هناك مجموعة من الشبهات التي تطرح حول العدل الإلهي ينبغي الإجابة عنها:
الشبهة الأولى: لماذا فناء الأشياء؟
لماذا تعدم الأشياء ولماذا الموت؟ لماذا بعد أن يذوقَ الإنسان لذّة الوجود يعاد إلى العدم؟ أليس من الجليّ أنّ العدم المحض خيرٌ من الوجود الناقص؟
الجواب:
إنّ فكرة الموت هي من الأفكار التي عذّبت الإنسانية، فمنذ وجود الإنسان بدأ يتساءل عن السبب في مجيئه إلى هذه الدنيا، وكان هذا السؤال النابع من خوف الإنسان من الموت من الأسباب الموجبة لنشأة الفلسفة المتشائمة، حيث تصوّر الفلاسفة المتشائمون هذه الحياة بلا هدفٍ ولا فائدةٍ، وخاليةً عن الحكمة.
إنّ النفور من الموت هو من الميزات الخاصة بالإنسان، وأما الحيوانات فلا تفكّر في الموت، وإنّ ما يوجد لديها ليس إلا غريزة الفرار من الخطر. ولعلّ الأساس في اختصاص الإنسان بهذا الأمر هو رغبته في الخلود. ولذا يعتبر
المتكلّمون هذه الرغبة الموجودة في الإنسان هي الدليل على بقاء الإنسان بعد الموت.
كما أن وجود هذه الرغبة في الإنسان دليل على وجود كمال يسعى إليه، ومن هنا ينشأ السؤال لماذا كان الموت؟ أليس هو من الشرور التي يواجهها الإنسان؟
والجواب على فكرة الموت ممكن عبر طرقٍ متعددةٍ وأجوبةٍ مختلفةٍ نستعرضها واحداً تلو الآخر.
الأول: الموت عدمٌ نسبي:
إنّ نفور الإنسان من الموت جاء نتيجة تصوّره للموت على أنّه عدم. والحال أنّه ليس كذلك، وإنّما هو تطوّرٌ وتحوّلٌ، غروبٌ عن نشأةٍ وشروق بنشأةٍ أخرى، وبعبارةٍ ثانيةٍ: الموت عدمٌ ولكنه ليس عدماً مطلقاً بل هو عدمٌ نسبيٌّ، عدمٌ لنشأةٍ. والإنسان لا يتجرّع الموت المطلق، وإنما يعاني فقدان حالةٍ خاصةٍ والتحوّلَ إلى حالةٍ أخرى ومن أمثلة ذلك تحوّل الماء إلى بخار، فإن الماء لم يصبح عدماً وانما تحوّل من حالة إلى حالة وصار في حالة البخاريّة بعد أن كان في حالة المائية.
الثاني: الدنيا رحمٌ للروح:
إنّ أهم صورةٍ يمكن أن يقدّمها الإنسان للإنتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، أي لفكرة الموت، هي عملية الولادة. نعم، هذا التشبيه يبعّد الصورةَ من جهةٍ ولكنه يقرّبها من جهةٍ أخرى، فهو يبعّد لأنّ عالم الآخرة أعمق بكثيرٍ من عالمِ خارجِ الرحم بالنسبة للطفل، لأنّ عالمَ داخلِ الرحم وخارجه هما من نفس الدنيا. ومن هنا فهو بعيدٌ عن حقيقة عالم الآخرة الذي هو نشأةٌ أخرى وعالمٌ مختلفٌ. ولكن هذا التشبيه يوضّح لنا الصورةَ وأنّ ظروف الطفل داخلَ الرحم تختلف إختلافاً واضحاً عمّا سيعيشه خارج الرحم، فهو يتغذى من الحبل السري ولا يتنفس من رئتيه إلا بعد أن يخرج من الرحم، مع أنّ جهازه الهضمي والرئتين تتكون داخل الرحم ولكنه لا يتمكن من استخدامها. إنّ جميع أعضاء البدن التي تتكوّن في الرحم لم تُجعل ليستفيد منها الطفل داخل الرحم وإنما جُعلت لتتم الإستفادة منها خارج الرحم. وعالم الدنيا أيضاً كذلك، فهو كالرحم حيث يتمّ فيه صنع وإعداد الأجهزة الروحية للإنسان كي يستفيد منها في عالم آخر هو عالم ما بعد الموت.
