للإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه في غيبتيه الصغرى والكبرى رسائل وتوقيعات كثيرة يخاطب فيها عدّة من الشخصيات الشيعية، بالإضافة إلى الرسائل الخاصّة إلى نوّابه، والرسائل الجوابية المرسلة لبعض الأفراد أحياناً، والمؤسف أنّه لم يصلنا شيء من هذه الرسائل إلا عدد محدود!
رسالة الإمام المهدي (عج) إلی الشیخ المفید(ره)
ابنا: ولكن تبقى رسائل الإمام عجّل الله تعالى فرجه إلى الشيخ المفيد قدس سره والعبارات التي تضمّنتها حالة فريدة امتازت بها عن رسائله للآخرين، فلم يعهد عن الإمام عجّل الله تعالى فرجه أنّه أثنى على أحد بهذه الصورة كما حصل مع الشيخ المفيد رضوان الله عليه؛ فلو راجعتم كلّ ما وصلنا من عبارات المدح من الإمام الحجّة
صلوات الله وسلامه عليه بشأن جملة من الأفراد ـ باستثناء سفرائه الأربعة الخاصّين، ووكلائه الآخرين(2) ـ قد لا تجدون في كلّ كلمات المديح والتقريظ التي تفضّل بها الإمام بحقّ هؤلاء الأشخاص ما يرتقي لمستوى ما قاله سلام الله عليه بحقّ الشيخ المفيد قدس سره؛ وفي هذا دلالة على المقام الرفيع للشيخ قدس سره عند أهل البيت سلام الله عليهم.
الرسالة الأولى
قال العلاّمة الطبرسيّ رحمه الله: «ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة حرسها الله ورعاها في أيّام بقيت من صفر سنة عشرة وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدّس الله روحه ونوّر ضريحه، ذكر موصلُه أنّه يحمله من ناحية متّصلة بالحجاز؛ نسخته:
للأخ السديد و الوليّ الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ـ أدام الله إعزازه ـ من مستودع العهد المأخوذ على العباد
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد؛ سلام عليك أيها الوليّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ونُعلمك ـ أدام الله توفيقك لنصرة الحقّ وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق ـ أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قِبَلك، أعزّهم الله بطاعته وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته.
فقف ـ أيّدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه ـ على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله:
نحن وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا الله جلّ جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا، ومباءتكم بأمرنا ونهينا، والله متمّ نوره ولو كره المشركون.
اعتصموا بالتقيّة من شبّ نار الجاهلية يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرمِ فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرْضيّة، إذا حلّ جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جليّة، ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يُحزن ويُقلق، ويَغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمّة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يسترّ بهلاكه المتّقون الأخيار، ويتّفق لمريدي الحجّ من الآفاق ما يؤمّلونه منه على توفيرٍ عليه منهم واتّفاق، ولنا في تيسير حجّهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتّساق.
فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام.
هذا كتابنا إليك أيها الأخ الوليّ والمخلص في ودّنا، الصفيّ والناصر لنا الوفيّ، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطّنا الذي سطّرناه بما له ضمنّاه أحداً وأدّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين».
الرسالة الثانية
وورد على الشيخ المفيد كتاب آخر من قبله صلوات الله عليه يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة 412 هـ ؛ نسخته:
من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليك أيها الناصر للحقّ، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو إلهنا وإله آبائنا الأولين، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته الطاهرين.
وبعد؛ فقد كنّا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك الآن من مستقرّ لنا ينصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر و لا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأ منّا يتجدّد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفّقك لذلك برحمته.
فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام ـ أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لدمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظّم من رجس منافق مذمّم مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليتّقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهيّ عنه من الذنوب.
ونحن نعهد إليك أيّها الوليّ المخلص المجاهد فينا الظالمين ـ أيّدك الله بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين ـ أنّه من اتقى ربّه من إخوانك في الدين، وأخرج مما عليه إلى مستحقّيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلّة، ومن بخل منهم بما أعاره الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته.
ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم؛ لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتّصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم، وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها:
«هذا كتابنا إليك أيها الوليّ الملهم للحقّ العليّ بإملائنا وخطّ ثقتنا، فاخفهِ عن كلّ أحد، واطوِهِ، واجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا ـ شملهم الله ببركتنا إن شاء الله ـ الحمد لله والصلاة على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين»(4).
أقول: إنّه لشرف كبير ومصدر فخر واعتزاز أن يمثل الشخص بين يدي الإمام ويكون في حضرته؛ يزوره عياناً ويتشرّف برؤيته وتقبيل يده. ولكن ـ اعلموا أيّها الإخوان ـ إنّ هذا ليس هو الواجب، فإنّه لم يبلغنا عن الشيخ المفيد أنّه التقى بالحجّة ـ ولا يُعرف ما هو السبب، وربما التقاه ولم يصلنا خبره ـ ولكنّه مع ذلك نال هذه الأوسمة منه سلام الله عليه.
تدبّر في بعض كلمات الرسالة
لقد ذكر الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه في خطابه للشيخ المفيد كلمة الإهمال فقال: ـ غير مهملين ـ ولم يقل: غير تاركين، ذلك أنّ هنالك فرقاً بين الإهمال والترك من جهة القصد، فالترك أعمّ وأشمل، أي يكون بقصد وبلا قصد؛ أمّا الإهمال فلا يكون إلاّ عن قصد(5).
ومن ثمّ يكون المعنى، إنّنا إذا لم نرعكم، فالإهمال من جانبكم وليس من جانبنا.
وقال عجّل الله تعالى فرجه: ـ ولا ناسين لذكركم ـ نافياً أن يكون النسيان بشكل عام ومطلق، ممّا يعني أنّه يذكر الجميع دائماً وفي كلّ مكان، ولولا ذلك لنزل البلاء بهم.
فليس من شك في أنّ الإمام المعصوم سلام الله عليه هو المصداق الأكبر لخليفة الله تعالى في أرضه، قائماً كان أو قاعداً، حيّاً كان أو ميتاً، حاضراً كان أو غائباً، فهو إمام على أيّة حال، ويمارس مهامّه ومسؤوليّاته الموكلة إليه.
والإمام المهدي عجل الله ظهوره ليس استثناءً عن هذه الحقيقة، ولا غيابه يدفع به إلى الانزواء والقعود عن أداء دوره الأخطر، وهو دور قيادة المؤمنين في عصر الغيبة المؤلم عليه وعلى شيعته وإلا لكان الإشكال صادقاً وفي محلّه؛ حول الحكمة من ولادته وغيبته.
ولطالما تناهى إلى أسماع المؤمنين ما يجعلهم على ثقة تامّة واطمئنان كامل بما يثبت المرّة بعد الأخرى وجوده المبارك سلام الله عليه ودوره القيادي للأمّة المؤمنة، فكما أنعم على الشيخ المفيد رضوان الله عليه بالمراسلة والتوجيه وكشف المحجوب عن بصيرته، كذلك قام سلام الله عليه بما يتنبّه إليه هذا العالم المرجع أو ذاك ـ باعتبارهم نوّابه الشرعيين وفق النيابة العامّة ـ وهناك من القصص الموثقة والحوادث المشهودة ما يفوق حدَّ الإحصاء عن تفضله وإكرامه للشيعة وعلمائهم.
ولا عجب في ذلك، لأنه غير مهمل لذكرهم ولا ناسٍ لأمرهم. فهو
يمارس توجيهه المأذون له فيه حتى في القضايا الفردية البادية البساطة.
