هناک ثلاث طرق لمعرفة الله تعالى والمعرفة الإنسانیة عموماً :
1 ـ طریق الکشف الذاتی : فإن خاصة أولیاء الله تعالى یعرفونه به : ﴿ سَنُرِیهِمْ آیَاتِنَا فِی الْآفَاقِ وَفِی أَنفُسِهِمْ حَتَّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ یَکْفِ بِرَبِّکَ أَنَّهُ عَلَى کُلِّ شَیْءٍ شَهِیدٌ ﴾ (1).
وفی دعاء أمیر المؤمنین علیه السلام : (یامن دلَّ على ذاته بذاته) (2) . وفی دعاء الإمام الحسین علیه السلام : (متى غبتَ حتى تحتاج إلى دلیل یدل علیک ، ومتى بَعُدْتَ حتى تکون الآثار هی التی توصل إلیک ؟! عَمِیَتْ عینٌ لا تراک علیها رقیباً) (3).
وفی دعاء الإمام زین العابدین علیه السلام : (بک عرفتُک وأنت دللتنی علیک ودعوتنی الیک ، ولولا أنت لم أدر ما أنت ) (4) .
2 ـ دلیل العِلِّیَّة : فکل إنسان إذا نظر إلى نفسه وما حوله ، یدرک أن عدم وجود هذا الشئ أی شئ لیس محالاً ، بل وجوده وعدمه ممکن ، فذات الشئ لا تتضمن ضرورة وجوده أو ضرورة عدمه ، وهو یحتاج إلى سبب من یوجده ، وبما أن کل جزء من أجزاء العالم یحتاج إلى من یعطیه وجوده، فمن الذی أعطاه الوجود ؟!
إن قیل إنه خلق نفسه ، فیقال : إنه لا یتضمن وجود نفسه ، فکیف یمکن أن یکون سبباً وفاقد الشئ لا یعطیه . وإن قیل أعطاه الوجود موجودٌ آخر مثله، یقال : هذا الآخر المماثل عاجزٌ عن إعطاء الوجود لنفسه أیضاً فکیف یعطی الوجود لغیره ؟ ! وهذا الحکم یجری على کل جزء فی العالم ، فعندما نرى فضاء مضیئاً لا نور له من ذاته ، نحکم بوجود مصدر لهذا النور یکون نوره بذاته لا بغیره ، وإلا لکان أصلُ وجود فضاء منیر مستحیلاً ! لأن المظلم بنفسه محال أن یضئ نفسه ، فضلاً عن أن یضئ غیره !
من هنا کان نفس وجود هذه الموجودات دلیلاً على وجود مصدر لا یحتاج إلى غیره ، وهو الدلیل العلمی الذی قال عنه تعالى : ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَیْرِ شَیْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ (5).
وقد سأل رجل الإمام الرضا علیه السلام : ( یا ابن رسول الله ما الدلیل على حدوث العالم ؟ فقال : أنت لم تکن ثم کنت ، وقد علمت أنک لم تُکوِّنْ نفسک ولا کوَّنک من هو مثلک ) (6) .
3 ـ دلیل النظم الکونی : فکل ما فی الکون مخلوق على قواعد وأصول بعلم وحکمة ، من أصغر ذراته الى أکبر مجراته !
ونأخذ مثالاً من النبات : فلو وجدت ورقة ملقاة فی بریة ، مکتوباً علیها حروف الأبجدیة مرتبةً من الألف إلى الیاء ، فإن ضمیرک یشهد بأن کتابة هذه الحروف ناتجٌ عن فهم وإدراک . وإذا رأیت جملةً مؤلفةً من تلک الحروف والکلمات فستؤمن بعلم الکاتب ، وتستدل بنظم الکلمات ودقتها على علمه وحکمته .
فهل أن تکوین نبتة فی البریة من عناصرها الأولیة ، أقل من سطر فی کتاب ؟ ! فلماذا نستدل بالسطر على علم کاتبه ، ولا نستدل بالنبتة على خالقها عز وجل ؟ !
فأی علم وحکمة أعطى الماء والتراب سراً یبعث الحبة من یبسها وموتها نباتاً حیاً سویاً ؟ وأعطى لجذرها قدرة تشق بها الأرض وتحصل على قوتها وغذائها فی ظلمة التراب ، وهیأ فی مائدة التراب الغنیة أقوات النباتات والأشجار، کل یجد فیها غذاءه ؟ !
وأی قدرة وحکمة خلقت الجذور واعیةً لعملها، ضاربةً فی أعماق التربة . والجذوع والفروع باسقةً الى أعلى الفضاء ! یکافح کل منهما قانوناً یضاده ویمضی فی مساره،هذه فی الأعماق وهذه فی الآفاق ؟!
إن التأمل فی شجرة واحدة وأنظمتها ، من عروقها الى آلاف أوراقها، یبعث فی الإنسان الدهشة والذهول أمام علم الخالق وقدرته اللامتناهیة : ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَکُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا کَانَ لَکُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ یَعْدِلُونَ ﴾ (7) .