إنّ الآمال العريضة التي يعيشها الإنسان والقابليّات الموجودة لديه قد خُلقت بنحو يتناسب مع حياةٍ أطول وأوسع، خالدةٍ أبديةٍ. ويبيّن القرآن الكريم هذا الأمر حيث يقول: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾(1)، فهل تتصور أيّها الإنسان أنّك بكلّ هذه الأجهزة التي زوّدت بها قد خُلقت عبثاً، وأن هذه الأجهزة لا هدف منها ولا غاية؟ إنّ الإنسان لو كان بكلّ ما جُهّز به لا عودةَ له إلى الله ونحو عالمٍ أوسع لكان كعالمِ الرحمِ حيث لا يكون بعده عالمُ الدنيا، حيث تموت الأجنّة بمجرّد إتمام تكوينها وخروجها من الرحم، أليس ذلك من العبث؟
إذاً، الموت ليس سوى بدايةٍ لمرحلةٍ جديدةٍ، وهو كولادةٍ جديدةٍ في ذلك العالم.
الثالث: الدنيا مدرسةٌ للإنسان:
تعتبر الدنيا مرحلةَ إعدادٍ للإنسان إلى عالم أوسع وهو عالم الآخرة، فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾(2)، فالدنيا دار اختبارٍ للإنسان. إننا نتحدث عن الجهة الروحيّة والنفسية، أي عن الأفعال الإختيارية للإنسان، ولا نتحدث عن الأمور التكوينية، أي لا نتحدث عن خلق الإنسان كما ذكرنا في الجواب السابق.
إذاً، الدنيا دار إخراج هذه القوى الإنسانية الكامنة في داخله إلى عالم الوجود، فهو إختبارٌ لزيادة الوزن لا لمعرفة ما عليه الأمر وواقع الحال.
الرابع: الموت توسيعٌ للحياة:
إنّ ظاهرة الموت والحياة تحققان في الكون نظاماً متعاقباً، فإنّ موت فئة من الناس يهيّئ أرضيّةً صالحةً لتعيش فئةٌ أخرى، حتى أن جثث الأموات تفيد الأرض وتمدها بالطاقة، فلو أنّ الناس الذين عاشوا قبل ألف عامٍ لم يموتوا لما وصل الدور إلى الذين يعيشون الآن، وهكذا إذا امتدت حياة من يعيش الآن فإنه سيمنع غيره من الوجود. ولنلاحظ ذلك في عالم الطبيعة، فلو لم تمت أزهار العام الماضي لما وجدت أزهار العام الحالي الفرصة لنمائها.
النتيجة:
إنّ الإنسان قد خُلق بنحو غُرس فيه الأمل بالخلود. وحيث كانت الإستعدادات التي يملكها أكبر من هذه الحياة التي يعيشها فلا بدّ من وجود عالمٍ آخر، ولذا فإن من لا يؤمن بالآخرة سوف يعيش التناقض بين تكوينه الواقعي وبين ما سيصير إليه بحسب تصوره، فإنه سوف يحدّث نفسه بأنّ نهاية الوجود هي العدم، وتكون حياته عبثاً، وأما الإنسان الذي يؤمن بالآخرة فإنه سوف يعتبر الدنيا ممرّاً ومدرسة ليعبر منها إلى عالم أوسع.
الشبهة الثانية، الجزاء الأخروي:
من المسائل التي تطرح عادة في موضوع العدل الإلهي مسألة المجازاة الأخروية، فيُتساءل عن أنّه لابدّ من رعاية التناسب بين الذنب والعقوبة.
ففي القوانين الجزائية، إذا رمى شخص ما النفايات على قارعة الطريق- مثلاً- فالعدالة تقتضي معاقبته، ولكن لا شك في أنّ عقوبته ينبغي أن تتناسب مع ذنبه، فلا يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبّد، وإلا تنافى ذلك مع العدل ولم ينسجم معه، فالتناسب بين الذنب والعقوبة ضروريّ وإلا كان من الظلم الواضح.