فممّا نقله السيد الوالد رحمه الله قوله:
كنت مواظباً على قراءة دعاء الندبة وحدي في سرداب الغيبة في سامراء المشرّفة. وذات يوم كعادتي كنت أقرأه، ولمّا بلغتُ عبارة: وعرجت به إلى سمائك قرأتها بعبارة «وعرجت بروحه إلى سمائك» ـ حسب بعض النسخ ـ وهذا يعني تغيير المعنى تماماً، حينها سمعت بأذني أنّ هناك من يصحّح لي ما قرأته حسب تلك النسخة، ليتمّ المعنى على أنّ المعراج النبوي كان روحياً وبدنياً، وأدركت في الساعة أنّ المتحدّث إليّ ليس إلاّ ولي الأمر الإمام الحجّة عليه الصلاة والسلام.
وقد وقع نظير هذا الفعل من الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه لعدد من العلماء وفي أماكن مختلفة، مما يشير إلى أنّ الإمام يأخذ بأيدي نوّابه الحقيقيّين إلى جادّة الصواب حتى في الحالات الفردية.
أما قيادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه لشيعته ومحبّيه؛ فقد أضحت عبر ما ثبت من الوقائع والكرامات المهدوية ما يفوق العدّ والتصنيف، إذ أنقذهم
سلام الله عليه ولا يزال ينقذهم من أشكل المشكلات وأعقد الأزمات.
وقطرة من ذلك؛ ما روي عمّا أصبح يعرف فيما بعد بحادثة (مسجد الرمّانة) في البحرين، وهو المسجد الذي لا يزال قائماً فيها حتى الآن. إذ روي أنّ الوزير الأوّل لأحد ولاة البحرين ـ إبّان فترة رزوحها تحت سيطرة الاستعمار البرتغالي ـ كان ينصب العداء لأهل البيت سلام الله عليهم ومحبّيهم؛ فاختلى ذات يوم بالوالي الذي كان يشاركه بشيءٍ من العداء للشيعة، وأغراه في إلحاق الأذى بالشيعة عبر مؤامرة وسوس له الشيطان بها، إذ جاء برمّانة يبدو منقوشاً عليها عبارة: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ خلفاء رسول الله..» وتحدّاهم بأن يأتوا ببرهان أقوى حجّة من هذه الرمّانة تؤيّد مسلكهم أو يضطرّهم إلى الرجوع عن مذهبهم، أو دفع الجزية كما الكفار، أو قتل رجالهم وسبي نسائهم وأولادهم.
ولكنّ الإمام المهدي صلوات الله عليه أنقذ محبّيه وشيعته من هذه المؤامرة والخطر الداهم، عبر إخباره أحد الفضلاء الأتقياءـ بعد أن أعيت الشيعة وضاقت بهم السبل ـ بما قام به الوزير الناصبي من وضع قوالب نقشت عليها العبارات المذكورة حول الرمانة، لتبدو طبيعية في حال نموّها في الشجرة، بل وأنبأه الإمام بمكان تلك القوالب التي أخفاها الوزير في بيته، وقد قتله الملك بعد اتضاح تفاصيل المؤامرة وأعلن اعتناقه المذهب الحقّ والولاية للأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين(6).
ومن مصاديق قيادته سلام الله عليه؛ اهتمامه بتوفير الإجابات على المسائل العقائدية والشرعية التي يتحيّر فيها العلماء والفقهاء في بعض الأحيان، ومن ذلك ما وقع للعالم التقيّ الفاضل المولى المقدّس الأردبيلي رضوان الله عليه، فقد كان ذا كرامات نادرة لرفيع منزلته لدى الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم. فحيث كان قد فكّر في بعض المسائل وقد أغلقت عليه، أن يذهب إلى الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه؛ علّه يلطف بالجواب عليه. وفي هذه الأثناء وبعد طول التماس أوكله إلى إمام العصر والزمان صلوات الله عليه باعتباره الإمام الموكول له أمر قيادة الأمّة والعلماء، فقصد مسجد الكوفة وسأل الإمام عجل الله تعالى فرجه عن مسائله كلّها، فأجابه بكلّ لطف وإكرام(7).
