الغلو لغة : الإرتفاع ومجاوزة القدر فی کل شیء ، وغلا فلان فی الدین والأمر یغلو غلواً : جاوز حده .
فی التهذیب : وقال بعضهم فلوت فی الأمر غُلُوَّاً وغلانیة وغلانیاً إذا جاوزت فیه الحد وأفطرت فیه .
وبهذا المعنى ورد النهى فی القرآن الکریم ، قوله تعالى : ( لا تغلو فی دینکم ) (1)أی لا تجاوزوا الحد .
وفی الحدیث : ( لا تغلوا فی صداق النساء ) .
وفی الحدیث أیضاً : ( کونوا النمرقة الوسطى یرجع إلیکم الغالی ویلحق بکم التالی ) (2) .
وفی الحدیث أیضاً : ( حامل القرآن غیر الغالی فیه ولا الجافی عنه ) .
اصطلاحاً : هو مجاوزة الحد المعقول والمفروض ، فی العقائد الدینیة والواجبات الشرعیة ، والغالی ـ عند الشیعة الإمامیة ـ من یقول فی أهل البیت علیهم السلام ما لا یقولون فی أنفسهم کما یدعون فیهم النبوة والألوهیة .
وفی الخبر : ( أن فینا أهل البیت فی کل خلف عدولاً ینفون عنا تحریف الغالین ) أی الذین لهم غلو فی الدین ، کالنصیریة والمبتدعة ونحوهم .
والغلاة هم الذین یغالون فی علی ویجعلونه رباً ، والتخمیس عندهم ـ لعنهم الله ـ وهو أن سلمان الفارسی ، والمقداد وأبا ذر وعمار وعمر بن أمیة الضمری ، هم الموکلون بمصالح العالم عن علی علیه السلام وهو رب (3) . . قاتلهم الله .
الغلو ظاهرة غیر طبیعیة ناتجة من الفساد فی العقیدة ، ومرد هذا الفساد إلى عدم فهم الدین والابتعاد عن حقیقة العبودیة لله والإنبهار بکرامات المخلوق دون معجزات الخالق . . وهذه الظاهرة کانت فی الأمم السابقة والقرآن الکریم یدلل على ذلک ـ مثلاً ـ فی أمة عیسى علیه السلام عندما ألهوا نبیهم ، قال تعالى : ( یا أهل الکتاب لا تغلوا فی دینکم ولا تقولوا على الله إلا الحق ) (4) .
وقوله تعالى : ( لقد کفر الذین قالوا إن الله هو المسیح ابن مریم ) (5) . وقوله تعالى : ( لقد کفر الذین قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) (6) . وقوله تعالى : ( ما المسیح ابن مریم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) (7) .
وقوله تعالى : ( قل یا أهل الکتاب لا تغلوا فی دینکم غیر الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا کثیراً وضلوا عن سواء السبیل ) (8) .
وقال تعالى : ( ما کان البشر أن یؤتیه الله الکتاب والحکم والنبوة ثم یقول للناس کانوا عباداً لی من دون الله ولکن کونوا ربانیین بما کنتم تعلمون الکتاب وبما کنتم تدرسون ولا یأمرکم أن تتخذوا الملائکة والنبیین أرباباً أیأمرکم بالکفر بعد إذ أنتم مسلمون ) (9) .
وآیات أخرى حذرت الناس من أن یتخذوا أنبیائهم أرباباً من دون الله سبحانه . ومع کل ذلک فما حدث فی الأمم السالفة قد حدث مثله فی الأمة الإسلامیة .
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم فقال : یا رسول الله نسلم علیک کما یسلم بعضنا على بعض ؟ أفلا نسجد لک .
قال : لا ینبغی أن یسجد لأحد من دون الله ، ولکن اکرموا نبیکم واعرفوا الحق لأهله (10) .
قیل إن الذی سأله أبو رافع القرظی والسید النجرانی قالا : یا محمد أترید أن تعبدک ونتخذک رباً ، فقال صلى الله علیه وآله وسلم : معاذ الله أن نعبد غیر الله وأن نأمر بغیر عبادة الله فما بذلک بعثنی ولا بذلک أمرنی .
