مثلما کثرت فرق أهل السنة فی مجال الفقة والاعتقاد، تکاثرت أیضاً فی مجال الحدیث والروایات حتى أنها غلبت على الفرق الأخرى.ولقد لعبت السیاسیة دوراً فاعلا فی دعم الفرق وتصفیة خصومها من أهل العقل والفکر والرأی وحتى أصحاب الأحادیث والروایات التی لا تخدم الخط السائد.
من هنا أخذت فرق الرواة مکانة کبیرة ودخلت دائرة القداسة وسادت على الفرق الأخرى، مما دفعها إلى الاعتقاد بحصر الفرقة الناجیة فی دائرتها. وهذا ما دفع بکثیر من الفرق المعاصرة إلى الاتجاه نحو الروایة والترکیز علیها.
ویلاحظ أن زمن بروز هذه الفرق زمناً واحداً والاختلافات السائدة بینها تکاد تکون خلافات وهمیة تدور حول ترتیب الروایات وتبویبها والحکم على رجالها.
هناک فرق شککت فی عدد من الرواة وجرحتهم، وبالتالی رفضت قبول روایاتهم.
وهناک فرق قبلت هؤلاء الرواة وعدلتهم، وبالتالی اعتمدت روایاتهم.
وهناک فرق برزت فی مواطن تعصبت لها ودعمتها.
وهناک فرق برزت فی مواطن أخرى تعصبت لها ودعمتها. رکز أهل خراسان على فرقة البخاری وفرقة مسلم، بینما رکز أهل العراق ومصر والمغرب على فرقة أبی داود.
أن هناک ثلاثة عوامل ساهمت فی دعم فرق الرواة وانتشارها تمثّلت فیما یلی:
ـ الحکام.
ـ الفقهاء.
ـ المکان.
وهذه العوامل الثلاثة أسهمت فی سیادة فرق على حساب فرق أخرى، وعلى رأس هذه الفرق فرقة البخاری وفرقة مسلم.
فرقة البخاری:
وهی تنسب إلى محمد بن إسماعیل البخاری، وتعد فرقته من أشهر فرق الرواة، وقد قدّمها الفقهاء على جمیع فرق الرواة الأخرى واعتبروا الأحادیث التی جمعها البخاری أصح الأحادیث وکتابه أصح الکتب بعد کتاب الله جل جلاله.
وکان البخاری کثیر السفر والتجوّل من أجل جمع الروایات، فرحل إلى مصر والشام وخراسان والبصرة والحجاز والجزیرة بحثاً عن الحدیث والمحدثین(1).
قال ابن حجر: لما رأى البخاری هذه التصانیف ـ أی تصانیف من سبقوه فی عالم الروایة کابن حنبل وإسحاق بن راهویه وعثمان بن أبی شیبة ـ ورواها وانتشق ریاها واستجلى محیاها وجدها بحسب الوضع جامعة بین ما یدخل تحت التصحیح والتحسین والکثیر منها یشمله التضعیف فلا یقال لغثة ثمین، فحرک همته لجمع الحدیث الصحیح الذی لا یرتاب فیه أمین، وقوى عزمه على ذلک ما سمعه من أستاذه اسحاق بن راهویه.
وروى عن البخاری قوله: رأیت النبی(صلى الله علیه وسلم) وکأننی واقف بین یدیه وبیدی مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرین فقال لی: أنت تذب عنه الکذب. فهو الذی حملنی على إخراج الجامع الصحیح.
وروى عنه قوله: لم أخرج فی هذا الکتاب إلاّ صحیحاً، وما ترکت من الصحیح أکثر.(2)
وقد وجهت للبخاری الکثیر من الطعون من فرق الرواة الأخرى ورموزها على رأسهم الدارقطنی رد علیها أتباع فرقته وهذه المقدمة وضعها ابن حجر للدفاع عن البخاری ضد الطعون الموجهة إلیه. وانظر شرح القسطلانی على البخاری. ویروى أن البخاری قدم نیسابور عام 250هـ فأقبل علیه الناس لیسمعوه وسئل عن اللفظ بالقرآن فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا. وهو ما یخالف اتجاه الفرق الأخرى من أهل السنة الذین اتهموه بالابتداع ومنعوا عنه الناس وفرّ من نیسابور خوفاً على نفسه. (3).
