الرؤية الكونية للإمام الخميني - بمعنى معرفة الوجود ومعرفة الله والإنسان - وليدة المعرفة الدينية، أي طريقة فهمه وتصوره للدين. وقد امتازت قراءة الإمام للإسلام بنحو عرفت بالإسلام المحمدي الأصيل.
إذ آمن سماحته بشمولية الإسلام فأحاط به وعمل على التعريف به. وفي هذا الصدد يقول سماحته:
" الإسلام دين، خلافاً للأديان غير التوحيدية، يُعنى بكافة الشؤون الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ويشرف عليها، ولم يغفل عن أي أمر منها وإن كان بسيطاً، و هو على صلة بتربية الإنسان والمجتمع والتطور المادي والمعنوي، وقد لفت إلى العقبات والمعضلات التي تعترض طريق تكامل الفرد والمجتمع وعمل على تذليلها " .
في الحقيقة يمكن القول أن رؤية الإمام الخميني (قدس سره) للدين الإسلامي تؤمن بضرورة أن يكون كل شيء إسلامي، وان ثمة حكماً يمكن استنباطه من الإسلام لكل شأن من شؤون الإنسان والمجتمع، وان بوسع القوانين والضوابط المستنبطة من أحكام الشرع أن تشكل نظاماً اجتماعياً متكاملاً.
وان هذا النظام القانوني يلبي كافة احتياجات الإنسان بدء من أسلوب التعامل مع الجيران والأبناء والعشيرة والناس والمواطنين والشؤون الخاصة والحياة الأسرية، وانتهاءً بالقوانين الخاصة بالحرب والسلام والعلاقة مع الشعوب الأخرى.
كما يتضمن الإسلام القوانين الجزائية وقوانين التجارة والصناعة والزراعة.
ولديه قانون لما يسبق النكاح وانعقاد النطفة وما بعد الولادة والحضانة وواجبات الوالدين حيال ذلك، وكيفية تربية الأطفال والسلوك المطلوب بين المرأة والرجل ومع أبنائهم.
لكل ذلك لدى الإسلام تعاليم وأحكام كي يتسنى تربية الإنسان الكامل والفاضل، الإنسان الذي يجسد القانون في جميع حركاته وسكناته.
ولا يخفى مدى اهتمام الإسلام بنظام الحكم والعلاقات السياسية والاقتصادية للمجتمع، لتكون كل الظروف في خدمة تربية الإنسان الفاضل والمهذب.
ويؤمن الإمام الخميني إن بوسع المسلمين أن ينعموا بالأمن والرخاء، إذا ما حرصوا على إيمانهم وأخلاقهم الفاضلة في ظل حكومة العدل والقانون. الحكومة التي وضع الإسلام نظامها وقوانينها ونمط إدارتها.
ان الإمام (ره) وفي ضوء قراءته للإسلام، لديه رؤيته الخاصة لله ولعالم الوجود. فلم يتعلق سماحته بشيء ولا يخوض في أمر إلا على أساس نظرته التوحيدية الأصيلة.
وفي ظل هذه النظرة فان كل شيء بالنسبة له إنما هو مظهر من مظاهر الاسماء والصفات الإلهية. وان كل ما في هذا الكون هو منه تعالى وإليه.
من وجهة نظر الإمام، الوجود من تجليات الله. وان كل شيء انما هو موجود من خلال تجلي الحق المتعالي. وان البحث عن الوجود عيناً، إنما هو بحث عن وجود الله وصفاته وتجلياته وظهوراته.
إذ يقول سماحته " الأقلام والألسن والأقوال والكتابات، عاجزة عن شكر النعم اللامتناهية التي أنعم وينعم بها الخالق على العالمين.. الخالق أظفى نعمة الوجود على عوالم الغيب والشهادة والسرّ والعلن بفضل تجلي نوره الساطع، وأوصلها إلينا ببركة من اصطفاهم،
ذلك أن (الله نور السموات والأرض). ومع ظهور جميله أزيح الستار عن جماله لأنه : (هو الأول والآخر والظاهر والباطن).
ومع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية الملاحظات أعلاه، نحاول ادناه تبيان رؤية الإمام الخميني للإنسان.
الانسان كما يراه الامام الخميني
لقد تحدث الامام الخميني في الكثير من مؤلفاته عن رؤيته الى الانسان والقضايا المتعلقة به، نظير بحث خلق الإنسان، وحقيقة الإنسان، وتربية الإنسان... الخ. غير أن سماحته تناول بحث معرفة الإنسان بشكل خاص في مؤلفاته : (مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية)، و (شرح دعاء السحر) ، و(الأربعون حديثاً).
