عربي
Saturday 18th of May 2024
0
نفر 0

من المذهبیة الجدلیة إلى الإنسانیة الیقینیة

قدم علم الکلام فی تاریخه الطویل خدمات جلیلة للعقیدة الإسلامیة فی نصرة الدین ودحض الشبهات وتبکیت الخصوم إلاّ انه بقی قاصراً إلى مراحل تاریخیة متقدمة ان یتجاوز طابع الجدل الذی انعکس بقوة على مطالب العلم وموضوعاته ومناهجه وآلیاته. إن السمة الجدلیة لهذا العلم خاصة فی المرحلة الثالثة من تاریخه افرزت عدة عوائق ساهمت فی تعطیل نمو هذا العلم بالشکل المطلوب وحبسته فی دائرة ضیقة فأفتقد الحس الموضوعی فی عرض آراء الخصوم ومناقشة المذاهب الأخرى وکتب الملل والنحل شاهدة على ذلک بما تعج به من افتراءات واختلاق فرق
من المذهبیة الجدلیة إلى الإنسانیة الیقینیة
قدم علم الکلام فی تاریخه الطویل خدمات جلیلة للعقیدة الإسلامیة فی نصرة الدین ودحض الشبهات وتبکیت الخصوم إلاّ انه بقی قاصراً إلى مراحل تاریخیة متقدمة ان یتجاوز طابع الجدل الذی انعکس بقوة على مطالب العلم وموضوعاته ومناهجه وآلیاته.
إن السمة الجدلیة لهذا العلم خاصة فی المرحلة الثالثة من تاریخه افرزت عدة عوائق ساهمت فی تعطیل نمو هذا العلم بالشکل المطلوب وحبسته فی دائرة ضیقة فأفتقد الحس الموضوعی فی عرض آراء الخصوم ومناقشة المذاهب الأخرى وکتب الملل والنحل شاهدة على ذلک بما تعج به من افتراءات واختلاق فرق لا وجود لها إلاّ فی مخیلة بعض المصنفین بغیة ان تأتی تصنیفاتهم مطابقة لحدیث رسول الله(صلى الله علیه وآله): (تنقسم أمتی إلى ثلاث وسبعین فرقة…).
لقد بلغ التعصب المذهبی الذی غذاه المنحى الجدلی أن تتوسل بعض الفرق بالسلطان للتنکیل بالفرق الأخرى والشواهد التاریخیة على ذلک عدیدة.
النقلة الهامة والخروج عن دائرة الجدل إلى الصبغة البرهانیة کانت اساساً على ید الخواجة (نصیر الدین الطوسی) کما اشرنا فی الفصل الاول من هذه الدراسة فاتحدت مطالب هذا العلم بالفلسفة والتفکیر الفلسفی، (ویکفی الاشارة هنا إلى أن بدء محاولة شرح موضوعات علم الکلام بالموضوعات الفلسفیة کانت على ید أبی جعفر محمد بن الحسن الطوسی... ولکن الرائد الحقیقی لهذا التطبیق هو نصیر الدین الطوسی فی کتبه الفلسفیة والکلامیة خاصة فی کتابه (التجرید) ولیس من الإنصاف العلمی ان نجعل هذه المحاولة بدأت مع عضد الدین الایجبی ونغفل عن الإشارة إلى الرائد الاول لها کما فعل الدکتور ابراهیم مدکور فی الفلسفة الإسلامیة)(1)
