قع حرم السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) فی قلب المدینة المقدسة قم، على مساحة واسعة من الأرض تقدر بثلاثة عشر ألفاً وخمسمائة وسبعة وعشرین متراً مربّعاً کما جاء فی بعض التحقیقات(1)، وتحیط به معاهد العلم وأماکن العبادة، فیتصل به من جهة الشمال مسجدان، أحدهما یعرف بمسجد (بالا سر) أی فوق الرأس، والآخر هو مسجد الکبیر المعروف بالمسجد الأعظم، الذی تمیّز منذ تأسیسه عام 1373هـ بأمر المرجع الدینی الکبیر زعیم الشیعة الإمامیة آیة الله العظمى السید البروجردی (قدس سره) وتحت إشرافه، إلى یومنا هذا ـ إضافة إلى إقامة الجماعات فیه ـ بأنّه معهد للدراسات الدینیّة العلیا، وملتقى الآلاف من الطلاب فی موسم الدراسة من مختلف أنحاء العالم، حیث یتلقون العلم فی الأصول والفقه والتفسیر والحدیث والرّجال.
ویعدّ الیوم أکبر مجمع علمی یضمّ أکبر عدد من الطلاب یقصدونه صباحاً ومساءً، حیث تلقى فیه الدروس بانتظام على مدى تسعة أشهر من السنة تقریباً هی موسم الدراسة من کل عام.
وقد شیّد المسجد الأعظم على مساحة من الأرض تقدر بأحد عشر ألف متر مربع، تقوم فوقه قبّة عظیمة مزیّنة بالکاشی من الداخل والخارج، ولعلّها أعظم قبّة فی إیران، وله مئذنتان عظیمتان هما أعلى مئذنتین فی قم، ومئذنتان صغیرتان وبناء لساعة کبیرة، وقد أنفق على بنائه وبناء سائر مرافقه أکثر من سبعة ملایین توماناً.(2)
وینفتح الحرم الشریف من جهته الجنوبیّة على فناء واسع یعرف بالصحن الکبیر یحوطه سور له أربعة أبواب، ویحوی فی أطرافه الثلاث عدداً کبیراً من الحجرات هی أشبه شیء بالفصول الدراسیة، حیث تلقى فیها الدروس المختلفة، کما أنّها تضمّ عدداً کبیراً من قبور العلماء والمؤمنین.
وأمّا من جهة الغرب فیتصل به مسجدان أو ثلاثة تمتلئ بحلقات الدروس أیضاً، والتی لا تنقطع صباحاً ومساء إلا فی أوقات الصلاة، حیث تقام فیها الجماعات.
وأمّا من جهة الشرق فتتصل به مدرستان کبیرتان ـ الفیضیة ودار الشفاء ـ تشتملان على عدد کبیر من الغرف یسکن الطلاب ببعضها، ویدرسون فی بعضها الآخر.
ویتوسط بین الحرم وبینهما فناء یعرف بالصحن الصغیر، له ـ من جهة الجنوب ـ مدخلان ینفتحان على الصحن الکبیر، ومدخلان ـ من جهة الشمالیة ـ ینفتحان على ساحة المسجد الأعظم، وفی زوایاه وجهته الشرقیّة عدد من الغرف.
وأما جهته الغربیة ففیها الإیوان الذهبی الذی یتصل بالرّواق المتصل بالضریح المقدس.
وإنّک لتجد هذا الحرم المقدس کلّ یوم من قبل طلوع الفجر وإلى ما بعد منتصف اللیل فی حرکة دائبة مستمرة، والناس یغدون ویروحون بین متعبّد، وزائر، ومصلٍّ، وقارئ للقرآن، وطالب علم.
لذلک کان هذا الحرم الشریف قلب هذه المدینة النابض، ومعلمها البارز، ومهوى الأفئدة.
ویضمّ الحرم الشریف عدداً کبیراً من قبور العلماء والأولیاء والصالحین، دفن أصحابها بجوار السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام)، کما دفن فی داخل الحرم عدد من العلویات وغیرهن، وکانت قبورهنّ متمیّزة تحت قبّتین، وأمّا الیوم فیضمهنّ ضریح واحد تحت قبّة واحدة، ولا یتمیز من تلک القبور إلا مرقد السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) وقد وضع علیه صندوق خشبی.