إن الذنوب كالغيبة والكذب والزنا وقتل النفس هي جرائم يستحق مرتكبها العقوبة، ولكن أليست العقوبة التي خُصّصت لها في الآخرة تتجاوز الحدود؟! بمعنى أنّ العقوبات المقرّرة في القرآن الكريم قاسيةٌ ولا تقبل التحمّل؟! ألا يتناقض عدم التناسب هذا بين الذنب والعقوبة مع العدل الإلهي؟!
والإجابة على هذا السؤال تتوقف على بيان أمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: إختلاف عالم الدنيا عن الآخرة:
إنّ بين عالم الدنيا وعالم الآخرة إختلافاً كبيراً، فهما نشأتان مختلفتان، إنهما لونان من الحياة. وقد تقدّم منّا أنّ عالم الدنيا بالنسبة لعالم الآخرة كعالم الرحم لدى الجنين بالنسبة لعالم الدنيا. إنّ عالم الرحم يختلف عن الدنيا، فالطفل لا يتنفس برئتيه ولا يأكل بفمه، ومتى ما ولد وخرج إلى هذه الدنيا فإنه لن يتمكن من أن يعيش لحظةً واحدةً كما كان يعيش في عالم الرحم، والعكس صحيحٌ، أي إن الطفل لو دخل الهواء إلى رئتيه وهو في عالم الرحم، أودخل الطعام عبر فمه، فإنه سوف يموت كما أنّه لو لم يتنفس برئتيه متى خرج إلى الدنيا سوف يموت أيضاً!
إن هذا المثال يوضح لنا أنّ بين العالمين اختلافاً، فكذلك إنّ لكلّ واحد من عالمي الدنيا والآخرة قوانينه ونظمه، فما هي النقاط التي يختلف فيها العالمان؟
أ- الثبات والتغيّر:
عالم الدنيا هو عالم المتغيّرات، فالطفل يكتمل ليصبح شاباً ثمّ يصل إلى الشيخوخة ثمّ الموت، فهنا الجديد يصبح قديماً والقديم يفنى.
أمّا في العالم الآخر فلا شيخوخة ولا قدم ولا موت، ولذا كان عالمنا هذا عالم الفناء وكان ذلك العالم عالم البقاء.
ب- الحياة الخالصة والحياة المشوبة:
تقترن الحياة في هذه الدنيا بالموت، وأما في عالم الآخرة فهناك حياة بلا موت، قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾(3)، فالحياة الحقيقية هي في ذلك العالم حيث تسيطر الحياة على جميع أجزائه، حتى جلد البدن والظفر اللذين لا شعور لهما ولا إدراك في هذا العالم يصبحان ذَوِيَ فهم وإدراك ونطق في ذلك العالم، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾(4)، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(5).
ج- البذر والحصاد:
الدنيا هي دار عمل، أمّا الآخرة فدار حساب لا عمل فيها ينفع الإنسان أو ينجيه من العقاب، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (اليوم عمل بلا حساب وغداً حساب بلا عمل)(6).
وما أجمل عبارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تبين ذلك إذ قال: (الدنيا مزرعة الآخرة)(7).
د- المصير الخاصّ والمصير المشترك:
الحياة الدنيا حياة إجتماعيّة يرتبط المصير فيها ويشترك بين أفراد المجتمع إلى حدٍّ ما، وأمّا في الآخرة فمصير كل إنسان يرتبط به وحده.
ففي هذه الدنيا تؤثر الأعمال الصالحة في سعادة الآخرين، كما أن الأعمال الباطلة لها تأثيرها السلبيّ على حياة الآخرين، ولذا كان أفراد المجتمع في هذه الدار كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وأما في الآخرة فيستحيل أن يكون لشخص سهم في عمل الآخر، فلا يعذّب إنسان بسبب ذنوبٍ لم يشارك في حدوثها، ولذا قال تعالى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾(8)، ويقول تعالى: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾(9).