ان الحقبات المظلمة لتاریخ هذا العلم من التحجر والجمود هو مظهر من مظاهرتاریخ المذهبیة المغلقة والتعصب المقیت فی تراثنا الفکری حیث لا یرى الباحث الحق إلاّ من خلال معتقده ومذهبه ولا یشاهد فی الآخر سوى معالم الکفر والزندقة والانحراف فینبری طاعناً فی المذاهب الأخرى رافعاً سیف التشهیر والتبری. حتى اشتهر عن الغزالی قوله: (اعلم ان للفرق فی هذا مبالغات وتعصبات انتهى بعض الطوائف إلى تکفیر کل فرقة سوى الفرقة التی یعزى إلیها) فکلامه لیس بعیداً عن الواقع التاریخی الذی غابت عنه الموضوعیة فی عرض المذاهب ودراسته الادیان والمدارس الاخرى وبتأمل متفحص فی کتب الملل والنحل نلمح بجلاء هذا الجنوح إلى تزکیة (مذهب الأنا) وإلغاء الآخر ورمیه فی قاع جهنم موصوفاً بکل النعوت المنفرة: فهذا (عبد القاهر البغدادی (ت 429هـ )) لا یکاد یعرض مذهباً من مذاهب الخصوم على وجهه الصحیح، و(الشهرستانی نفسه (ت 548هـ )) صاحب الملل والنحل رغم ما شرطه على نفسه فی مقدمة کتابه (وشرطت على نفسی أن أورد مذهب کل فرقة على ما وجدته فی کتبهم من غیر تعصب لهم ولا کسر علیهم دون أن أبین صحیحه من فاسده واعین حقه من باطله وان کان لا یخفى على الافهام الذکیة فی مدارج الدلائل العقلیة لمحات الحق ونفحات الباطل وبالله التوفیق) ، ولکنه لم یلتزم بما شرطه على نفسه وجاوز حد الموضوعیة فی کثیر من المسائل یقوم عن ذلک أحمد أمین (ورأیت مؤلفی العرب کالشهرستانی والقفطی وامثالهما قد خلطوا حقاً وباطلا فکثیراً ما نسبوا القول إلى غیر قائله...)، لقد بحث کل من ممثلی العلم المللی النحلی الإسلامی ضمن اطار انتمائه الفکری والعقائدی عن الفرقة التی کان بإمکانه أن یقول هنا الحقیقة وان کانت هذه الصیاغة ظاهرة ممیزة للکتابات الأولى على الأقل فی مفاهیمها المباشرة فإنها تعمقت فی وقت لاحق إلى الدرجة التی لم یعد الحاسم فیها مفهوم الانتماء المباشرللإسلام فقط بل ومضمون العقائد الإسلامیة ذاتها (فالنوبختی) الذی لم یشر إلى الحدیث (حدیث الفرقة الناجیة) لم یُفته ان یحقق واقع الانقسام القائم فی صراع الفرق ودعوى التمثل الانتمائی للفرق الناجیة (أو أهل السنة والجماعة) بعبارة (کل منهم یدعی نفسه جماعة رغم أن واقعهم أو ما ینطبق علیهم لیس معنى الاجتماع بل معنى الافتراق)(2)
ولم یفلت کذلک (ابن حزم (ت 456هـ )) و(الرازی (ت 606هـ )) و(الملطی (ت377هـ )) من هذه الضوابط الصارمة الموغلة فی التمذهب والإصرار على تمثیل الجماعة ونصرة اعتقاد أهل السنة والجماعة.
لقد کسرت النقلة من الجدل إلى التفلسف على ید الخواجة إلى حد کبیر هذا الطوق ولکنَّ.. النقلة الهامة التی حدثت فی تاریخنا المعاصر هی الانتقال من البرهان إلى الیقین هذه النقلة أبدعها باقر الصدر من خلال المذهب الذاتی فی المعرفة حیث جعل التوالد الذاتی هو الأساس القائم على اساس تراکم الاحتمالات (راجع النقلة الأولى من هذا الفصل) کما جعل الیقین الذاتی هو الأساس فی التوالد المعرفی وقنّن هذا التوالد والیقین الذاتی کما شرحنا سابقاً.