من استدلالات أهل البیت الطاهرین علیهم السلام
1 ـ جاء رجل من الزنادقة الى الإمام الرضا علیه السلام فقال له : (رحمک الله أوجدنی کیف هو وأین هو ؟ فقال : ویلک إن الذی ذهبت إلیه غلط ، هو أیَّنَ الأیْنَ بلا أین ، وکیَّفَ الکیفَ بلا کیف ، فلا یُعرف بکیفوفیة ولا بأینونیة ، ولا یُدرک بحاسة ، ولا یُقاس بشئ ! فقال الرجل : فإذاً إنه لا شئ ، إذا لم یدرک بحاسة من الحواس !
فقال أبو الحسن علیه السلام : ویلک ! لما عجزت حواسک عن إدراکه أنکرت ربوبیته ؟ ! ونحن إذ عجزت حواسنا عن إدراکه أیقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشیاء ! قال الرجل : فأخبرنی متى کان ؟ قال أبو الحسن : أخبرنی متى لم یکن فأخبرک متى کان ! قال الرجل : فما الدلیل علیه ؟ فقال أبو الحسن : إنی لما نظرت إلى جسدی ولم یمکنی فیه زیادة ولا نقصان فی العرض والطول ، ودفع المکاره عنه وجر المنفعة إلیه ، علمت أن لهذا البنیان بانیاً فأقررت به . مع ما أرى من دوران الفلک بقدرته ، وإنشاء السحاب وتصریف الریاح ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغیر ذلک من الآیات العجیبات المبینات ، علمتُ أن لهذا مقدراً ومنشئاً) (8) .
2 ـ عن أحمد بن محسن المیثمی قال : کنت عند أبی منصور المتطبب فقال : أخبرنی رجل من أصحابی قال : کنت أنا وابن أبی العوجاء وعبد الله بن المقفع فی المسجد الحرام فقال ابن المقفع ، ترون هذا الخلق ، وأومأ بیده إلى موضع الطواف ، ما منهم أحد أُوجبُ له إسم الإنسانیة إلا ذلک الشیخ الجالس ، یعنی أبا عبد الله جعفر بن محمد علیهما السلام . فأما الباقون فرعاع وبهائم ! فقال له ابن أبی العوجاء : وکیف أوجبتَ هذا الإسم لهذا الشیخ ، دون هؤلاء ؟ قال : لأنی رأیت عنده ما لم أره عندهم ! فقال له ابن أبی العوجاء : لابد من اختبار ما قلت فیه منه . قال فقال ابن المقفع : لا تفعل فإنی أخاف أن یفسد علیک ما فی یدک . فقال : لیس ذا رأیک ، ولکن تخاف أن یضعف رأیک عندی فی إحلالک إیاه المحل الذی وصفت ! فقال ابن المقفع : أما إذا توهمت علیَّ هذا فقم إلیه ، وتحفظ ما استطعت من الزلل ، ولا تثنی عنانک إلى استرسال فیسلمک إلى عقال . وسِمْهُ مالک أو علیک . قال : فقام ابن أبی العوجاء وبقیت أنا وابن المقفع جالسین ، فلما رجع إلینا ابن أبی العوجاء قال : ویلک یا ابن المقفع ما هذا ببشر! وإن کان فی الدنیا روحانیٌّ یتجسد إذا شاء ظاهراً ، ویتروَّح إذا شاء باطناً ، فهو هذا ! فقال له : وکیف ذلک ؟ قال : جلست إلیه فلما لم یبق عنده غیری ابتدأنی فقال : إن یکن الأمر على ما یقول هؤلاء ، وهو على ما یقولون ، یعنی أهل الطواف ، فقد سلموا وعطبتم ، وإن یکن الأمر على ما تقولون ، ولیس کما تقولون ، فقد استویتم وهم ! فقلت له : یرحمک الله وأی شئ نقول وأی شئ یقولون ؟ ما قولی وقولهم إلا واحداً ! فقال : وکیف یکون قولک وقولهم واحداً ؟ وهم یقولون : إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً ، ویدینون بأن فی السماء إلهاً ، وأنها عمران . وأنتم تزعمون أن السماء خراب لیس فیها أحد ؟ قال : فاغتنمتها منه فقلت له : ما منعه إن کان الأمر کما یقولون أن یظهر لخلقه ویدعوهم إلى عبادته حتى لا یختلف منهم اثنان ! ولم احتجب عنهم وأرسل إلیهم الرسل ؟ ولو باشرهم بنفسه کان أقرب إلى الإیمان به ؟ فقال لی : ویلک وکیف احتجب عنک من أراک قدرته فی نفسک : نُشوءک ولم تکن ، وکبرک بعد صغرک ، وقوتک بعد ضعفک ، وضعفک بعد قوتک ، وسقمک بعد صحتک ، وصحتک بعد سقمک ، ورضاک بعد غضبک ، وغضبک بعد رضاک، وحزنک بعد فرحک ، وفرحک بعد حزنک وحبک بعد بغضک ، وبغضک بعد حبک ، وعزمک بعد أناتک ، وأناتک بعد عزمک ، وشهوتک بعد کراهتک وکراهتک بعد شهوتک ، ورغبتک بعد رهبتک ورهبتک بعد رغبتک ، ورجاءک بعد یأسک ویأسک بعد رجائک ، وخاطرک بما لم یکن فی وهمک ، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنک .
وما زال یُعدِّد علیَّ قدرته التی هی فی نفسی التی لا أدفعها حتى ظننت أنه سیظهر فیما بینی وبینه!) (9) .
3 ـ قال محمد بن إسحاق : إن عبد الله الدیصانی ( ملحد معروف ) سأل هشام بن الحکم فقال له : ألک رب ؟ فقال : بلى ، قال : أقادرٌ هو ؟ قال : نعم قادر قاهر . قال : یقدر أن یدخل الدنیا کلها البیضة لا تکبر البیضة ولا تصغر الدنیا ؟ قال هشام : النظرة ( أی أمهلنی ) فقال له : قد أنظرتک حولاً ، ثم خرج عنه فرکب هشام إلى أبی عبد الله ( الإمام الصادق علیه السلام ) فاستأذن علیه فأذن له فقال له : یا ابن رسول الله أتانی عبد الله الدیصانی بمسألة لیس المعول فیها إلا على الله وعلیک ، فقال له أبو عبدالله علیه السلام : عن ماذا سألک ؟ فقال قال لی : کیت وکیت ، فقال أبو عبد الله علیه السلام : یا هشام کم حواسک ؟ قال خمس . قال : أیها أصغر ؟ قال الناظر ، قال : وکم قدر الناظر قال : مثل العدسة أو أقل منها . فقال له : یا هشام ! فانظر أمامک وفوقک وأخبرنی بما ترى ، فقال : أرى سماء وأرضاً ودوراً وقصوراً وبراری وجبالاً وأنهاراً . فقال له أبو عبد الله علیه السلام : إن الذی قدر أن یدخل الذی تراه العدسة أو أقل منها قادر أن یدخل الدنیا کلها البیضة ، لا تصغر الدنیا ولا تکبر البیضة ! فأکب هشام علیه وقبل یدیه ورأسه ورجلیه وقال : حسبی یا ابن رسول الله ، وانصرف إلى منزله . وغدا علیه الدیصانی فقال له : یا هشام إنی جئتک مسلِّماً ولم أجئک متقاضیاً للجواب ، فقال له هشام : إن کنت جئت متقاضیاً فهاک الجواب ، فخرج الدیصانی عنه حتى أتى باب أبی عبد الله علیه السلام فاستأذن علیه فأذن له ، فلما قعد قال له : یا جعفر بن محمد دُلَّنی على معبودی ؟ فقال له أبو عبد الله : ما اسمک ؟ فخرج عنه ولم یخبره باسمه فقال له أصحابه : کیف لم تخبره باسمک ؟ قال : لو کنت قلت له : عبد الله ، کان یقول : من هذا الذی أنت له عبد ؟ فقالوا له : عد إلیه وقل له یدلک على معبودک ولا یسألک عن اسمک . فرجع إلیه فقال له : یا جعفر بن محمد دلنی على معبودی ولا تسألنی عن إسمی ؟ فقال له أبو عبدالله علیه السلام : أجلس ، وإذا غلام له صغیر فی کفه بیضة یلعب بها فقال له أبو عبد الله : ناولنی یا غلام البیضة فناوله إیاها ، فقال له أبو عبدالله علیه السلام : یا دیصانی ، هذا حصن مکنون له جلد غلیظ ، وتحت الجلد الغلیظ جلد رقیق وتحت الجلد الرقیق ذهبة مائعة وفضة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهی على حالها لم یخرج منها خارج مصلح فیخبر عن صلاحها ، ولا دخل فیها مفسد فیخبر عن فسادها ، لا یدری للذکر خلقت أم للأنثى تنفلق عن مثل ألوان الطواویس ، أترى لها مدبراً ؟! قال : فأطرق ملیاً ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شریک له وأن محمداً عبده ورسوله وأنک إمام وحجة من الله على خلقه ، وأنا تائب مما کنت فیه) (10) .
المصدر : من کتاب معرفة الله ، العلامة الشیخ علی الکورانی ، برعایة المرجع الدینی الأعلى السید السیستانی ، الطبعة الأولى 1427 ، الناشر دار الهدى ـ قم ، ص 16 ـ 24 (بتصرف)
1. سورة فصلت ( 41 ) ، الآیة : 53
2. البحار : 84 / 339 .
3. البحار : 64 / 142 .
4. البحار : 95 / 82 .
5. سورة الطور ( 52 ) ، الآیة : 35
6. البحار : 3 / 36 .
7. سورة النمل ( 27 ) ، الآیة : 60
8. الکافی : 1 / 78 .
9. الکافی : 1 / 74 .
10. الکافی : 1 / 79 .
source : .www.rasekhoon.net