منذ أن هبط آدم أبو البشر (عليه السلام) أرض الفتن والإبتلاء ، ومن قيام الساعة تجري سنّة الصراع بين الأبرار الذين ابتغوا رضوان الله ، والضّالين الذين اتبعوا خطوات الشيطان .ولم تخل الأرض - في أية حقبة - عن أولي بقية من سلالة النبيين واتباعهم ينهون عن الفساد في الأرض ، ويقيمون حجة الله على العباد .
وقد قال ربّنا سبحانه : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ }(1)
وكان يقود أولئك البقية الصالحة نبي مرسل ، أو وصي نبي ، أو عالم رباني ، يتوارثون الدعوة إلى الله، والقيام بامره . وورث الإمام الهادي (عليه السلام)هذه القيادة الرشيدة من والده الجواد (عليه السلام)الذي انتهى إليه ميراث رسول الله خاتم الأنبياء والمهيمن على رسالات الله جميعاً ! فالإمامة الربانية ورثها المصطفون من عباد الله ، وان نهج الحق توارثه العلماء الربانيون ، وأهل الزهد والصلاح من شيعة الحق واتباع نهج الأنبياء .
وكان هدف هذا الخط الميمون تحقيق ذات التطلعات التي سعى إليها الأنبياء والصالحون عبر التاريخ والتي يوجزها ربّنا سبحانه في كتابه حين يقول : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ }(2)
ان ما تهدينا اليه سائر الآيات القرآنية ومنها هذه الآية المباركة هي الغايات السامية لابتعاث الرسل وهي التالية :
ألف : الدعوة إلى الله بالبينات ، التي تتمثل في كلمة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام):
" ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ، ويقدروا لهم بالبينات ، وليثيروا لهم دفائن العقول ..." .
هكذا بإيقاظ العقل من سباته ، وإثارة الوجدان من تحت ركام الغفلة ، وتنقية الفطرة من الشوائب ، والحجب ، بذلك كله تتم حجة الله على عباد الله عبر رسله الكرام !
باء : تلاوة كتاب الله الذي فيه تبيان كل شيء مما يحتاجه الخلق ، وعبر تلاوة الكتاب وآياته الكريمة كان الأنبياء (عليهم السلام)يقومون بتزكية الناس وتعليمهم وقد قال ربنا سبحانه :
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } (3)
جيم : توفير الميزان : والذي يعني ولي الأمر الذي يقضي بين الناس بالعدل ، وقد قال ربنا سبحانه :
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (4)
وهكذا كل من يستلم منصب الخلافة الإلهية يكون ميزاناً للحق وفرقاناً ونوراً ، ليعلم الناس إذا تشابهت المذاهب ، واختلفت الآراء ، أي سبيل يهديهم إلى ربهم ، وأي نهج يرضاه خالقهم .
دال : والهدف الأسمى لكل تلك التطلعات السامية تحقيق أقصى درجات العدالة بين الناس وهي القسط ، والتي لا تتم إلاّ بإيمان الناس بالرسل واتباعهم للكتاب وتسليمهم للميزان - لذلك قال ربنا سبحانه : { ليقوم الناس بالقسط }
ومعلوم : أن هذا القسط لا يتحقق بالتمام إلاّ بقوة مادية رادعة تتمثل بالحديد الذي أنزله الله .. وجعل فيه بأساً شديداً .
والحديد بدوره لا يعني شيئاً لو لم تحمله أيادي شجاعة متفانية في سبيل الله ونصر دينه ورسله .
فإذا حملوا الحديد دفاعاً عن وحي الله ونهج رسل الله ، نزل عليهم نصر الله إن الله قوي عزيز ، كما قال سبحانه :
{ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَويٌ عَزِيزٌ } (5)
تلك كانت تطلعات الخط الرسالي الذي قاده في عصره الإمام النقي علي بن محمد الهادي (عليه السلام)، فماذا كانت منعطفات هذا الخط منذ تبلوره في عصر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)حتى ذلك اليوم .
بعد رحيل النبي إلى الرفيق الأعلى كانت الأمة الناشئة بحاجة إلى إمام يحافظ على تراث الرسول ، ويدافع عن خطه الأصيل ان يزمع الناس عنه يمنة ويساراً ، ويكرس تلك القيم السامية التي نزل بها الوحي في واقع الأمة .
وقد قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)بذلك خير قيام والتف حوله الاصفياء من الأمة الذين
أصبحوا تلك البقية الصالحة الذين حافظوا على الخط الأصيل للرسالة الإلهية !