كما أن المنظومة الفكرية لسماحة الإمام عبارة عن منظومة دينية عرفانية المنهج. وهذا يعني أن جوهر فكر الإمام ذو رؤية معرفية ملفتة، وان عرفان الإمام يتمحور حول الإنسان بقوة .
فالدين من وجهة نظر الإمام إنما هو من أجل الإنسان وفي خدمته. وان الأنبياء والقرآن بعثوا من أجل الإنسان.
ولهذا فان فكر الإمام السياسي وتصور سماحته لنظام الحكم والدولة ومفاهيم من قبيل الحرية والقانون والشؤون السياسية عموماً، يستمد وجوده من رؤيته العرفانية وتصوره الحكيم للوجود ومظاهر اسماء الحق وصفاته، والرجوع إلى الله ومقامات وأحوال السير والسلوك إليه تعالى.
وفي غضون كل ذلك يعتبر الإنسان هو الإساس. وفي ضوء الحكمة الانسية لسماحة الإمام، يعتبر الإنسان زينة عالم الوجود، وأشرف المخلوقات، وقد سخر له كل شيء.
وان بعثة الإنبياء ونزول القرآن وتعاليمهم وجهادهم، إنما هو من أجل تعبيد الطريق أمام الإنسان بما يليق به، وأن يمضي هذا المخلوق الطبيعي باتجاه حقيقته الربانية، حيث تقتضي الحكمة والعناية الإلهية بأن يبلغ كل إنسان الكمال الذي يليق به.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الخميني (قدس سره) في تفسير سورة (اقرأ) موضحاً: " الإنسان شكّل هدف كافة الأنبياء وكان موضوع علمهم وتربيتهم.. الأنبياء بعثوا لتربية الإنسان.. بعثوا للارتقاء بهذا الكائن الطبيعي من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة أسمى ما فوق الطبيعة، ما فوق الجبروت.. الإنسان شكّل هدف جميع الأنبياء.. الأنبياء جاءوا من أجل الإنسان، من أجل تربية الإنسان ".
" الأنبياء بعثوا لتوعيتنا وتربيتنا.. الأنبياء بعثوا من أجل الإنسان وبنائه.. كتب الأنبياء إنما هي كتب بناء الإنسان. كل ما في الوجود مسخر لخدمة الإنسان.. الإنسان منبع جميع الخيرات. إن لم يصبح الإنسان إنساناً، يكون مصدراً لجميع الظلمات.. إن هذا المخلوق يقف في مفترق طريقين: الأول طريق الإنسان، والآخر طريق الإنحراف عن الإنسانية. وذلك من اجل التخلص من كل ما هو حيواني" .
إن طبيعة نظرة الإمام الخميني إلى الإنسان قائمة على أساس رؤيته التوحيدية، وفي ضوء الرؤية العرفانية والتصور الحكيم.
ومثل هذا يشكل أساس فكر وسيرة الإمام في الأمور الأخرى أيضاً. ولهذا تطرح رؤية الإمام للإنسان بمثابة عنصر أساسي للمعرفة في المنظومة الفكرية لسماحته.
وما لم تتضح طبيعة رؤية الإمام إلى الإنسان وتصور سماحته للمرتبة الآدمية، لن تتجلى رؤيته للأمور الأخرى بشكل سليم.
ولدى توضيحه هذه المسألة يلفت سماحة الإمام في (مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية) إلى أن معرفة النفس هي مفتاح إدراك وفهم جميع الحقائق.
ولدى بحثه حول الإنسان يبدأ سماحته من حقيقة الإنسان، لأن أصل وجود الإنسان يكمن في حقيقته، وان هذه الحقيقة على درجة من السمو والرفعة يعد التعرف عليها بمثابة معرفة الله : " من عرف نفسه فقد عرف ربّه ".
وان خلق هذه الحقيقة استوجب الثناء والإطراء: (فتبارك الله أحسن الخالقين). غير أن معرفة حقيقة الإنسان التي هي حقيقة قدسية، لا تتيسر للجميع سوى العلماء الربانيين. يقول الامام الخميني (قدس سرّه) : "كل شيء يبدأ من هنا وهو أن الله تعالى يخبر عن خلق كائن يعتبر خليفته. والخليفة يعني من ينوب عنه، وهذا يعني ينبغي له أن يتصف بصفات وكمالات المستخلف وأن تتجلى فيه آثاره وتجلياته، وأن يكون مرآة تعكس المستخلف تماماً حتى يصدق عليه عنوان الخليفة.