وذکر صاحب تاریخ قم أنّ القبّة الأولى تضمّ قبر السیدة المعصومة (علیها السلام)، وقبر أم محمد بنت موسى أخت محمد بن موسى (علیه السلام)، وقبر أم إسحاق جاریة محمد بن موسى، وتضمّ القبّة الثانیة قبر أم حبیب جاریة أبی علی محمد بن أحمد بن الرضا (علیه السلام)، وکانت هذه الجاریة هی والدة أم کلثوم بنت محمد، وقبر أم موسى بنت علی الکوکبین وقبر میمونة بنت موسى أخت محمد بن موسى (علیه السلام).(3)
وقال المحدّث القمی فی منتهى الآمال: واعلم أنّ دفن جمع من البنات الفاطمیّات والسادات الرضویّة فی بقعة فاطمة (علیها السلام)، کزینب، وأم محمد، ومیمونة بنات الإمام الجواد (علیه السلام)، ورأیت فی نسخة من أنساب المجدی أنّ میمونة بنت موسى بن جعفر (علیه السلام) دفنت مع فاطمة المعصومة (علیها السلام)، ومن المدفونین أیضاً بریهة بنت موسى المبرقع، وأم إسحاق جاریة محمد بن موسى، وأم حبیب جاریة محمد بن أحمد بن موسى رضوان الله تعالى علیهنّ، وکانت هذه الجاریة والدة أمّ کلثوم بنت محمد.(4)
هذا، وقد دفن أربعة من سلاطین إیران من السادة الصفویة الموسویّة فی حرم السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام)، فإنّ المحدث القمّی ـ فی منتهى الآمال ـ بعد أن ذکر الشاه عباس الأول وأنّ وفاته فی لیلة 24 من شهر جمادی الأولى سنة 1038هـ، قال: وجاء بعده حفیده الشاه صفی الأول ابن ابنه صفی میرزا الشهید، وحکم أربع عشرة سنة، وتوفی فی الثانی عشر من شهر صفر سنة 1053هـ، ودفن بقم، وقبره فی جهة القبلة من الروضة المشرّفة لفاطمة بنت الإمام موسى الکاظم (علیهما السلام) وأصبح الیوم داخل الروضة فی المکان المخصّص لدخول النساء لزیارة السیدة المعصومة (علیها السلام)..، وجاء بعده ابنه الشاه عباس الثانی وهو فی التاسعة من عمره وحکم 26 سنة، وتوفی بدامغان عند رجوعه من مازندران إلى أصفهان فی سنة 1078هـ، ونقل جثمانه إلى قم، ودفن إلى جوار الروضة المقدسة لفاطمة بنت الإمام الکاظم (علیهما السلام) فی مساحة واسعة قرب أبیه.
وجاء بعد الشاه صفی الثانی فی السادس من شهر شعبان سنة 1078هـ وألقى المحقّق الخونساری فی مسجد جامع شاهی خطبة فی تأییده، ولقب بشاه سلیمان، وکان عادلاً، وهو الذی عمّر قبة الإمام الرضا (علیه السلام) فی سنة 1086هـ وزاد فی تذهیبها، وتوفی سنة 1105هـ، ودفن فی مکان یقرب من قبر الشاه عباس، وانتقال الملک إلى ابنه الشاه سلطان حسین وهو آخر سلاطین الصفویة.. وذکر قصة مقتله فی أصفهان ثم قال: ولکن الناس حملوا جثمان السطلان حسین بعد مدّة من الزمان وجاءوا به إلى قم، ودفن فی جوار عمّته فاطمة المعصومة (علیها السلام) جنب قبر أبیه.(5)
وقد ذکر أن السطلان فتح علی شاه القاجاری الذی هیأ تراب قبره من تراب أرض کربلاء، مدفون فی إحدى غرف الصحن الصغیر، ومن آثاره تذهیب قبّة حرم السیدة المعصومة.(6)
ودفن أیضاً محمد شاه قاجار، وهو أحد سلاطین إیران.