وعندما وقعت معركة صفّين ازداد الفرق بين هذا الخط وبين سائر الخطوط وضوحاً ، وانحاز الأبرار كلياً إلى الإمام (عليه السلام)وبينهم بقية السلف الصالح من أصحاب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم)، وبقي هذا الخط في تصاعد رغم إرهاب الحزب الأموي الحاكم ، ولكنه لم يشتهر في أرجاء الأرض إلاّ بعد أن اصطبغ بلون الدم ، واكتسب حرارة المأساة بعد واقعة الطف ، فإذا كانت بلورة الخط في صفّين ، فإن رشده وتكامله كان في يوم عاشوراء .
وعلى عهد الإمام زين العابدين تضاعفت صبغته الإلهية . وفي عهد الإمام الباقر تبلور فيه المنهج التوحيدي حيث يلتقي في ذروته العقل النير بالوحي المنزل . أما في عهد الإمام الصادق (عليه السلام)فإن تفاصيل هذا المنهج في الأحكام والأخلاق والآداب والمواعظ كانت قد رسمت بصورة تامة .
أما في عهد الإمام الكاظم (عليه السلام)فإن الخط قد اتخذ الصبغة السياسية في صورتها حيث التخطيط لثورة جماهيرية ، أما على عهد الأئمة من بعده - الإمام الرضا وأبنائه الثلاثة - فإن الخط الرسالي قد أصبح قوة سياسية وأجتماعية متداخلة مع السلطة الحاكمة مؤثرة في قراراتها مهيمنة على الحياة الدينية .
وهكذا كان عهد الإمام الهادي (عليه السلام)يتميز بقدرة الخط الرسالي على جميع الأصعدة بالرغم من الإرهاب الذي كان يتميز به النظام العباسي ، وبالذات على عهد المتوكّل العبّاسي .
ولعلنا نجد في الشواهد التاريخية التالية بعض الملامح لوضع الطائفة في عصر الإمام (عليه السلام).
1 - في حديث مفصل رواه الشيخ الكليني رضوان الله عليه عما جرى بعد وفاة الإمام الجواد (عليه السلام)جاء فيه :
" فلما مضى أبو جعفر (الإمام الجواد عليه السلام) لم أخرج من منزلي حتى علمت أن رؤوس العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج (الرخجي وكان ثقة من أصحاب الرضا والجواد ووكيلاً عن الإمام الهادي عليه السلام ) يتفاوضون في الأمر " (6).
وهكذا كان للشيعة يومئذ مجالس للتفاوض في الأمور المهمَّة ، ومن أبرزها معرفة الإمام والبيعة له والتسليم لأوامره ، وقد أجمعوا بعد الإمام الجواد على الإمام الهادي ، بما تناهت إليهم من الإخبار الصحيحة بذلك حيث جاء في نهاية هذه الرواية : فلم يبرح القوم حتى سلموا لأبي الحسن (عليه السلام)، وأضاف الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد : والأخبار في هذا الباب كثيرة جداً إن عملنا على إثباتها طال الكتاب ، وفي إجماع العصابة على امامة أبي الحسن وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن يلتمس الأمر فيه ، غني عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل " (7) .
وهكذا ترى الشيخ المفيد يقول بإمامة الهادي (عليه السلام)بإجماع العصابة ، بلى وهو صفوة الأمة وكبار فقهائها ، فمعرفتهم بالإمام الذي عاصروه وعاصروا والده وجدَّه ، سبيل عقلائي إلى معرفة الإمام بعدهم .
والأمر الذي نستفيده من كلام الشيخ المفيد ومن الحديث الذي يرويه هو وضع الطائفة في ذلك اليوم .
2 - وكان فتح بن خاقان وزيراً عند المتوكل ، ولكنه كان يتحبب إلى الإمام الهادي ، إما لميله النفسي إليه أو لأنه كان من رجاله في البلاط ، ولكن ورد من الإمام بحقه الذم حفاظاً عليه ، دعنا نستمع معاً إلى الحديث التالي الذي يحكي مكرمة من مكارم الإمام ، وفي ذات الوقت يعكس جانباً من وضع الطائفة في تلك الأيام !