والله تبارك وتعالى يعرّف الإنسان بمثابة خليفته في الأرض، فتعترض الملائكة متساءلة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء). ولأنها - الملائكة - ترى الدافع من تعيين الخليفة في الأرض أن يسبح لله ويقدسه، لذا تعتبر نفسها أولى وأحق بهذا المنصب.
غير أن الله يرد على الملائكة قائلاً: (إني أعلم ما لا تعلمون). وبذلك يلفت عز وجل إلى أن حقيقة الإنسان خافية، موضحاً: (وعلّم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علّمتنا إنك انت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون).
إن جميع فضائل الإنسان ومؤهلاته تكمن في (علّمه الاسماء كلها). وان حقيقة الإنسان تتجلى في علم الإنسان بالاسماء كلها.
وفي ضوء ذلك فان الإجابة عن سؤال: لماذا الإنسان بالذات خليفة الإنسان، ولماذا لا ترقى الملائكة إلى هذه المنـزلة رغم مقام التقديس والتسبيح الذي هي فيه، حيث تتصور أن مقام الخلافة يتطلب التسبيح والتقديس وهي مؤهلة لذلك؟ ان الإجابة عن ذلك تكمن في أن الإنسان لديه علم الاسماء كلها، وان بقية الكائنات تفتقر إلى مثل هذا الاستعداد وهذه القدرة " .
من وجهة نظر الإمام الخميني أن حقيقة الإنسان حقيقة جامعة لكل عوالم الوجود، ومثل هذا المقام لا يليق إلا بالإنسان وحده. ويشير سماحته إلى ذلك في (شرح دعاء السحر) موضحاً: " اعلم أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الجامع لجميع المراتب العينية والمثالية والحسية. وان كل عوالم الغيب والشهادة وما فيها يكمن في وجود الإنسان المعقد " .
ولهذا فان خليفة الله شأنه شأن الباري تعالى المستخلف عنه، مستجمع للصفات المتقابلة. ولذا احتج عزوجل على إبليس قائلاً: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ؟).
وقد ردّ الشيطان على سؤال الله تعالى بالقول: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين).
ويرى الإمام أن الشيطان تكبر على آدم الذي هو مخلوق الحق تعالى، وليس على الله. اغتر بنفسه وتكبر على الإنسان. ونتيجة لهذا التكبر طرد الشيطان وجاء الأمر: (فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصغرين).
وتبعاً لذلك قال الشيطان: (ربي بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين).
فأجابه الله تعالى: (هذا صراط عليّ مستقيم ان عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين).
لقد وعد الشيطان بأنه سوف يضل الناس من خلال تزيين أمور الدنيا لهم فيما عدا المخلصين، لأنهم لا يرون غير الله تعالى ولا ينشدون سواه. وقد جعلهم الله خالصين له بعد أن أخلصوا أنفسهم لله.
غير أن الله تعالى، ورداً على مزاعم الشيطان الذي توعد بتضليل الناس إلا العباد المخلصين، قال : (ان عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) .
ويدل سياق الآية على أن المراد من (عبادي) ليس العباد المخلصين فحسب وانما الناس جميعاً، إلا إذا اختاروا الضلالة وكانوا من المشركين : (إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون).
" إن سلطة الشياطين إنما هي على الإنسان المتكبر والمغرور وأسير النفس الأمارة.
وفي الحقيقة هناك نوعان من الضلالة: ضلالة أولية وضلالة ثانوية. فعندما يكون الإنسان متكبراً ومغروراً ومهوس بالمظاهر وحب الدنيا وقد سلّم عنان إرادته إلى نفسه الأمارة، أي إبتلي بالضلالة الأولى وابتعد عن الحق، وان الله تعالى قد أذن بتسلط الشيطان على مثل هذا الشخص، ولهذا يجد الشيطان طريقه إليه ويأخذه إلى الضلالة برفقته. وهذه هي الضلالة الثانوية التي في الحقيقة هي جزء من الضلالة الأولية ".