واشتهر البخاری بعدد من الفتاوى الشاذة التی أثارت القوم علیه، منها فتوى بوقوع التحریم من لبن الحیوان، أی من رضاع أثنین من لبن شاة أو بقرة سویاً، فإنه یقع علیهما التحریم إن کانا ذکر وأنثى وسائر أحکام الرضاع. المعروف أن الحرمة بسبب الرضاع تقع حین یتم الرضاع من إمرأة ولا یعقل أن یرتبط التحریم بالبهائم.
ومنها فتوى بعدم وجوب الغسل على من یجامع ولم ینزل(4).
وفتوى بعدم جواز استتار المرأة عن الضیف(5).
وروى ابن حجر أن البخاری مات ولم یتم کتابه(6).
وروى عن البخاری قوله: رب حدیث سمعته بالبصرة کتبته بالشام، ورب حدیث سمعته بالشام کتبته بمصر، فقیل له یا أبا عبد الله، بکماله؟ فسکت(7).
فرقة مسلم:
وتنسب هذه الفرقة إلى مسلم بن الحجاج القشیری الذی اختلف مع البخاری وسلک سبلا مختلفة عنه فی جمع الروایات. کان مسلم لا یروی بالمعنى کما هو حال البخاری، وتجنب نقل أقوال الصحابة وإضافتها إلى الأحادیث المنسوبة إلى النبی(صلى الله علیه وآله وسلم) ویبوّب الأحادیث على أساس الأحکام مما یضطره إلى تقطیع الحدیث الواحد وتفریقه فی عدة أبواب لکونه یحمل عدّة أحکام. وتبنى مسلم الکثیر من الأحادیث التی رفضها البخاری على رأسها أحادیث أئمة آل البیت(علیهم السلام).
وقد عدّ الفقهاء فرقة مسلم فی المرتبة الثانیة بعد فرقة البخاری، وقدّمه آخرون على البخاری، وطعن فیه آخرون. انظر مقدمة المنهاج فی شرح مسلم بن الحجاج النووی المعروف بشرح النووی على مسلم. وانظر مقدمة ابن الصلاح. وقد بلغت الأحادیث التی أخذوها على مسلم وانتقد بسببها (132) حدیثاً. وانتقد من رواته أکثر من مائة راو. انظر کتب الجرح والتعدیل.
وقال مسلم عن کتابه الذی صنفه فی الحدیث: لیس کل شیء صحیح عندی وضعته ههنا، وإنما وضعت ههنا ما أجمعوا علیه(8).
وعلّق النووی على قوله هذا فی شرحه لکتاب مسلم قائلا: أما قول مسلم فمشکل فقد وضع فیه أحادیث کثیرة مختلفاً فی صحتها لکونها من حدیث ممن اختلفوا فی صحة حدیثه(9).
وصنّف مسلم الکثیر من الکتب الأخرى فی مجال الحدیث وغیره منها:
کتاب أولاد الصحابة.
وکتاب أوهام المحدثین.
وکتاب سؤالات أحمد بن حنبل.
وکتاب العلل.
وکتاب الأسماء والکنى.
وکتاب الانتفاع بإهب السباع(10).
فرقة أبی داود:
وهی فرقة تنسب إلى سلیمان بن الأشعث الأزدی المعروف بأبی داود، وقد قام بجمع الأحادیث التی ترکز على الفقه لیتمیز على البخاری ومسلم.
قال ابن القیم عن کتاب أبی داود: کتاب السنن لأبی داود من الإسلام بالموضع الذی خصّه الله تعالى به بحیث صار حکماً بین أهل الإسلام، وفصلا فی موارد النزاع والخصام، فإلیه یتحاکم المنصفون، وبحکمه یرضى المحقون، فإنه جمع شمل أحادیث الأحکام ورتبها أحسن ترتیب ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، وإطراحه منها أحادیث المجروحین الضعفاء(11).
وقال أبو داود: ذکرت فی کتابی الصحیح وما یشبهه وما یقاربه، وما کان فیه وهن شدید بینته(12).