عندما نقول بأنّ الحياة في عالم الآخرة ليست إجتماعيّة فنحن لا نقصد أنّ كلّ شخصٍ هناك يعيش بمفرده ولا يرى أحداً، بل إنّ ما نريده هو أن الترابط ، التأثير والتأثر، التعاون والتضاد وغير ذلك مما هو موجود في هذه الدنيا، لا وجود له في ذلك العالم، وإلا ففي الجنة توجد حياة إجتماعية، فالصالحون مجتمعون تسودهم الألفة والمحبة ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾(10)، والفاسقون تفرقهم الأحقاد والضغائن ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾(11).
الأمر الثاني: الإرتباط بين عالم الدنيا وعالم الآخرة:
إن بين عالم الدنيا وعالم الآخرة- رغم الإختلاف الذي تقدّم ذكره- إرتباطاً وثيقاً، ذلك أنّنا نحصد غداً في الآخرة ما نزرعه في هذه الدنيا، وهذا ما تحدثت عنه الروايات: فقد ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة: (إنّ الجنة قيعان)(12) وإنّ غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)(13).
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعاناً ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنةً من ذهبٍ ولبنةً من فضةٍ وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم قد أمسكتم؟ قالوا: حتى تجيئنا النفقة، قلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال بنينا وإذا سكت أمسكنا)(14).
الأمر الثالث: أنواع الجزاء:
إن معرفة أنواع الجزاء له الدور الأساس في حلّ مشكلة التناسب في الجزاء الأخرويّ، فأنواع الجزاء ثلاثة:
1ـ الجزاء الإعتباريّ.
2ـ الجزاء التكوينيّ الطبيعيّ.
3ـ الجزاء الذي هو تجسّد للذنب.
1ـ الجزاء الإعتباريّ:
وإنما أسميناه إعتباريّاً لأنّه عبارة عن مقررات جزائيّة، إمّا إلهيّة وإما بشريّة.
فالحياة الإجتماعيّة للبشريّة متقوّمة بأمرين:
أحدهما: عامل التربية، لأنّ التربية السليمة تخفض نسبة الجريمة.
وثانيهما: العقوبة العادلة للمتخلّف.
ولا يكفي أحد هذين الأمرين بمفرده لبناء الحياة الإجتماعية العادلة، فالتربية مع عدم عقاب المجرم لا تكفي لمنع وقوع وتكرّر الفعل المخالف للقانون، ولذلك فإنّ الهدف من الجزاء الإعتباريّ أمران:
أولاً: الحيلولة دون تكرر الذنب من قِبَل المجرم أو غيره في عقوبة منبّهة وبها يحفظ المجتمع.
ثانياً: تسلية المظلوم وإدخال شيءٍ من الطمأنينة إلى نفسه، لأن الطبيعة الإنسانية تقتضي التشفّي للمظلوم بعقاب الظالم.
ولكنّ هذا النوع من الجزاء لا يمكن تصوره في عالم الآخرة، لأنه ليس في ذلك العالم مجال لتكرّر الذنب حتى يكون الغرض من العقوبة الحيلولة دون تكرّر الذنب، كما أنّه لا مجال للتشفّي في حقّ الله تعالى لا سيما في العقوبات التي ترجع إلى الحقوق الإلهيّة التي لا ترتبط بحقوق الناس.
2ـ الجزاء الوضعيّ الطبيعيّ:
إن من أنواع الجزاء ما يرتبط بالذنب إرتباط المعلول بعلّته، أي إنّه نتيجة طبيعيّة للذنب، وهو ما يسمى بالأثر الوضعي للذنب.
إن لبعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان آثاراً ذاتية لا يمكن فكّ الارتباط بينها وبين العمل، فمثلا شرب السم لا بدّ أن يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن أن يقال: إن هذا المسكين قد قام بإرتكاب عملٍ صغيرٍ لم يستمر سوى لدقائق فكيف يعاقب بهذا العقاب؟! وكذا لو نُبِّه شخصٌ إلى عدم إلقاء نفسه من قمّةِ الجبل بأنّه سوف يموت، فلا يحقّ له أن يعترض متسائلاً عن التناسب بين معاندته وهذا الجزاء الشاقّ.
