قال تعالى: "بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ"(هود، 86).
سأعرض في مقالتي هذه إضاءات في عقيدة الإنتضار وكيفية التحلى به وتطبيقه في الحياة الفردية والإجتماعية، ستكون للكمة خمسة محاور رئيسة تدور حولها الإضاءات كما أن لكل محور عددا من المقامات التفصيلية:
المحور الأول: مدخل قرآني في علة الإنتظار:
المقام الأول: الخلافة الإليهة في القرآن:
قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"(البقرة، 30).
الظاهر من الآية المباركة حيث أطلقت فيها كملة "الجعل" دون "الخلق" أنه ليس المراد أن آدم نفسه هو خليفة الله في الأرض بل كان خلق آدم لأجل تلك الخلافة التي سوف يمنحها ويجعلها سبحانه لبعض من ولده وهم الخلص من عباده وهم الذين يجدر أن يطلق عليهم الإنسان الكامل بمعنى الكلمة وهم الذين ورد في شأنهم (خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين حتى من علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) وبالطبع هم نور واحد وحقيقة فاردة وإن تكثروا في عالم الطبيعة ومن هنا نشاهد أنه سبحانه لم يذكر الخليفة بصورة الجمع فلم يقل خلائف أو خلفاء بل جعلها مفردة وهذه الخلافة هي الأمانة الإلهية بعينها وتعني النيابة عنه تعالى في جميع شئونه وصفاته الجمالية والجلالية وهو أمر عظيم قد ذكره سبحانه في قوله : "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً"(الأحزاب، 72).
والسر في تحمله تلك الأمانة يكمن في أنه مظهر لأسماء الله الجلالية والجلال معاً بخلاف سائر الموجودات حيث أنها إما هي تجليات الجمال كالملائكة أو تجليات الجلال كالجن وبعض الحيوانات ولذلك قال سبحانه مخاطباً لإبليس: "قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ"(ص، 75).
قال الإمام الخميني قدس سره:
"فهو تعالى بحسب مقام الإلهية مستجمع للصفات المتقابلة كالرحمة والغضب، والبطون والظهور، والأولية والآخرية، والسخط والرضا، وخليفة لقربة إليه ودنوه بعالم الوحدة والبساطة مخلوق بيدي اللطف والقهر وهو مستجمع للصفات المتقابلة كحضرة المستخلف عنه. ولهذا اعترض على إبليس بقوله تعالى: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(ص، 75). مع أنك مخلوق بيد واحدة. فكل صفة متعلقة باللطف فهي صفة الجمال، وكل ما يتعلق بالقهر فهو من صفة الجلال. فظهور العالم ونورانيته وبهائه من الجمال وانقهارة تحت سطوع نوره وسلطة كبريائه من الجلال وظهور الجلال بالجمال واختفاء الجمال بالجلال. جمالك في كل الحقايق ساير وليس له إلا جلالك ساتر".
وعندما اعترضت أو بالأحرى سألت الملائكة ربها "...أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ". أجابهم سبحانه و" قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ"(البقرة، 30).
فلم ينكر سبحانه تلك الأمور أعني الإفساد في الأرض وسفك الدماء كظاهرة سوف تصدر من هذا البشر بل الظاهر أنه قدر قرارها، ولكنه سبحانه بين للملائكة أنهم جاهلون بحقيقة الأمر.
ومن هنا ظهرت مقولة مقدسة قد تحلت بها الملائكة ألا وهي "الإنتضار" وأعني به انتطار أمر البشر، فهل سيرتقي إلى قمة الكمال والعروج والهداية أو كما ظنت الملائكة سيفسد في الأرض ويسفك الدماء؟.
المقام الثاني: الإنتظار لغةً واصطلاحاً.
قال صاحب المفردات في مادة نظر: النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص...والنظر الانتظار يقال نظرته وانتظرته وأنظرته.
وأيضاً قال: في مادة "صبر" ويعبر عن الانتظار بالصبر لما كان حق الانتظار أن لا ينفك عن الصبر بل هو نوع من الصبر، قال "فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ"(الانسان، 24) أي انتظر حكمه لك على الكافرين.
أقول: "إن هذا الاستعمال هو استعمال مجازي من باب استعمال اللازم وإرادة الملزوم وهو شائع في كلام العرب. هذا للانتظار معني في الاصطلاح ويعنى به خصوص انتظار فرج الله الذي هو فرج حجة الله الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر روحي وأرواح العالمين له الفداء الذي به يكشف الله الغم وينفس الهم، ومن هذا المنطلق تبعت الكملة بكلمة الفرج الذي هو الانكشاف، وهذا المعنى للكلمة هو المقصود منه في أحاديثنا الشريفة.
المقام الثالث: شواهد قرآنية دالة على الإنتظار:
هناك آيات كثيرة تؤكد على ضرورة الإنتظار وأعنى به (انتظار الأمر) أمر الفرج والمخرج والهداية والكمال، حيث أنه من أعظم المقدسات الإليهة وهو ذروة العشق ففي كتاب إكمال الدين باسناده عن (يحيى بن أبي قاسم قال سألت الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) فقال المتقون شيعة علي عليه السلام، وأما الغيب فهو الحجة الغائب وشاهد ذلك قول الله تعالى (ويقولون لو لا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين).
وعند التأمل في سيرة الأنبياء والأولياء نشاهد أن من أهم أمنياتهم وأشد آمالهم هو مجيء المهدي عليه السلام الذي به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلا، وكانوا دائماً بصدد هداية الناس إلى أمره الذي هو أمر الله بعينه كما قال تعالى في توصيفهم (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)(الأنبياء، 73) ومن هذا المنطق نشاهد أن الأنبياء كانوا دائماً يذكرون ذلك الأمر ويشتاقون إليه كما صرح بذلك القرآن الكريم في مواطن عديدة عن لسان كثير منهم كما ورد عن لسان لوط (ع) "قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد"(هود،80) (وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (ع) : ما كان قول لوط: " قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْن شَدِيد" (هود 80) الا تمنيا لقوة القائم (عج)، ولا ذكر (ركن) الا شدة أصحابه، لان الرجل منهم يعطي قوة أربعين رجلا وان قلبه لاشد من زبر الحديد، ولو مروا بجبال الحديد لقطعوا لا يكفون سيوفهم حتى يرضى الله عزوجل).
وأيضاً ما ورد عن لسان شعيب (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ) (هود، 86) ففي أصول الكافي: باسناده عن ابي عبد الله (ع) قال: سأله رجل عن القائم يسلم عليه بامره المؤمنين؟ قال: لا ذاك اسم سمى الله به أمير المؤمنين (ع)، لم يسم به أحد قبله ولا يتسمى به بعده إلا كافر، قلت: جعلت فداك كيف يسلم؟ قال: يقولون السلام عليك يابقية الله، ثم قرأ: (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ).
source : abna