وقد جمع أبو داود فی کتابه أربعة آلاف وثمانمائة حدیث(13).
وقال الخطابی: کتاب السنن لأبی داود کتاب شریف لم یصنف فی علم الدین کتاب مثله(14).
واعتبر بعض الفقهاء أن أبا داود تفوّق على البخاری ومسلم فی تصنیف الحدیث(15).
قال ابن العماد: کان رأساً فی الحدیث، رأساً فی الفقه(16).
وقال إبراهیم الحربی: ألین لأبی داود الحدیث کما ألین لداود الحدید(17).
وکان أبو داود قد طاف البلاد بحثاً عن الحدیث وکتب عن العراقیین والخراسانیین والشامیین والمصریین والجزریین(18).
فرقة الترمذی:
وهی تنسب إلى محمد بن عیسى الترمذی الذی قام بجمع الأحادیث بطریقة مختلفة عن فرق الرواة الأخرى. - قال الهروی (396 ـ 481هـ) عن کتاب الترمذی: کتابه عندی أنفع من کتاب البخاری ومسلم، وقال طاش زاده فی مفتاح السعادة: کتابه الصحیح أحسن الکتب وأکثرها فائدة وأحسنها ترتیباً، وقال ابن الأثیر فی تاریخه: فی سنن الترمذی ما لیس فی غیرها من ذکر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبیین أنواع الحدیث من الصحیح والحسن والغریب. (19)
ویعدّ الترمذی أول من قام بتقسیم الأحادیث وتصنیفها وابتداع أقسام الحدیث الثلاثة صحیح وحسن وضعیف، وقد کانت الفرق الأخرى تقسم الحدیث إلى قسمین فقط هما: صحیح وغیر صحیح(20).
وکان الترمذی قد تتلمذ على ید البخاری، وقال عنه ابن حبان: کان ممن جمع وصنّف وحفظ وذاکر(21).
وقال الترمذی: صنفت هذا الکتاب ـ أی کتابه الجامع للأحادیث ـ فعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن کان فی بیته هذا الکتاب فکأنّما فی بیته نبی یتکلم(22).
وللترمذی عدة مصنفات منها:
الشمائل.
الأسماء والکنى.
الزهد.
وقد ذکر ابن الأثیر وابن رجب وغیرهما أن الترمذی جمع الکثیر من الأحادیث المنکرة. انظر اختصار علوم الحدیث وعلل الترمذی، توفی الترمذی عام 279هـ.
فرقة النسائی:
وتنسب إلى أحمد بن شعیب النسائی صاحب السنن، زکاه کثیر من الفقهاء غیر أنهم تحفّظوا تجاهه فیما یتعلق بمواقفه من بعض الروایات الخاصة بفضائل الصحابة، وقد اتهم بالمیل نحو التشیع لآل البیت(علیهم السلام)(23).
وکان النسائی قد طاف کثیر من البلاد، ثم استقر بمصر لیصبح أمام الحدیث فیها.
قال ابن العماد نقلا عن الحاکم: النسائی أفقه مشایخ مصر فی عصره وأعرفهم بالصحیح والسقیم من الآثار وأعرفهم بالرجال.
وقال الذهبی: هو أحفظ من مسلم(24).
وروى أن النسائی خرج من مصر إلى دمشق فی آخر عمره، فسئل بها عن معاویة وما جاء من فضائله؟
فقال: ألا یرضى رأساً برأس حتى یفضل؟
فما زالوا یدافعون فی خصییه حتى أخرج من المسجد، ثم حمل إلى مکة، فتوفى بها.
وسبب هذه الحادثة أن النسائی صنف کتاباً فی خصائص الإمام علی، فأنکر علیه القوم ذلک بترکه تصنیف فضائل الشیخین.
وهناک الکثیر من فرق الرواة الأخرى التی لم تحظ بالشهرة الکافیة والتقدیر الکافی من أهل السنة.
وعلى رأس هذه الفرق فرقة ابن ماجة القزوینی التی عدّها البعض سادس فرق الرواة بینما قدّم علیها البعض فرقة الدارمی.
قال النووی: الصواب أنه لم یفت الخمسة ـ البخاری ومسلم وأبو داود والترمذی والنسائی ـ إلاّ الیسیر.