أقول: هناك الكثير جداً من الشواهد التي لا تقبل الردّ ولا تحتمل الشكّ، في أنّ إمام العصر والزمان سلام الله عليه هو صاحب اليد الطولى ـ بإذن الله تعالى ـ في المحافظة على كيان الدين والتشيّع وسلامة الشيعة من كثير من الأخطار، ولولا ألطافه وكراماته ومكرماته لساخت الأرض بأهلها ولتناوش الأعداءُ المحبّين والموالين لأهل بيت العصمة والطهارة من كلّ حدب وصوب.
وليست رسالته عجل الله تعالى فرجه للشيخ المفيد إلا نموذجاً واحداً ـ وإن كان بارزاً ومميّزاً ـ لرعايته سلام الله عليه لعلماء شيعته الذين يقرّون جميعاً بحاجتهم إلى الألطاف المهدوية أكثر من حاجتهم إلى الماء والهواء(8).
إنّ الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه هو إمامنا الحيّ المنتظر، ومنذ ذاك اليوم الذي غاب فيه - في ربيع الأول عام 260هـ.- وإلى حين فرجه الشريف، والشيعة في ترقّب وانتظار؛ مشرئبّة أعناقهم لوقت ظهوره المبارك، لاعتقادهم بأنّه البقية الخاتمة لحجج الله على خلقه، وأنّ جميع أمورهم موكلة إليه. وبالطبع، فهو إمام الممكنات كلّها، وهذا مبحث من مباحث أصول الدين تمّت مناقشته باستفاضة في مظانّه، كما نوقشت الأدلّة الخاصة به، وقد وردت روايات عن الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم في هذا الصدد(9).
كيف تلقـّى الشيخ المفيد رسائل الإمام؟
طبقاً للآثار، فقد تلقّى الشيخ المفيد ثلاث رسائل من الإمام، وصلتنا اثنتان منها، بينما يُعتقد بتلف الثالثة أثناء حوادث حرق المكتبات. إلاّ أنّ السيّد بحر العلوم(10) يثير مسألة جديرة في المقام في كتابه (الفوائد الرجالية) وهي: كيف تسلّم الشيخ المفيد الرسالة من الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه مع أنّه لم يتشرّف بلقائه عجّل الله فرجه ولم يكن هناك نائب للإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه في ذلك الوقت ليسلّمها إليه؟
فيقول: وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى مع جهالة حال المبلّغ ودعواه المشاهدة المنفية بعد الغيبة الكبرى.
ويجيب رحمه الله بقوله: ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله وأولياؤه بإظهاره لهم، وإنّ المشاهدة المنفية: أن شاهد الإمام ويعلم أنّه الحجة سلام الله عليه حال مشاهدته له، ولم يعلم من المبلّغ ادّعاؤه لذلك. وقد يمنع ـ أيضاً ـ امتناعها في شأن الخواصّ، وإن اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار، ودلالة بعض الآثار(11).
عظمة الشيخ المفيد
تستوقفنا هنا قضيّة مهمّة جدّاً وهي أنّ الإمام المهدي عجّل الله تعالى فرجه لم يخصّ أحداً غير الشيخ المفيد رحمه الله بمثل هذه الكلمات التي تحمل معاني العرفان بالإخلاص والولاء.
أجل، لا غرابة في أن يشهد فرد بصلاح فرد آخر وحسن سيرته، ولكن عندما تكون هذه الشهادة صادرة عن إمام معصوم يصبح الأمر مختلفاً تماماً، إنّها شهادة ترجح كفّتها على الدنيا وما فيها، لأنّ هذه الشهادة خالدة في ضمير العقيدة، لا تفنى ولا تزول مع الأيام، ولهذا وغيره نرى أنّ الشيخ المفيد رحل عن هذه الدنيا منذ قرابة الألف عام لكن ذكراه ما زالت حيّة تتجدّد على مرّ العصور.