وممّن دفن من الوزراء والأعیان: علی أصغر أتابک، الذی کان الصّدر الأعظم لإیران فی زمان ناصر الدین شاه، ومظفر الدین شاه، وهو الذی بنى الصحن المعروف بالصحن الأتابکی.
ومنهم: کامران میرزا بن ناصر الدین شاه، الذی کان نائب السّلطنة وحاکم طهران.
ومنهم: عین الملک، صهر محمد شاه قاجار الذی یقال أنّه تقلّد الوزارة.
ومنهم: فرخ أمین الدولة، وزیر ناصر الدین شاه.
ومنهم: عبد الصّمد عزّ الدولة ابن محمد شاه الثانی.
ومنهم: الملک المنصور شعاع السلطنة ابن مظفر الدین شاه قاجار حاکم شیراز.
وغیرهم ممن حظی بالدفن فی جوار الحرم المقدس وهم کثیر.(7)
وذلک یکشف عن أن سلاطین الدنیا وملوکها وأمراءها وإن خضعت لهم البلاد أو أخضعوها ـ بحقّ أو بغیره ـ إلا أن سلطان الآخرة وملکها بید غیرهم، ومثلهم فی ذلک مثل سائر الناس، ولذا فإنّ بعضهم یتوسل إلى لطف الله ورحمته بجعل مدفنه فی جوار الأبرار والصالحین.
ولا زال الدفن فی هذه البقعة الطاهرة أمنیة تراود کثیراً من العلماء والمؤمنین للحظوة بهذا الجوار المقدس، ولا شکّ أن لذلک آثاراً عظیمة کما أشارت إلیه النصوص الواردة فی شأن القبور والدفن فی جوار الأولیاء.
هذا، وقد مرّ حرم السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) فی عمارته بمراحل عدیدة حتى بلغ ما هو علیه الیوم من الجلالة والقدسیة والعظمة.
وقد رد فی بعض الروایات أنّه لما توفیت السیدة فاطمة (علیها السلام) ودفنت فی روضتها، قام موسى بن خزرج ببناء سقیفة من البواری على قبرها، إلى أن بنت زینب بنت محمد بن علی الجواد (علیه السلام) قبّة علیها.(8)
وذکر الباحث الشیخ علی أکبر مهدی پور مختصراً عن مراحل تطوّر عمران هذا الحرم الشریف فقال ما ترجمته:
بعد دفن کریمة أهل البیت بنى موسى بن الخزرج المظلّة ـ سقیفة ـ من القصب فوق القبر الشریف.
بعد ذلک بنت زینب بنت الإمام الجواد (علیه السلام) قبّة من الآجر فوق القبر.
فی سنة 413هـ زین الحرم المطهّر بالآجر الملوّن النفیس.
فی سنة 529هـ أسّست قبّة جدیدة.
فی سنة 592هـ جدّد بناء القبّة المطهّرة.
فی سنة 1218هـ تمّ تذهیب القبّة المطهّرة.
فی ذلک التاریخ زین سطح القبّة بـ12000 قطعة من الآجر المذهب.
فی سنة 1275هـ صنع الضریح الفضّی.
فی سنة 1285هـ أسّست مآذن الإیوان (الشرفة) الذهبی.
فی سنة 1301هـ ذهّبت هذه المآذن.
فی سنة 1292 هـ صنع الباب المنقوش للرّوضة المطهّرة.
فی سنة 1303هـ أسّس الصّحن الجدید.
فی سنة 1306هـ صنع الباب الفضّی للحرم المطهّر.(9)
وجاء فی بعض التحقیقات: وأقام أبناء سعد الأشعری على قبرها خیمة من الحصیر المصنوعة من القصب، إلى أن جاءت زینب الإمام الجواد (علیه السلام) وبنت على القبر قبّة هی أول قبّة تقام على ذلک القبر، وکان للبناء باب صغیر إلى جهة النّهر الذی یفصل بین شطری قم الآن.
واستمرّ الحال على هذا إلى سنة 350هـ حیث جاء زید بن أحمد بن بحر الأصفهانی وبدّل ذلک الباب الصغیر بباب أکبر منه.