هكذا الذنوب فإنّ لبعضها آثاراً وضعيّةً ذاتيّةً لا يمكن التفكيك بينها وبين العمل، فالإساءة للوالدين- مثلاً- لها عقوبة لا تنفكّ عنها. وينقل لنا التاريخ في هذا المجال أنّ المنتصر- الخليفة العباسي- سمع أباه المتوكّل يشتم السيدة الزهراء عليها السلام فسأل رجلاً يثق به عن جزاء من يفعل ذلك، فقال له: إن جزاءه القتل، ولكنه نبّهه على أنّ كلّ من يقتل أباه لا يعمّر طويلاً بعده، ولكنّ المنتصر صمّم على قتل والده، فقتله ولم يبقَ حيّاً بعده سوى عدّة أشهر.
3ـ الجزاء عين العمل (العذاب الأخروي):
إن الإرتباط بين العمل والجزاء الأخرويّ هو إرتباط تكوينيّ، ولكنه أقوى من الإرتباط المتقدم، وهو أعلى من إرتباط العلّة والمعلول والأثر والمؤثر، إذ هوإرتباط الاتّحاد والعينيّة، أي إنّ الجزاء الأخرويّ هو عبارة عن تجسّم الأعمال التي قام بها الإنسان في هذه الدنيا، وإلى هذا يشير القرآن في العديد من الآيات، منها قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾(15)، وقال تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾(16)، وفي آية أخرى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾(17)، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾(18).
فجزاء الآخرة هو تجسّم لأعمال الدنيا، والنعيم والعذاب في ذلك العالم هما نفس العمل الصالح والسيّئ اللذين أداهما الإنسان هنا وقد كُشف عنهما الغطاء فظهرا للعيان.
خلاصة
1- إنّ رغبة الإنسان في الخلود هي السبب في نفوره من الموت.
2- إنّ حلّ مشكلة النفور من الموت هي بأمور:
أ- الالتفات إلى حقيقة الموت، وأنّه ليس عدماً بل هو إنتقال من عالم إلى عالم آخر.
ب- إنّ الجهاز الذي زوّد به الإنسان دليل على أنّ الموت لا يعني نهاية الإنسان.
ج- إنّ الدنيا هي دار إمتحان وإختبار إلى عالم أوسع وأرحب.
د- إنّ في الموت توسعة للحياة الإنسانية لأنّ موت فئة من الناس يهيّئ الظروف المناسبة لحياة من سيأتي.
3- يتساءل بعض الناس عن العذاب الأخرويّ: ألا يشكل عذاب جهنّم نوعاً من الظلم حيث لا تناسب بين نوع الذنب ونوع العقوبة؟!
والجواب: هو أنّ عالم الدنيا يختلف عن عالم الآخرة بجهات، فعالم الدنيا عالم التغيّر وعالم الآخرة عالم الثبات، وعالم الدنيا عالم مشوب بالموت وأما الآخرة فهي الحياة الأبدية، المصير الدنيوي مشترك وأما في الآخرة فلكلّ إنسان نتيجة عمله. ومن الإختلافات أنّ الجزاء الأخروي هو عبارة عن نفس عمل الإنسان أي إنّ جزاء الآخرة هو تجسّم لأعمال الدنيا، والنعيم والعذاب هناك هما نفس العمل الصالح والسيئ اللذين أداهما الإنسان هنا وقد كُشف عنهما الغطاء فظهرا للعيان.
المصادر :
1- المؤمنون:115
2- الملك:2
3- العنكبوت:64
4- يّـس:65
5- فصلت:21
6- نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام رقم 43
7- غوالي اللآلي، الإحسائي ص 267
8- يـس:59
9- الإسراء: 15
10- الحجر:47
11- ص:64
12- قيعان جمع قيعة والقيعة والقاع بمعنى واحد وهو المستوي من الأرض (مجمع البحرين ، ج4، ص385 مادة- قوع) دار ومكتبة الهلال لبنان (معجم مقاييس اللغة مادة- قوع)
13- بحار الأنوار، المجلسي، ج 7 ص 229
14- وسائل الشيعة (آل البيت)- الحر العاملي ج 7 ص 188
15- آل عمران:30
16- الكهف: 49
17- الزلزلة:8
18- النساء:10
source : rasekhoon