قصدت الإمام (عليه السلام)يوماً فقلت : يا سيدي إن هذا الرجل قد اطّرحني ، وقطع رزقي ، ومللني ، وما أتهم في ذلك إلاّ علمُه بملازمتي لك ، وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك فينبغي أن تتفضل عليّ بمسألة ، فقال : تكفى إن شاء الله .
فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولاً فجئت والفتح على الباب قائم فقال : يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل كدني هذا الرجل مما يطلبك ، فدخلت وإذا المتوكل جالس على فراشه فقال : يا أبا موسى نشغل عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي ؟ فقلت : الصلة الفلانية والرزق الفلاني وذكرت أشياء فأمر لي بها ويضعها .
فقلت للفتح : وافي علي بن محمد إلى ههنا ؟ فقال : لا ، فقلت : كتب رقعة ؟ فقال : لا فوليت منصرفاً فتبعني فقال لي : لست أشك أنك سألته دعاء لك فالتمس لي منه دعاء .
فلما دخلت إليه (عليه السلام)فقال لي : يا أبا موسى ! هذا وجه الرضا ، فقلت : ببركتك يا سيدي ، ولكن قالوا لي : إنك ما مضيت إليه ولا سألته ، فقال : إن الله تعالى علم منا أنا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه ولا نتوكل في الملمات إلاّ عليه وعودنا إذا سألناه الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا .
قلت : إن الفتح قال لي كيت وكيت ، قال : إنه يوالينا بظاهره ، ويجانبنا بباطنه ، الدعاء لمن يدعو به : إذا أخلصت في طاعة الله ، واعترفت برسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)وبحقنا أهل البيت وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك (8) .
3 - وكان الإمام الهادي يسكن سامراء في عاصمة الخلافة وكان يدخل على المتوكل وينقل الرواة في صفة دخوله عليه أنه كان لا يملك من يحضر باب الخليفة أن يترجل إذا طلع عليه الإمام ، يقول محمد بن الحسن بن الأشتر العلوي .. قال : كنت مع أبي بباب المتوكل ، وانا صبي في جمع الناس ما بين طالبي إلى عباسي إلى جندي إلى غير ذلك ، وكان إذا جاء أبو الحسن (عليه السلام)ترجل الناس كلهم حتى يدخل . فقال بعضهم لبعض : لم نترجل لهذا الغلام ؟ وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسننا ولا بأعلمنا ؟ فقالوا : والله لا ترجلنا له فقال لهم أبو هاشم : والله لترجلن له صغاراً وذلة إذا رأيتموه ، فما هو إلاّ أن أقبل وبصروا به فترجل له الناس كلهم فقال لهم أبو هاشم : أليس زعمتم أنكم لا تترجلون له ؟ فقالو : والله ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا (9) .
وكان الإمام إذا دخل على المتوكل رفعوا له الستر واحترموه بكل وقار ، تقول الرواية : إن أحد الأشرار قال للمتوكل العباسي يوماً ما يعمل أحد بك أكثر مما تعمله بنفسك في علي بن محمد ، فلا يبقى في الدار إلاّ من يخدمه ولا يتعبونه بشيل ستر ولا فتح باب ولا شيء ، ولهذا كان الناس يقولون : لو لم يعلم استحقاقه للأمر ما فعل به هذا (10) .
ويظهر من هذا الحديث المفصّل الذي أخذنا منه موضع الحاجة أنه (عليه السلام)كان مهيباً مبجلاً حتى في بلاط أشد الخلفاء العباسيين إرهاباً في عصره وهو المتوكل العباسي .
وكان (عليه السلام)إذا دخل على الخليفة جابهه بالحق ، فقد دخل يوماً عليه فقال ا لمتوكل : يا أبا الحسن من أِشعر الناس ، قال الإمام فلان ابن فلان العلوي حيث يقول :
لقد فاخرتنا من قريش عصابة * بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا القضاء قضى لنا * عليه بما فاهوا نداء الصوامع
قال وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟
قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً .. جدي أم جدكم ، فضحك المتوكل كثيراً ثم قال : هو جدك لا ندفعك عنه (11) .