وقال ابن خلدون: وهذه هی المسانید المشهورة فی الملة، وهی أمهات کتب الحدیث فی السنة، وإنها إن تعددت ترجع إلى هذه فی الأغلب.
وبالإضافة إلى فرقة ابن ماجة والدارمی هناک فرق الطبرانی والدارقطنی وابن حبان وابن خزیمة والبیهقی وابن أبی عاصم والحاکم(25).
والدرامی هو أبو محمد عبد الله عبد الرحمن ابن الفضل التمیمی السمرقندی ت 255هـ.
والطبرانی هو أبو القاسم سلیمان بن أحمد بن أیوب اللخمی الشامی الطبرانی ت 360هـ.
والدارقطنی هو أبو الحسن على بن عمر بن أحمد بن مهدی البغدادی ت 385هـ.
وابن حبان هو محمد بن حبان بن أحمد بن معاذ الیمنی البستی ت 354هـ.
وابن خزیمة هو أبو بکر محمد بن إسحاق بن خزیمة بن المغیرة بن صالح بن بکر السلمی النیسابوری ت 311هـ.
والبیهقی هو أبو بکر أحمد بن الحسن بن علی بن موسى الخسروجردی ت 458هـ.
وابن أبی عاصم هو أبو بکر أحمد بن عمرو بن النبیل أبی عاصم الشیبانی قاضی أصبهان ت 287هـ.
والحاکم هو محمد بن أحمد بن إسحاق النیسابوری صاحب المستدرک على البخاری ومسلم ت 378 هـ.
انظر تذکرة الحفاظ. هذا بالإضافة إلى فرقة أبی عوانة ت316هـ، والخوارزمی ت435هـ، وأبی یعلى ت307هـ، وابن أبی شیبة ت235هـ، والحمیدی ت219هـ، وغیرهم کثیر.
المصادر :
1- وفیات الأعیان لابن خلکان ج3 / 331، وانظر تذکرة الحفاظ للذهبی ج1.
2- أنظر مقدمة فتح الباری شرح البخاری لابن حجر العسقلانی.
3- ارشاد الساری ج2/203.
4- الکفایة فی شرح الهدایة فی الفقه الحنبلی.
5- المرجع السابق. وانظر تذکرة الحفاظ ووفیات الأعیان.
6- مقدمة فتح الباری.
7- تاریخ بغداد للخطیب ج2/11، وانظر إرشاد الساری ج2/201، توفی البخاری عام 256هـ
8- مقدمة شرح النووی على مسلم.
9- تذکرة الحفاظ للذهبی ج2 ترجمة مسلم بن الحجاج. وقد ضم مسلم فی کتابه أربعة آلاف حدیث دون المکرر.
10- مقدمة النووی وتذکرة الحفاظ، توفی مسلم عام 261هـ.
11- مقدمة سنن أبی داود.
12- تذکرة الحفاظ ج2 ترجمة رقم 615.
13- المرجع السابق وانظر مقدمة أبی داود.
14- - مقدمة أبی داود / کتب الجرح والتعدیل ووفیات الأعیان لابن خلکان.
15- انظر المراجع السابقة.
16- شذرات الذهب فی أخبار من ذهب ج2، أخبار عام 275هـ.
17- المرجع السابق وما سبقه من المراجع.
18- المراجع السابقة، توفی أبی داود عام 275هـ.
19- مقدمة سنن الترمذی تحقیق أحمد شاکر.
20- شرح علل الترمذی لابن رجب. / تذکرة الحفاظ ج2 ترجمة رقم 658.
21- انظر تذکرة الحفاظ وتاریخ ابن الأثیر ومقدمة أحمد شاکر.
22- تذکرة الحفاظ. وانظر وفیات الأعیان. ومقدمة أحمد شاکر
23- تذکرة الحفاظ ج2 ترجمة رقم 719./ شذرات الذهب ج2 أخبار عام 303هـ، وانظر وفیات الأعیان.
24- شذرات الذهب.
25- ابن ماجة هو أبو عبد الله محمد بن یزید القزوینی ت 273هـ.
source : .www.rasekhoon.net