وفی عهد طغرل السلجوقی (429-465هـ) هدمت القبّة الصغیرة، وبنی بدلاً عنها قبّة أخرى منها وأعلى وأفخم، وکان الذی قام بهذا العمل الأمیر أبو الفضل العراقی من أمراء طغرل، واستمرّ الحال على هذا فکان یتجدّد بناء المرافق والملاحق للمزار من دون أن یتجدّد بناء القبّة إلى زمان الصفویّة حیث بدأت التغییرات والتجدیدات فی عهدهم بصورة أوسع، فهدمت القبّة السلجوقیّة فی سنة 925هـ وبنی مکانها قبّة أعلى وأفخم وأحسن منها، تقوم على ثمانیة أضلاع، وکانت مزیّنة من الخارج بالکاشی، وأمّا من الداخل فقد کانت منقوشة بالذهب واللاّزورد، وکان الذی قام بهذا العمل امرأة اسمها (شاه بیگم بنت عماد بیک) وکانت هی امرأة الشاه إسماعیل الصفویّ أول الملوک الصفویّة، وهذه القبّة باقیة حتى الآن على المرقد الشریف بتغییرات فی داخل القبة وخارجها، ولم یکن هناک إیوان ولا صحن ولا وضع ضریح من الداخل.
واستمرّ الحال على هذا إلى زمان الصفویّة حیث بدأت التغییرات والتجدیدات من عهدهم وبالتحدید من سنة 906هـ.
وفی سنة 925هـ بنى شاه إسماعیل أو امرأته الإیوان الشمالی المتصل بالصّحن القدیم، وزیّنه بالکاشی (المعرّق) وجعله المدخل الوحید للحرم، کما أنّه ـ أی شاه إسماعیل ـ قد وضع الأساس للصحن القدیم، وفی سنة 950هـ بنى الشاه طهماسب ضریحاً على المرقد المطهّر وکان من الکاشی، وفی سنة 1077هـ بنى شاه سلیمان الصفوی صحن النساء فی الجهة الجنوبیة من الحرم، وأصبح هذا الصحّن طریقاً خاصّاً لمقبرة الشاه سلیمان، والشاه عباس، والشاه سلطان حسین، إذ من المعلوم أنّ مدخل هذه المقبرة کان من هذا الصّحن فقط.
هذا، وقد وضع الشاه عباس على ذلک المرقد المطهّر الذی کان قد زیّن بالکاشی قفصاً من الفولاذ الأبیض، وکان لإتقان صنعه بحیث أوجب أن یظن الرّحالة المشهورة (تاورینه) أنّه من الفضّة.
کما أنّ مرتضى قلیخان أحد رجال الدولة الصفویّة قد جدّد بناء إیوان الحرم، وبعد عهد الصفویّة وبالتحدید فی سنة 1218هـ رفع الکاشی عن القبّة ووضع بدلاً عنه لبنات من الذهب، وفی سنة 1236هـ بنى مسجد فوق الرأس، وفی سنة 2166هـ جدّد بناء إیوان الشاه إسماعیل، وفی ذلک الوقت أیضاً وسّع الصحن العتیق، وبنى من الجهة الشمالیة منه مئذنة.
وفی سنة 1221هـ فرشت أرض الحرم وجدرانه بالرّخام کما زیّن الضّریح بالذّهب، ووضع أول باب ذهبی فی الضلع الشمالی للرواق المتصل بإیوان الذهب الشمالی.
وفی سنة 1215هـ زین داخل القبّة بالنقوش البارزة والمرایا والکتابات الجمیلة، وفی سنة 1276هـ زیّن إیوان الشاه إسماعیل بلبنات الذّهب، وفی سنة 1275هـ ألبس الضریح الفولاذی بالفضّة وزیّن بالنقوش والکتابة.
وبنى شهاب الملک مآذن الإیوان الشمالی وزیّنها بالکاشی، ووضع (کامران میرزا) قضبان الذّهب فی أعلاهما، وشرع أمین السلطان ببناء الصّحن الجدید المعروف بالصحن الأتابکی ووضع أسسه، لکن الأجل عاجله فأکمل العمل بعده ولده أمین السلطان والوزیر الأعظم أتابک، وجعل فی الجهة الغربیة من الصحن إیواناً زیّنه بالمرایا من الداخل والکاشی من الخارج، وبنى حول الصّحن غرفاً متعدّدة أصبحت فیما بعد مقابر للأعیان والأشراف، کلّ ذلک مزیّن بالکتابة والنقوش الجمیلة وقد انتهی من ذلک کلّه سنة 1303هـ.