ومرة أخرى أدخل المتوكل الإمام (عليه السلام)إلى مجلس لهوه وطلب منه المشاركة فيما كان فيه ، فوعظه الإمام عظة بليغة تعالوا نستمع إلى قصة ذلك حسبما ينقلها المسعودي ، قال : سعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد (عليه السلام)أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم ، وأنه عازم على الوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له : لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكل . فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده فقال : والله ما يخامر لحمي ودمي قط ، فاعفني فأعفاه ، فقال : أنشدني شعراً فقال (عليه السلام): إني قليل الرواية للشعر فقال : لابد ، فأنشده (عليه السلام)وهو جالس عنده :
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم * غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم * واسكنوا حفراً يا بئسما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم * أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعَّمة * من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا * وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا
قال : فبكى المتوكل حتى بل لحيته دموع عينيه ، وبكى الحاضرون ، ودفع إلى علي (عليه السلام)أربعة آلاف دينار ، ثم رده إلى منزله مكرّماً (12).
وحسبما نقرأ في المصادر التاريخية ، كان الكثير من بطانة الخليفة يتشيع للإمام ، أما واقعاً أو لما يجد عند الشيعة من ثقل سياسي ، مثل الفتح بن خاقان الذي كان من أعظم وزراء المتوكل ، والذي قتل معه عندما انقلب عليه عسكره من الأتراك ، كان يحاول التقرب إلى الإمام ، ويظهر من بعض الروايات أن المتوكل كان يتهمه بذلك مما يدل على أنه قد أحسَّ بأمره (13).
وجاء فيه فقال المتوكل : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجه الفتح وضحك الفتح في وجهه . كما يظهر من القصة التالية أن بعض قادة النظام العسكريين كانوا يكنون للإمام الحب وربما الولاء ، كما أن القصة تعكس جانباً من انتشار حب الإمام واحترامه بين عامة الناس لا سيما في الحرمين الشريفين .
ينقل عن القائد العباسي يحيى بن هرثمة قال : أرجعني المتوكل إلى المدينة لإشخاص علي بن محمد (عليه السلام)لشيء بلغه عنه ، فلما صرت إليها ضج اهلها وعجوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله ، فجعلت أسكنهم وأحلف أني لم أومر فيه بمكروه ، وفتشت منزله ، فلم أصب فيه إلاّ مصاحف ودعاء وما أشبه ذلك ، فأشخصته وتوليت خدمته ، وأحسنت عشرته .
فبينما أنا في يوم من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة ، إذ ركب وعليه ممطر عقد ذنب دابته فتعجبت من فعله ، فلم يكن من ذلك إلاّ هنيئة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليها ، ونالنا من المطر أمر عظيم جداُ فالتفت إليّ فقال : أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت ، وتوهمت أني أعلم من الأمر ما لم تعلم ، وليس ذلك كما ظننت ولكني نشأت بالبادية ، فأنا اعرف الرياح التي تكون في عقبها المطر فتأهبت لذلك .
فلما قدمت إلى مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد ، فقال : يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)والمتوكل من تعلم ، وإن حرضته عليه قتله ، وكان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)خصمك ، فقلت : والله ما وقفت منه إلاّ على أمر جميل .
فصرت إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي وكنت من أصحابه ، فقال لي : والله لئن سقط من رأس هذا الرجل شعرة لايكون الطالب بها غيري ، فتعجبت من قولهما ، وعرَّفتُ المتوكل ما وقفت عليه من أمره ، وسمعته من الثناء فأحسن جائزته ، وأظهر بره وتكرمته (14).
وكان عصر الإمام (عليه السلام)قد تميز بالتحولات السياسية حيث تنامى بعودة الأتراك في بلاط العباسيين ، وكان كل قائد منهم يميل إلى واحد من المرشحين للخلافة ، فيتحين الفرص لدفعه إلى واجهة السلطة وتسميته باسم الخليفة ليلعب ما يشاء في امور البلاد باسمه . فبعدما مضى المعتصم ملك الواثق ابنه واستوزر ابن الزيات ، وغضب على جعفر بن المعتصم أخيه ، وما لبث أن مات واستخلف المتوكل وقتل ابن الزيات ، وشهد عصره قدراً من الإستقرار ، وقبل أن يموت الواثق سئل عن الخليفة بعده فقال : لا يراني الله أتقلدها حياً وميتاً ، " ويبدو من هذه الكلمة : أنه كان يعرف ماذا تعني الخلافة في عصره أو ليست تعني القمع والدجل والمؤامرات والإنغماس في الشهوات ، ثم أليس أنه نفسه قد سجن أخاه المتوكل بعد أن ولاّه إمارة الحج لمّا عرف أن ينافسهم الأمر ولم يقبل فيه شفاعة أحد ؟ " .