بتعبير آخر، أن الإنسان بما انه قد اختار الضلالة فان الشيطان يعينه في هذا المسير، وإلا فانه لو لم يفعل ذلك ليس بوسع أية سلطة أن تهيمن عليه. ذلك أن سلطة الشيطان تكون على أهل الضلالة فحسب وليس على الناس جميعاً. وهكذا هو قضاء الله تعالى بأن يتسلط الشيطان على الذين هم أنفسهم يرغبون باتباعه وقد سلّموا مصيرهم إليه، فأمثال هؤلاء هم الذين يتحكم به الشيطان.
وبناء على هذه السنة والقضاء الإلهي، وفي ضوء الرؤية المعرفية لسماحة الإمام، ليس لأي مخلوق سلطة على الإنسان، وليس بوسع أي شيطان وأية قوة أن تفرض سلطتها على الإنسان إلا أن يسمح الإنسان نفسه بذلك. لأن علاقة الكائنات مع الإنسان بنحو لن يتسنى لأية قوة بالهيمنة والتسلط عليه ما لم يسمح هو بذلك.
ومن هنا يمكن ان ندرك بأنه عندما يعجز الشيطان، الذي هو أكبر وأقوى أعداء الإنسان، عن فرض هيمنته على الإنسان ، وإن ضلالة الإنسان رهن رغبته وإرادته، وان الإنسان حرّ ومخيّر في الضلالة، لذا فان من باب أولى أن تكون إرادة الإنسان وحريته هي الأصل في المجالات الأخرى.
ويؤمن الإمام (قدس سره) بأن الإنسان مرآة مشاهدة الأشياء ، وان الله تعالى ينظر إلى الخلق بواسطة هذه المرآة. وأن وجود الإنسان بالنسبة لله تعالى بمثابة العين بالنسبة للناس. فمثلما تنظر العين إلى الموجودات عن طريق الناس، كذلك ينظر الله تعالى إلى المخلوقات من نافذة الإنسان.وبعبارة اخرى، أن الإنسان وسيط لإفاضة فيض الوجود على الكائنات. وبناء على ذلك فان المسافة بين أسفل السافلين وأعلى عليين هي الطريق والصراط لحركة الإنسان.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار رؤية الإمام الخميني (قدس سره) إلى صراط الإنسان، الذي يبدأ بأسفل السافلين وينتهي بأعلى عليين، ربما يمكن القول بأن دائرة نشاط الإنسان تتطابق مع صراطه من أسفل السافلين إلى أعلى عليين. وان الإنسان يتمتع بحرية العمل والإرادة في هذا الطريق، حيث باستطاعته أن يخطو في الصراط المستقيم، أو الوقوع في فخ الإفراط والتفريط. وعلى حد قول الإمام (قدس سره):
" الإنسان كان بمستو واحد مع بقية الحيوانات حتى منـزل الحيوانية. ومن هذا المنـزل ثمة طريقان ينبغي له اختيار احداهما بقدم الإرادة: طريق منـزل السعادة الذي هو الصراط المستقيم لربّ العَلَمين (ان ربي على صراط مستقيم).
وطريق الشقاء الذي هو طريق الشيطان الرجيم المعوج. فإذا سلّم قواه وأعضاء مملكته ووضعها تحت تصرف ربّ العالمين وتربى على هداه، فان القلب الذي هو سلطان هذه المملكة، سيسلّم له شيئاً فشيئاً.
وعندما يصبح القلب مربوب رب العالمين، سوف تقتدي به بقية الجنود وتمسي المملكة مربوبته بالكامل" .
ويرى الإمام (قدس سره) أن الإنسان ، ونظراً لأنه له نشأتان وعالمان، الملك والملكوت والدنيا والآخرة، فهو موجود ذات ابعاد ويتمتع بقوى متعددة وهي عبارة عن: الشهوة، الغضب، الوهم والعقل.
وان الإنسان ومنذ اليوم الأول لولادته ينشأ وينمو مع ميوله النفسية وشهواته الحيوانية في هذه التنشئة والسير في هذا العالم.
والسبب في ذلك هو أن الله تعالى ينعم على الإنسان بهذه القوى منذ بداية خلقه، ولهذا فهو بحاجة إلى هذه القوى في صيانة بقائه الشخصي والنوعي.
كما أن بوسعه ان يستخدم هذه القوى لصالح حياته المادية والمعنوية في سيره وسلوكه إلى الله تعالى .
ويؤمن سماحته بأن سعادة الإنسان وشقائه وسموه وتدنيه ، رهن التحكم بهذه القوى وحسن استخدامها.
source : www.abna.ir