وفی سنة 1346هـ جرت بعض التعمیرات فی صحن النساء وبنی إیوان فیه، وفی سنة 12101214هـ وضع (نظام السلطنة) بابین من الفضّة فی الضلع الغربی من الحرم..(10)
هذا، وقد تعاقبت الأیدی ـ ولا زالت ـ على عمارة الحرم الشریف وصیانته ونظافته وتجدید بنائه.
وتشرف على الحرم منذ عهد قدیم هیئة خاصّة تعنى به وبمرافقه وتدیر شؤون الأوقاف التابعة له، وترعى أمور الزائرین والوافدین.
وکانت الخدمة فی الحرم الشریف ـ ولا زالت ـ تعتبر شرفاً لا یحظى به إلا القلیل، حتى أن بعض المؤمنین یتبرّع بالخدمة تقرّباً إلى الله تعالى، وتشرفاً بخدمة حرم ولیّ من أولیائه، وإظهاراً لمودّة أهل بیت نبیه (علیهم السلام).
وأصبح هذا الحرم الشریف مصدر خیر وبرکة، وموطن عبادة ودعاء وأماناً للمؤمنین عامة، ولأهل قم خاصّة، فقد کان هذا الحرم ملجأً وملاذاً للناس عند الشدائد والأزمات، حیث یلوذون بقربها ویتوسّلون بها إلى الله، وهی کریمة أهل البیت، ولها عند الله شأن من الشأن، فلا یصدرون إلا بالفرج والخیر والإجابة.
الزیارة
(فِی بُیُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَیُذْکَرَ فِیهَا اسْمُهُ)(11)
إن أهم ما یمیّز الشیعة الإمامیّة عن سواهم ولاؤهم لأهل البیت (علیهم السلام) وصدقهم فی الولاء، وحفظهم المودّة ورعایتهم للودّ، ذلک لأنهم علموا وتیقنوا أن طریق النجاة والخلاص منحصر فی اتباعهم واقتفاء خطاهم، والسیر على هدیهم وهداهم، وربطوا مصیرهم بأئمتهم (علیهم السلام)، لا یحیدون عن ذلک ولا یبغون عنه بدلاً.
وقد قامت الأدلّة عندهم من العقل والنقل على انحصار الهدایة فیهم وبهم دون سواهم، فی العقیدة والفقه والأخلاق، وقد تکفّلت کتبهم الکلامیة(12) ببیان ذلک ودلالة علیه، فأهل البیت (علیهم السلام) وهم الأئمة المعصومون (علیهم السلام) هم ذوو القربى الذین أمر الله بمودتهم وطاعتهم، وهم الأمناء على دین الله وشریعة نبیه (صلّى الله علیه وآله)، وهم حملة القرآن، ووارثو علم الرسول (صلّى الله علیه وآله).
أضف إلى ذلک ما تجلّى من سیرتهم (علیهم السلام) التی کانت مثالاً لسیرة جدّهم رسول الله (صلّى الله علیه وآله)، فکانوا بذلک مهوى الأفئدة وملتقى القلوب، فإنّهم القادة إلى الصراط المستقیم.
غیر أنّ الأمة ـ ویا للأسف ـ تنکّرت لهم وتنکّبت طریقهم، فما عرفت لهم فضلاً، ولا رعت لهم حقّاً، وعاشوا غرباء، ورحلوا غرباء، وهکذا شأن الأولیاء والصدیقین یعیشون فی غربة، ویرحلون فی غربة لا یعرف لهم قدراً ولا مقاماً.
ولم یکن هناک إلا ثلة قلیلة حظیت بشرف الاعتقاد بإمامتهم، والاقتداء بهم والسیر على خطاهم، وهم شیعتهم الذین استنارت بصائرهم بولایتهم ومحبّتهم، فکانوا هم الفائزین.