واللافت للنظر في المقام أيضاً أنّه رغم المكانة الجليلة والمنزلة السامية التي حظي بها الشيخ المفيد إلا أنّي لم أجد في موضع ما أنّه تشرّف بلقاء الإمام المهدي أو كتب رسالة للإمام عجّل الله تعالى فرجه ولكن حيث إنّه أدّى واجباته على أتمّ ما كان ينتظره منه الإمام، فقد استحقّ عناية الإمام عجّل الله تعالى فرجه ولطفه بجدارة، حتى أنّ الإمام نفسه خاطبه من خلال مراسلته له والتي ربما يظنّ الظانّ منها رغبته عجّل الله تعالى فرجه بالحديث إليه.
منزلة الشيخ المفيد عند العامّة
كان مجلس درس الشيخ المفيد يزخر بفطاحل علماء الخاصّة والعامّة(12)، كما اشتهر عنه أنّه حظي بمكانة رفيعة جعلت حتى أعداءه من الناصبة يثنون عليه لما كان عليه من خطر المكانة ونيافة الإمامة، فكان بحقّ نوراً على علم استضاء به القاصي والداني، الموالف والمخالف.
فمن علماء العامّة الذين ما وسعهم ـ رغم تعصّبهم ـ إلاّ الثناء عليه الشيخ عبد الله اليافعي(13) صاحب كتاب «مرآة الجنان» المليء بالدسّ(14). فرغم تحامله على الشيعة وعلمائهم إلاّ أنّه لم يتمالك نفسه في مدح الشيخ المفيد عند تعرّضه لحوادث سنة 413 للهجرة.
أجل؛ لقد قال بعض علماء العامّة بعد رحيل الشيخ المفيد: «أراحنا الله منه»، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فأقام مراسم الاحتفال والسرور وتزيين جدران داره بهذه المناسبة، ولكنهم أيضاً اعترفوا له بالفضل والمنزلة.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) هو محمد بن محمد بن النعمان، الشهير بالشيخ المفيد وابن المعلم ـ كان والده معلماً في تلّ العكبري (على مسافةٍ من بغداد) ـ ولد عام 336هـ وتوفّي عام 413هـ. فقيه ومتكلّم ومحدّث إماميّ كبير، من تلامذة ابن قولويه والشيخ الصدوق وأبي غالب الرازي، تتلمذ على يديه الكثير من العلماء منهم: الشريف الرضي، الشريف المرتضى، الشيخ الطوسي، وسلار بن عبد العزيز الديلمي. اشتهر الشيخ المفيد بسرعة البديهة، ولمناظرته مع القاضي عبد الجبار المعتزلي قصة معروفة.
ترعرع في أحضان العلم والعقيدة الحقّة حتى بلغ، فكان شابّاً نشيطاً. انتقل به والده إلى بغداد لتلقّي الدروس، فارتقى سلّم العلم حتى بلغ منزلة عظيمة ومكانة اجتماعية رفيعة يشهد لها مستوى التشييع المهيب الذي شهدته جنازته في بغداد رغم أنّ هذه المدينة لم تكن ذات أغلبية شيعية حينذاك، فقد روي أنّه كان تشييعاً لم تر بغداد نظيراً له في ذلك الوقت، وكانت جنازته مشهورة، وشيّعه ثمانون ألفاً من الشيعة.
راجع ترجمته في ريحانة الأدب، ج5، ص361- 365؛ والأعلام: ج7، ص21 (ط. دار العلم للملايين ـ بيروت)؛ والذهبي في سير أعلام النبلاء: ج17 ص 344 رقم 213 (ط. 9 مؤسّسة الرسالة ـ بيروت).
