئذن له فليصعد المنبر فلعلّنا نسمع منه شيئاً. فقال: إنّه إن صعد لم ينزل إلاّ بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له: يا أمير المؤمنين وما قدر أن يُحسن هذا؟ فقال: إنّه من أهل بيتٍ زُقّوا العلم زقّاً. فلم يزالوا به حتى أذِن له فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
أيّها الناس اُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع: اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفُضِّلنا بأنّ منّا النبيّ المختار محمّداً، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد رسوله، ومنّا سبطا هذه الاُمّة، ومنّا المهديّ. مَن عرفني فقد عرفني ومَن لم يعرفني أنبأتُه بحسبي ونسبي.
أيّها الناس أنا ابن مكّة ومِنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن مَن حمل الركن بأطراف الرداء، أنا ابن خير مَن ائتزر وارتدى، أنا ابن خير مَن انتعل واحتفى، أنا ابن خير مَن طاف وسعى، أنا ابن خير مَن حجّ ولبّى، أنا ابن مَن حُمل على البُراق في الهواء، أنا ابن مَن اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا ابن مَن بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن مَن دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن مَن صلّى بملائكة السماء، أنا ابن مَن أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن مَن ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا إله إلا الله.
أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين رسول ربّ العالمين، أنا ابن المؤيَّد بجبرئيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل المارقين والناكثين والقاسطين، والمجاهد أعداءه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأوّل مَن أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين، وأوّل السابقين، وقاصم المعتدين، ومبيد المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، ووليّ أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علمه.
سمحٌ، سخيٌّ، بهيٌّ، بُهلولٌ، زكيٌّ، أبطحيٌّ، رضيٌّ، مقدامٌ، همامٌ، صابر، صوّام، مهذّب، قوّام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم عناناً، وأثبتهم جناناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدّهم شكيمة، أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة طحن الرحا، ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم. ليث الحجاز، وكبش العراق، مكّيٌّ، مدنيٌّ، خَيفيٌّ، عقَبيٌّ، بدريٌّ، أُحديٌّ، شجريٌّ، مهاجريٌّ، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرَين، وأبو السبطين الحسن والحسين، ذاك جدّي علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء[4]. أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلماً، أنا ابن المجزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلاء، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن مَن بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن مَن ناحت عليه الجنُّ في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن مَن رأسُهُ على السنان يُهدى، أنا ابن مَن حرمه من العراق إلى الشام تُسبى.
أيّها الناس إنّ الله تعالى وله الحمد ابتلانا أهل البيت ببلاءٍ حسن، حيث جعل راية الهدى والعدل والتُّقى فينا، وجعل راية الضلالة والردى في غيرنا [5].
فضجّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد لعنه الله أن تكون فتنة، فأمر المؤذّن فقطع عليه الكلام. فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر، قال علي: لا شيء أكبر من الله، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبَشَري ولحمي ودمي. فلمّا قال المؤذّن: أشهد أنّ محمّداً رسول الله، التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمّد هذا جدّي أم جدّك يا يزيد؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنّه جدّي فلِِمَ قتلت عترته [6] ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحديد: 22.
[2] الشورى: 30.
[3] الإرشاد 2: 121.
[4] بحار الأنوار 45: 138-139.
[5] بحار الأنوار 45: 174.
[6] بحار الأنوار 45: 138-139.
source : www.abna.ir