بعدما عرفنا تعریف الغلو لغة ، واصطلاحاً ، وأنه صدر من أناس ـ فی الأمم السابقة ـ فتجاوزوا فیه الحد المعقول فی أنبیائهم ، کالذی حدث بین الیهود لمّا ادّعوا ( عزیر ابن الله ) ، وفی الخبر أن عزیراً جال فی صدره ذاک المعنى الذی قالوا فیه ، فمحا الله اسمه من قائمة النبوة عن محمد بن مسعود ، قال : حدثنی عبد الله بن محمد بن خالد ، عن علی ابن علی ابن حسان عن بعض أصحابنا رفه إلى أبی عبد الله علیه السلام قال : ذکر عنده جعفر ابن واقد ونفر من أصحاب أبی الخطاب ، فقیل : أنه صار إلى نمرود ، وقال فیهم : وهو الذی فی السماء إله وفی الأرض إله ، قال هو الإمام ، فقال أبو عبد الله علیه السلام لا والله لا یبنی أباه سقف بیت أبداً ، هم شر من الیهود والنصارى والمجوس والذین أشرکوا ، والله ما صغر عظمة الله تصغیرهم شیءً قط ، أن عزیراً حال فی صدره ما قالت فیه الیهود ، فمحى الله اسمه من النبوة (11) .
وأما النصارى ، فقد عرفت من الآیات المتقدمة ، أنهم أشرکوا بإدعائهم المسیح ابن مریم ابن الله ، تعالى الله عما یصفون ، وقد تبرأ عیسى علیه السلام ممن قال فیه بالربوبیة فما هو إلا عبد مخلوق ورسول قد خلت من قبله الرسل .
وأما المسلمون فإنما یصدق الغلو على من یقول فی النبی والأئمة بألوهیتهم أو بکونهم شرکاء لله سبحانه فی المعبودیة أو کونهم یرزقون ویخلقون ، أو أن الله تعالى حل فیهم أو اتحد بهم ، أو أنهم یعلمون الغیب من غیر وحی أو إلهام ، أو الاعتقاد بکونهم من القدم مع نفی الحدوث عنهم ، أو القول فی الأئمة علیهم السلام أنهم کانوا أنبیاء ، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض ، أو القول بأن معرفتهم تغنی عن جمیع الطاعات والعبادات ولا تکلیف مع تلک المعرفة أو القول بأن الله فوض إلیهم أمر العباد بالتفویض المطلق وغیر ذلک من العقائد التی تنقص من عظمة الخالق وقدرته وشأنه وإنزال المخلوق بمنزلته . . تعالى علواً کبیراً ، ثم القول بکل واحد من هذه خروج عن الدین وصاحبها کافر بإجماع الطائفة المحقة الاثنا عشریة کما أن الأدلة العقلیة هی الأخرى تکفر أهل تلک المقالات والنحل . وإلى جانب هذا الغلو فی النبی والأئمة علیهم السلام فإن هناک قصوراً عند بعض علماء الشیعة لما نسبوا الغلوا إلى القائلین بنفی السهو والنسیان عن النبی والأئمة فهذا تفریط فی حق المعصومین علیهم السلام وانتقاص من قدرهم وحطاً من مکانتهم بل إن أوائل العلماء کالشیخ الصدوق وشیخه ابن الولید ( قدس سرهم ) لم یقفوا على أحوال النبی أو الأئمة علیهم السلام ولم یعرفوا مکانتهم الحقة عند الله تعالى منزلتهم وشأنهم ودورهم فی إبلاف الرسالة والحفاظ علیها وتنفیذ أحکامها ، بل جعلوهم کسائر الناس ، وهذا أمر غریب بل وفی غایة العجب والغرابة . . .
بل واقتضى أثر القدامى بعض المعاصرین فأنکر ما لهم علیهم السلام من معاجز وکرامات ومناقب بحیث دهب به الرکبان وقد شهد لها الموآلف والمخالف ، فهدا ابن بطوطة یشهد فی رحلته ـ قبل ستمائة عام ـ ما للإمام تشملهم ، لذا قد شدوا لها الرحال من أقاصی بلاد الأعاجم وفیرها فقال : ( وأهل هذه المدینة کلهم رافضیة وهذه الروضة ظهرت لها کرمات منها أن فی لیلة السابع والعشرین من رجب تسمى عندهم لیلة المحیى یؤتى إلى تلک الروضة بکل مقعد من العراقین وخراسان وبلاد فارس والروم فیجتمع منهم الثلاثون والأربعون ونحو ذلک فإذا کان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضریح المقدس والناس ینتظرون قیامهم وهم ما بین مصل وذاکر وتال ومشاهد الروضة فإذا مضى من اللیل نصفه أو ثلثاه أو نحو ذلک قام الجمیع أصحاء من غیر سوء وهم یقولون : لا إله إلا الله محمد رسول الله علی ولی الله . وهذا أمر مستفیض عندهم سمعته من الثقات ولم أحضر تلک اللیلة لکنی رأیت بمدرسة الضیاف ثلاثة من الرجال أحدهم من أرض الروم والثانی من أصبهان والثالث من خراسان وهم مقعدون فاستخبرتهم عن شأنهم فأخبرونی أنهم لم یدرکوا لیلة المحیى وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر . . )
أضف إلى ذلک الأخبار المستفیضة والمتواترة عنهم علیهم السلام فی علو منزلتهم عند الله تعالى وکراماتهم ، منها قول الرسول صلى الله علیه وآله لعلی علیه السلام : لولا أنی أخاف أن یقال فیک ما قالت النصارى فی المسیح لقلت الیوم فیک مقالة لا تمر بملأ من المسلمین إلا أخذوا تراب نعلیک وفضل وضوئک یستشفون به ، ولکم حسبک أن تکون منی وأنا منک ترثنی وأرثک (12) .