(2) إنّ الوكلاء هم غير السّفراء أو النوّاب الأربعة، فقد سمّي غير هؤلاء الأربعة وكلاء، وقد أطلقت النيابة الخاصّة في زمن الغيبة الصغرى على من تمثّلت بهم السفارة، وهم النوّاب أو السفراء الأربعة: عثمان بن سعيد العمري، وأبو جعفر محمد بن عثمان العمري، وأبو القاسم الحسين بن روح النوبختي، وأبو الحسن علي بن محمد السمّري. والنيابة العامّة في زمن الغيبة الكبرى أطلقت على الفقهاء من بعد ذلك. كما كان للإمام وكلاء محدّدون، كمَن كاتبوا الإمام سلام الله عليه وأجابهم، وثمّة بعض الكتب التي كتبها الإمام ابتداءً لبعض أصحاب أبيه وجدّه عليهم السلام في نفس الفترة من زمن الغيبة الصغرى، وهؤلاء هم غير النوّاب أو السفراء قطعاً.
(3) على ما نقله العلامة الطبرسي رحمه الله في الاحتجاج.
(4) الاحتجاج: ج2 ص 318 ـ 325، توقيعات الناحية المقدّسة (ط. دار النعمان ـ النجف الأشرف). ونقلهما جمهرة عظيمة من أعلام الأمّة وثقاتها معتمدين عليهما قابلين لهما، كالعلاّمة المجلسي والمحدّث البحراني والشيخ أبي علي الحائري والسيد بحر العلوم والسيد الخونساري والمحدّث النوري والمحدّث القمي والسيد محمد الشيرازي وآخرون قدّست أسرارهم.
ونقل الشيخ البحراني في لؤلؤة البحرين: ص364، عن المحقق الجليل، ابن بطريق الحلي في رسالته (نهج العلوم) أنّه - التوقيع المبارك- ترويه كافّة الشيعة وتتلقّاه بالقبول.
وحكى عنه أيضاً: أن سيّدنا ومولانا صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه كتب إليه ثلاثة كتب، في كلّ سنة كتاباً، وفقد الثالث.
ومثل ذلك يكفي سنداً للحجية.
(5) الهمل: السدى... وما ترك الله الناس هملا، أي: سدى بلا ثواب و لا عقاب... وفي حديث طهفة: ولنا نَعَم هَمَل أَي مهمَلة لا رِعاءَ لها ولا فيها من يُصلحها ويَهديها فهي كالضَّالة. وفي المثل: اختلطَ المَرْعيُّ بالهَمَل، و المَرْعيُّ: الذي له راعٍ. وأَهْمَل أَمرَه: لم يُحْكِمْه. وأَهْمَلْت الشي ء: خلَّيت بينه وبين نفسه. لسان العرب لابن منظور: ج11 ص 710، مادّة همل (ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت).
(6) بحار الأنوار:ج52، ص178ـ 180، باب نادر فيمن رآه سلام الله عليه قريباً من زماننا.
(7) بحار الأنوار: ج52، ص159 ـ 180، الباب 23 فيمن رآه سلام الله عليه.
(8) يراجع بهذا الصدد الكتب الخاصة التي دوّنت لقاءات الإمام عجّل الله فرجه لجملة من العظماء الأتقياء والفقهاء، ومنها الجزء (52) من موسوعة البحار، وكتباً فارسية
المتن دوّنها كبار الكتّاب ونقلوا فيها مئات اللقاءات والكرامات التي تواترت عن ألسن الفقهاء والعلماء ممن رأوه سلام الله عليه أو نقلوا أخبار كراماته وألطافه بهم.