ثم إنّ من أجلى مظاهر الودّ ومراعاة المودّة لدى الشیعة الإمامیة تجاه أئمتهم (علیهم السلام) تعاهد مواطنهم ومواضع مراقدهم بالزیارة، وتجدید العهد بالولاء والمحبة یستسهلون فی الوصول إلیهم کل عسیر، ویستمرئون کل خطیر، فقد جعل الله تعالى تلک المواطن المطهّرة بیوتاً أذن أن ترفع ویذکر فیها اسمه.
ومع أن الزیارة تتحقق من البعد، فقد ورد أنّهم یبلغهم السلام(13)، إلا أن الأئمة (علیهم السلام) قد أکدوا على شیعتهم فی السعی إلى مقاماتهم المشرّفة لما یترتّب على ذلک من الفوائد العظیمة.
فقد حرص الأئمة (علیهم السلام) ـ شفقة ورأفة منهم بشیعتهم ـ أن لا تفوتهم تلک المغانم الجلیلة حیث جعل الله تعالى مواضع قبورهم مواطن الرحمة، ومهابط الملائکة، مظانّ إجابة الدّعاء وغفران الذنوب، والقربة لله والوفاء لرسوله، وإظهار المودّة لذوی القربى.
روى الکلینی بسنده عن زید الشحام قال: قلت لأبی عبد الله (علیه السلام) ما لمن زار واحداً منکم؟ قال: کمن زار رسول الله (صلّى الله علیه وآله).(14)
وقال الشیخ المفید وروی عن الصادق (علیه السلام) أنه قال: من زارنا بعد مماتنا فکأنما زارنا فی حیاتنا..(15)
وروى الشیخ فی التهذیب بسنده عن أبی عامر السّاجی واعظ أهل الحجاز، قال: أتیت أبا عبد الله جعفر بن محمد (علیهما السلام)، وقلت له: یا بن رسول الله ما لمن زار قبره ـ یعنی أمیر المؤمنین (علیه السلام) ـ وعمّر تربته؟ قال: یا أبا عامر حدّثنی أبی، عن أبیه، عن جدّه الحسین بن علی (علیهم السلام)، عن علی (علیه السلام)، أن رسول الله (صلّى الله علیه وآله) قال له: والله لتقتلنّ بأرض العراق، وتدفن بها، قلت: یا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها؟ فقال لی: یا أبا الحسن إنّ الله تعالى جعل قبرک وقبر ولدک بقاعاً من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عبادة تحنّ علیکم، وتحتمل المذلّة والأذى، فیعمرون قبورکم ویکثرون زیارتها، تقرباً منهم إلى الله، ومودّة منهم لرسوله، أولئک یا علی المخصوصون بشفاعتی الواردون حوضی، وهم زوّاری غداً فی الجنّة. یا علی من عمّر قبورکم وتعاهدها فکأنّما أعان سلیمان بن داود على بناء بیت المقدس، ومن زار قبورکم عدل ذلک ثواب سبعین حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى یرجع من زیارتکم کیوم ولدته أمّه، فأبشر وبشّر أولیاءک ومحبّیک من النعیم، وقرّة العین بما لا عین رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ولکن حثالة من الناس یعیّرون زوّار قبورکم کما تعیّر الزّانیة بزناها، أولئک شرار أمتی، لا أنالهم الله شفاعتی، ولا یردون حوضی.(16)
إلى غیر ذلک من الروایات الکثیرة.
وإضافة إلى کون الزیارة إحدى القربات والعبادات، فیها من المنافع الدینیة والدنیویّة ما لا یخفى، بحیث لو لم یرد أی نصّ فی الترغیب فیها والحثّ علیها لکانت فی نفسها جدیرة بالاغتنام.
ولما کانت السیدة فاطمة المعصومة (علیها السلام) غصناً من تلک الشجرة الطیبة، وفرعاً من ذلک الأصل الزّاکی، ولها من الشأن والمقام ما قد عرفت، ورد الترغیب فی زیارتها، والحثّ على قصد بقعتها، قربة لله تعالى ووفاء لرسوله (صلّى الله علیه وآله).