وبعد الواثق وُلّي المتوكل الذي شهد عصره قدراً من الإستقرار ولكنه كان استقراراً قائماً على العنف والتضليل .
وأبرز مظاهر عنفه سياسته الإرهابية تجاه البيت العلوي وأمره بهدم قبر سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)حيث أمر سنة 236 بهدم قبر الإمام وما حوله من الدور ، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضعه ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عنده بعد ثلاثة أيام بعثنا به إلى المطبق (السجن ) ، فهرب الناس وأشنعوا من المصيد إليه ، وقد أثار المتوكل بهذه السياسة حفيظة المسلمين وخاصة أهل بغداد الذين ردوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين بسبه في المساجد والطرقات (15) .
ووقعت في عهده مجاعة رهيبة في العراق وهلك كثير من الناس ، وقد طمع الروم في بلاد الإسلام بسبب ضعف الدولة العباسية فاستأنفوا غاراتهم على أراضي قاليقلا جنوبي آسيا الصغرى وهزموا أهلها هزيمة منكرة (16).
وتظهر من القصة التالية صورة عن طبيعة حكم المتوكل ، وما بلغ من إرهابه ضد العلويين ومن ثورة هؤلاء ضده .
قال البختري : كنت بمنبج بحضرة المتوكل ، إذ دخل عليه رجل من أولاد محمد بن الحنيفة حلو العينين ، حسن الثياب ، قد قرف عنده بشيء فوقف بين يديه والمتوكل مقبل على الفتح يحدثه .
فلما طال وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه قال له :
" يا أمير المؤمنين إن كنت أحضرتني لتأديبي فقد أسأت الأدب ، وإن كنت أحضرتني ليعرف من بحضرتك من اوباش الناس استهانتك بأهلي فقد عرفوا " .
فقال له المتوكل : والله يا حنفي لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحم ويعطفني عليك من مواقع الحلم لانتزعت لسانك ، ولفرقت بين رأسك وجسدك ، ولو كان بمكانك محمد أبوك ، قال : ثم التفت إلى الفتح فقال : أما ترى ما نلقاه من آل أبي طالب ؟ إما حسني يجذب إلى نفسه تاج عز نقله الله إلينا قبله ، أو حسيني يسعى في نقض ما أنزل الله إلينا قبله ، أو حنفي يدل بجهله أسيافنا على سفك دمه .
فقال له الفتى : " وأي حلم تركته لك الخمور وإدمانها ؟ أم العيدان وفتيانها ومتى عطفك الرحم على أهلي وقد ابتززتهم فدكاً إرثهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) فورثها أبو حرملة ! وأمّا ذكرك محمداً أبي فقد طفقت تضع عن عز رفعه الله ورسوله ، وتطاول شرفاً تقصر عنه ولا تطوله ، فأنت كما قال الشاعر :
فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعباً بلغت ولا كلابا
ثم ها أنت تشكو لي علجك هذا ما تلقاه من الحسني والحسيني والحنفي فلبئس المولى ولبئس العشير .
ثم مد رجليه ثم قال : هاتان رجلاي لقيدك ، وهذه عنقي لسيفك ، فبؤ بإثمي وتحمَّل ظلمي فليس هذا أول مكروه أوقعته أنت وسلفك بهم ، يقول الله تعالى { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ }(17) فوالله ما أجبت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)عن مسألته ولقد عطفت بالمودة على غير قرابته فعما قليل ترد الحوض ، فيذودك أبي ويمنعك جدي صلوات الله عليهما .
قال : فبكى المتوكل ثم قام فدخل إلى قصر جواريه ، فلما كان من الغد أحضره وأحسن جائزته وخلى سبيله .
وكانت قبضة المتوكل الحديدية وإرهابه الشديد سبباً لسخط الناس عليه ، والذي تنامى حتى بلغ الجيش الذي ثار عليه بقيادة بغا الصغير وباغر ، وقتل المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان وخلفه ابنه المنتصر في شوال عام 247 الذي أخذ يخالف أباه في كل شيء ، وبالذات فيما يتعلق بالبيت العلوي وحتى أنشد يزيد المعلبي يقول :
ولقد برزت الطالبية بعدما * ذموا زماماً بعدها وزمانا
ورددت ألفة هاشم فرأيتهم * بعد العداوة بينهم إخوانا (18)
ولم يدم عهد المنتصر الذي وصفه بعض المؤرخين بالحسن ، وقالوا : كان عظيم الحلم ، راجح العقل ، غزير المعروف راغباً في الخير جواداً كثير الإنصاف حسن العشرة (19).