(9) لقد نهض العلامة المجلسي رحمه الله بجمع الروايات المرتبطة بالموضوع في كتابه (بحار الأنوار) في باب أصول الدين، وكذلك في أبواب أحوال المعصومين سلام الله عليهم، منها ما روي عن: الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، عن فرات بن إبراهيم الكوفي عن محمد بن أحمد بن علي الهمداني، عن العباس بن عبد الله البخاري، عن محمد بن القاسم بن إبراهيم، عن أبي الصلت الهروي، عن الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما خلق الله عزّ وجل خلقاً أفضل مني، ولا أكرم عليه مني، قال علي عليه السلام: فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال صلى الله عليه وآله: يا علي إن الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، وفضّلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك ياعلي وللأئمة من بعدك، وإنّ الملائكة لخدّامنا، وخدّام محبّينا، يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأنّ أول ما خلق الله عزّ وجل خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده وتحميده ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً، استعظموا أمرنا، فسبّحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون، وأنّه منزّه عن صفاتنا، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا، ونزّهته عن صفاتنا، فلما شاهدوا عظم شأننا، هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله، وأنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه، أو دونه، قالوا: لا إله إلا الله، فلما شاهدوا كبر محلّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أنّ الله أكبر من أن ينال عظم المحلّ إلا به، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزّ والقوّة، قلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله. فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا: الحمد لله، لتعلم الملائكة ما يحقّ لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته، فقالت الملائكة: الحمد لله، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده. ثم إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراماً...» بحار الأنوار: ج 81 ص 345. انظر أيضاً: علل الشرائع: ج 1 ص 5 ح1 باب7 ـ العلة التي من أجلها صارت الأنبياء والرسل والحجج أفضل من الملائكة (ط. المطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف)؛ الفصول المهمة: ج1 ص 409 ح10 باب 101ـ أن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الاثني عشر سلام الله عليهم أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم. حلية الأبرار: ج1 ص 9 ح1 باب1 ـ في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله ؛ مستدرك سفينة البحار: ج 8 ص 215 الروايات في أن محمداً وآله صلوات الله وسلامه عليهم أفضل خلق الله تعالى ؛ كما ذكره القندوزي في ينابيع المودّة: ج 3 ص 377 باب 93 في ذكر خليفة النبي صلى الله عليه وآله مع أوصيائه سلام الله عليهم.
(10) هو السيد محمد مهدي بن مرتضى بحر العلوم(115- 1212هـ) أحد تلامذة الشيخ يوسف البحراني والسيد حسين القزويني والأغا محمد باقر هزار جريبي، رحل عن الدنيا وله من العمر (57) عاماً ودفن إلى جوار الشيخ الطوسي في النجف الأشرف. راجع ريحانة الأدب: ج1، ص234- 235.
(11) الفوائد: ج3 ص 320.
(12) وصف مجلسه ابن كثير الدمشقي، قائلاً: وكان مجلسه يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف. راجع البداية والنهاية: ج12 ص 19 ضمن أحوال سنة 413 (ط. دار إحياء التراث العربي ـ بيروت).
(13) عبد الله بن أسعد اليافعي (698- 768هـ) أحد مشايخ الصوفية، شافعي المذهب. (ريحانة الأدب: ج6، ص386- 387).
(14) ومما يعكس تعصّبه ما أورد في كتابه: أنه يطلق الشيعة على كربلاء اسم حائر؛ لأنّهم يقولون: «أثناء محاولة السلطات العباسية إغراق قبر الإمام الحسين سلام الله عليه وصل الماء إلى حافّة القبر ثم غيّر مسيره بعيداً عنه، ولذلك قيل: حار الماء وتوقّف عند القبر». ثم يعلّق (اليافعي) في معرض روايته لهذا الخبر ويسخر من الشيعة متسائلاً: لا أدري هل الماء مكلّف كما البشر، أو هو كالملائكة له إحساس وشعور؟
ولكنّه حين يتعرض لما يسمّيه كرامات أحمد بن حنبل يقول: في إحدى السنوات طغى ماء دجلة وأغرق جميع المنازل، لكنه عندما وصل إلى قبر أحمد بن حنبل انحسر ولم يقترب منه، ليجدوا بعد ذلك حصيراً بالقرب من القبر لا تزال الغبرة تعلوه ولم تصله الرطوبة أبداً (انتهى).
وهذا لعمري، من أغرب المفارقات، فحينما يتعلّق الأمر بالإمام الحسين سلام الله عليه يصبح انقياد الماء لإرادة الله تعالى مثيراً للسخرية عند اليافعي، ولكنه مع أحمد بن حنبل يصبح عاقلاً ذا إحساس وشعور!!
source : www.abna.ir