ولم یتوان الشیعة الإمامیة عن ذلک، بل صاروا یسعون أفواجاً ووحداناً، من شتى بقاع الأرض، متحمّلین مشاقّ السفر وأخطاره فی محبّة صادقة وولاء عمیق، معظّمین بذلک إحدى شعائر الله تعالى.
وقد ورد فی العدید من الروایات التأکید على زیارتها، وأنّ الله تعالى قد جعل الجنّة ثواباً لمن زارها، ومن تلک الروایات ما تقدم ذکره عن عدّة من أهل الرّی أنّهم دخلوا على أبی عبد الله (علیه السلام) وقالوا: نحن من أهل الرّی، فقال (علیه السلام): مرحباً بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الری، فأعاد الکلام، قالوا ذلک مراراً وأجابهم بمثل ما أجابهم به أولاً، فقال (علیه السلام): إن لله حرماً وهو مکة، وإن للرسول حرماً وهو المدینة، وإنّ لأمیر المؤمنین حرماً وهو الکوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فیها امرأة من أولادی تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة، قال الراوی: وکان هذا الکلام منه (علیه السلام) قبل أن یولد الکاظم.(17)
ومنها: ما روی عنه (علیه السلام) أیضاً أنه قال: إنّ زیارتها تعدل الجنّة.(18)
ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن سعد بن سعد، قال: سألت أبا الحسن الرضا (علیه السلام) عن فاطمة بنت موسى بن جعفر (علیهم السلام)، فقال (علیه السلام): من زارها فله الجنّة.(19)
ومنها: ما روی عن سعد عن علی بن موسى الرضا (علیه السلام) قال: قال: یا سعد عندکم لنا قبر، قلت: جعلت فداک قبر فاطمة بنت موسى (علیهما السلام)، قال: نعم، من زارها عارفاً بحقّها فله الجنّة.(20)
ومنها: ما روی عنه (علیه السلام) أیضاً أنه قال: من زار المعصومة بقم کمن زارنی.(21)
ومنها: ما روی عن أبی جعفر محمد بن علی الجواد (علیهما السلام) أنه قال: من زار قبر عمّتی بقم فله الجنّة.(22)
وغیرها من الروایات الدالة على فضل زیارتها، وما أعدّه الله تعالى ثواباً لزائرها وهو الجنّة، وقد ورد أن للجنة ثمانیة أبواب ثلاثة منها لأهل قم.
المصادر :
1- مجلة الهادی، العدد الثانی من السنة الثانیة ذو القعدة، 1392هـ، ص109.
2- مجلة الهادی، العدد الثانی من السنة الثانیة ذو القعدة 1392هـ، ص109.
3- تاریخ قم، ص214.
4- منتهى الآمال: ج2، ص379.
5- منتهى الآمال: ج2، ص371-372.
6- حیاة الإمام موسى بن جعفر (علیهما السلام): ج2، ص439.
7- مجلة الهادی، العدد الثانی من السنة الثانیة، ذو القعدة 1392هـ، ص107-108.
8- تاریخ قم، ص213.
9- کریمة أهل البیت (علیهم السلام)، ص181.
10- مجلة الهادی، العدد الثانی، من السنة الثانیة، ذو القعدة، 1392هـ، ص105-106.
11- سورة النور: 36.
12- تلخیص الشافی للشیخ الطوسی، والطرائف للسید ابن طاووس، وکشف المراد للعلامة الحلی.
13- وسائل الشیعة: ج10، باب4، من أبواب المزار وما یناسبه الحدیث 1-7.
14- وسائل الشیعة: ج 10، باب 2، من أبواب المزار وما یناسبه الحدیث 15.
15- المقنعة، ص485-486.
16- تهذیب الأحکام: ج6، کتاب المزار، باب 7، فی فضل زیارة أمیر المؤمنین (علیه السلام) الحدیث 7، ص22.
17- تاریخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60، ص216-217.
18- تاریخ قم، ص215، وبحار الأنوار: ج60102، ص267.
19- عیون أخبار الرضا: ج2، ص267.
20- بحار الأنوار: ج102، ص266.
21- ریاحین الشریعة: ج5، ص35.
22- کامل الزیارات، باب 106، الحدیث 2، ص536
source : rasekhoon