فقد مات بعد ستة أشهر وذلك سنة (248 ) وبايع الناس أحمد بن محمد المعتصم (248 / 252 ) وأعطوه لقب المستعين بالله ، ويبدو أن المستعين أراد أن يحدّ من نفوذ الأتراك الذين تحولت قوتهم العسكرية إلى قوة سياسية متنامية في البلاد ، فواجه تحدياً من قبل بعضهم وبالذات من بغا وباغر الذين تمردا عليه وبايعا المعتز بن المتوكل وقامت حرب ضاربة بين أنصار الخليفتين حيث استقر الأول ببغداد والثاني بسامراء ، وأثّرت الحرب على الحالة الإقتصادية للبلاد وبعد أن تم الأمر للمعتز تم إبعاد المستعين إلى واسط ولكنه قتل بالتالي على يد عصابة سيرها بقيادة سعيد الخادم (20).
ولكن المعتز بقي يخشى جانب الأتراك الذين قتلوا أباه وخلعوا ابن عمه ، وهكذا لم تصفو له الخلافة بل قتل بصورة شنيعة يصفها المؤرخون بما يلي .. قد حل إليه جماعة من الأتراك فجروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس في الدار فكان يرفع رجلاً ويضع اخرى لشدة الحر وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده ثم اشهدوا على خلعه بعض علماء البلاط وادخلوه سرداباً وحَصوا حصْوا عليه وسدوا عليه الباب حتى مات (21).
وبعده استخلفوا المعتدي بن واثق عام 255 واضطربت البلاد في عهده فمن ثورة ببغداد إلى تمرد في الجيش ، إلى انتفاضات للعلويين هنا وهناك .
وهكذا أصبحت الخلافة العباسية شعاراً لكل الطامعين في السلطة ، وأصبحت المؤامرة والدجل سمة بارزة للسياسة .. وكل ذلك كان نهاية طبيعية للإرهاب والدجل الذي مارسه الرواد الأوائل لهؤلاء الخلفاء .. حيث أن المعتصم مثلاً حينما استقدم الأتراك وجعل منهم قوة عسكرية ضاربة ، وأرهب بهم الناس وأخمد الإنتفاضات والثورات ، كان من الطبيعي أن تتحول هذه القوة ضد أسرته وأن تستبد بالأمر دونهم . حتى حكى بعض المؤرخين أنه لما جلس المعتز على سرير الخلافة قعد خواصهم وأحضروا المنجمين وقالوا لهم انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة ، وكان بالمجلس بعض الظرفاء فقال : أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته فقالوا : فكم تقول أنه يعيش وكم يملك ؟ قال : مهما أراد الأتراك ، فلم يبق في المجلس إلاّ من ضحك (22).
وهكذا كان الإنحراف يبدأ في الظاهر قليلاً وسرعان ما يجرف كل خير وصلاح ، وإنما كان الأئمة (عليه السلام)وأنصارهم يدافعون عن قيم الحق والعدل والحرية ، لكي لا تنتهي أمور الدين وشؤون الملة إلى مثل هذه المآسي الفظيعة .
المصادر :
1- هود/116
2- الحديد/25
3- الجُمُعَة/2
4- النساء/65
5- الحَج/40
6- بحار الأنوار : ج 50 ، ص 120
7- بحار الأنوار : ج 50 ص 121 نقلاً عن إرشاد المفيد : ص 308
8- بحار الأنوار : ج 50 ص 127
9- بحار الأنوار : ج 50 ص 137
10- بحار الأنوار : ج 50 ص 128
11- بحار الأنوار : ج 50 ص 129
12- بحار الأنوار : ج 50 ص 211 - 212
13- بحار الأنوار : ج 50 ص 196 الحديث الثامن .
14- بحار الأنوار : ج 50 ص 207 - 208
15- تاريخ الإسلام السياسي / حسن إبراهيم حسن : ج 3 ، ص 5
16- المصدر .
17- الشّورى/23 وبحار الأنوار : ج 50 ، ص 213 - 214
18- تاريخ الإسلام السياسي : ج 3 ، ص 7
19- المصدر عن ابن الأثير : ج 7 ، ص 29
20- المصدر : ص 8 عن ابن الأثير : ج 7 ص 60 - 61
21- المصدر : ص 10
22- المصدر : ص 9
source : rasekhoon