وفی الخرائج بإسناده عن ابن أبی عمیر عن علی بن الحکم عن عبد الرحمن بن کثیر عن أبی عبد الله علیه السلام قال : أتى الحسین علیه السلام أناس فقالوا له : یا أبا عبد الله حدثنا بفضلکم الذی جعل الله لکم فقال : إنکم لا تحتملون ولا تطیقون ، فقالوا بلى نحتمل ، قال : إن کنتم صادقین فلیتنجّ اثنان وأحدّت واحداً فإن احتمله حدثکم فتنحی اثنان وأحدث واحداً فإن احتمله حدّثکم فتنحى اثنان وحدّت واحداً فقام طائر العقل ومرّ على وجهه وکلمه صاحباه فلم یرد عیلهما شیئاً وانصرفوا (13) .
وبنفس الإسناد قال : أتى رجل الحسین بن علی علیه السلام فقال : حدثنی بفضلکم الذی جعل الله لکم ، فقال : إنک لن تطیق حمله ، قال بلى حدثنی یا ابن رسول الله إنی أحتمل ، فحدثه بحدیث فما فرغ الحسین علیه السلام من حدیثه حتى ابیض رأس الرجل ولحیته وأنسى الحدیث فقال الحسین علیه السلام : أدرکته رحمة الله حیث أنسى الحدیث (14) .
وفی الکافی بإسناده عن جابر قال : قال أبو جعفر علیه السلام قال رسول الله صلى الله علیه وآله : إن حدیث آل محمد صعب مستصعب لا یؤمن إلا ملک مقرب أو نبی مرسل أو عبد امتحن قلبه للإیمان ، فما ورد علیکم من حدیث آل محمد صلى الله علیه وآله وسلم فلانت له قلوبکم وعرفتموه فاقبلوه وما اشمأزت منه قلوبکم وأنکرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمد وإنما الهلاک أن یحدث أحدکم بشیء منه لا یحتمله فیقول : والله ما کان هذا والله ما کان هذا ، والإنکار هو الکفر (15) .
محمد بن یعقوب بإسناده عن مسعدة بن صدقة ، عن أبی عبد الله علیه السلام قال : ذکرت التقیة یوماً عند علی بن الحسین علیه السلام فقال : والله لو علم أبو ذر ما فی قلب سلمان لقتله ولقد آخا رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم بینهما ، فما ظنّک بسائر الخلق ، إن علم العلماء صعب مستصعب ، لا یحتمله إلا نبی مرسل أو ملک مقرب أو عبد مؤمن امتحن قلبه للإیمان ، فقال : وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرء منا أهل البیت ، فلذلک نسبته إلى العلماء (16) .
وقد ورد عنهم علیه السلام لا تقولوا فینا رباً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا . إلى غیر ذلک من الأخبار والأحادیث المستفیضة المتواترة التی دلت على عظمة منزلتهم عند خالقهم فکیف سمحت لأولئک عقولهم أن یذکروا مقامهم العلی ونور فضلهم الجالی . . ؟ !
المصادر :
1- النساء آیة 171
2- خطط الشام 5 / 251 وما بعدها .
3- مشکاة الأنوار 57 .
4- مجمع البحرین 1 / 318 . . مادة غلا ولسان العرب 15 / 131 مادة غلا . النساء / 171 .
5- سورة المائدة ، الآیة : 17 .
6- سورة المائدة ، الآیة 73 .
7- سورة المائدة ، الآیة : 75 .
8- سورة آل عمران ، الأیتان 79 ـ 80 .
9- آل عمران ، الایة 79
10- البحار 25 / 262 .
11- الکشی. 2 / 590 .
12- شرف النبی صلى الله علیه وآله ، بحار 25 / 283 .
13- الخرائج والجرائح 247 ، بحار 25 / 379 .
14- الخرائج والجرائح 247 ، بحار 25 / 379 .
15- أصول الکافی 1 / 401 .
16- الکافی 1 / 401 .
source : .www.rasekhoon.net