إنه الیقین الذی یحصل بتراکم القیم الاحتمالیة.. والذی یوجب الاقتناع وفناء القیم الاحتمالیة الضعیفة.. هو الطریق الاوسع لاکثر معارفنا.. ولذلک ینفتح الباب واسعاً لأی کان.. للوصول إلى معرفة الله.. وبقیة الاصول الاعتقادیة.. لن ینغلق الباب تحت أی عنوان فئوی أو مذهبی أو طبقی أنها طریقة معهودة لدى الناس جمیعاً فالنهج الاستقرائی قریب إلى اذهان الناس لانهم عهدوه فی تجاربهم الحسیة الیومیة وعهدته الحضارة الغربیة وشادت علیه بنیانها وصرحها العلمی والحضاری ولذلک فانه قریب لروح هذه الحضارة.. التی بلغت ما بلغته من اوج التقدم التقنی والقوة المادیة والصناعیة عبر المنهج العلمی الاستقرائی، ان هذه الحضارة کما سلمت به (المنهج الاستقرائی) فی مجال العلم والتکنولوجیا علیها ان تسلم به فی مجال الاعتقاد والایمان بالله.. ان المنهج الذی قاد إلى کل هذا الزخم العلمی والتقنی یقود.. بنفس الخطوات إلى الایمان بالله عزوجل إنه التحدی الکبیر الذی یُجابِهُ بِهِ باقر الصدر أرباب الحضارة الغربیة والاختبار الصعب للضمیر الإنسانی الغربی ومصداقیته.. لانه ان کان حقاً صادقاً لا تمزقه ازوداجیة مریضة لماذا لا یسلم بالنتائج على الصعید الثانی ویلتقی بالغایة المقصودة؟
إن باقر الصدر.. بنى بنظریته هذه القاعدة المنهجیة المعرفیة الصلبة للحوار مع الغرب.. وهذه القاعدة تمثّل حاجة ماسة خاصة فی ظل الدعوات الملحة والمتکررة لحوار الحضارات.. لیکون حواراً مرتکزاً على اسس علمیة ولا یتحرک فی فراغ.. ان المذهب الذاتی للمعرفة یمکن أن یشکّل الاطار المعرفی لهذا الحوار وبالتالی یقرب الهوّة بین الشرق والغرب لیلتقیا على کلمة سواء (معرفة الله)
وفی الوقت الذی یعلن الغرب فیه موت الإنسان یعمّق ویؤصل مفکرنا العظیم (نظریة الإنسان) ویقدّم بحوث العقیدة على أنها نظریة للإنسان والحیاة.. وطریق الخلاص.. فی الوقت الذی ینظر فیه الغرب لموت الإنسان وضیاع المعنى.. وتلاشی القیم یعلن باقر الصدر قیام الإنسان وانتصار القیم وحتمیة الخلاص.. الخلاص للارض وللبشریة جمعاء.. لان الإسلام فی حله للمشکلة الاجتماعیة وفی أطروحاته العقائدیة والفکریة لا یفرق بین إنسان وإنسان.. إنه یحمل حلم البشریة وهمومها.. بدون انغلاق على فئة أو عرق أو مذهب: وهذا دیدن الصدر فی مسیرته العلمیة وجهوده الجبارة فی صیاغة النظریة الإسلامیة.
انه یحمل هموم الإنسان.. ویقترح حلا اجتماعیاً للإنسان.. ویقدم منهجاً معرفیاً لکل انسان.. یمکن أن یوصله إلى الرؤیة الکونیة التوحیدیة وهو عندما یناقش المدارس والمذاهب الأخرى، ولقد بارز أهم التیارات الفکریة المعاصرة یناقشها بکل موضوعیة وتجرد.. متنزهاً عن کل تعصب أو افتراء حتى ان اصحاب هذه الاتجاهات یقرون بأن عَرْضَهُ لاطروحاتهم بلغت من النزاهة ما یفوق التصور.
لقد تجاوز باقر الصدر أطر التاریخ الغارقة فی الجدل.. لیدخل فی حوار إنسانی مفتوح یستهدف بناء المنهج الصحیح والاقتناع بالحل الامثل.
ومن الغریب حقاً أن یرمی (فهمی جدعان) رموز الفکر الإسلامی المعاصر بأنهم لم یرصدوا التحولات العلمیة والفلسفیة الحدیثة فی معرض إثبات التوحید یقول: (لکن مشکلة رواد هذا التطور انهم لم یتابعوا بالجدیة الکافیة سیر العلم الحدیث والفلسفة الحدیثة وتطوراتهما من أجل تأسیس المبدأ نفسه مبدأ التوحید فهم قد ظلوا فی الغالب الأعم یدورون حول حلقة الأدلة القدیمة التی لم تعد تعنی فی الواقع شیئاً ذا بال فی عالم بات یلزم أهله بإعادة النظر فی أنماط المعرفة والعقل الموروث کله)... ان تغییب باقر الصدر وأمثاله کمطهری والسید الطباطبائی.. هو الذی أوقع الجدعان فی الوهم.. وإلاّ فان إطلاله على إنتاج هؤلاء الفلاسفة وعلى نتاج الصدر خاصة (فلسفتنا واقتصادنا والأسس المنطقیة) کافیة للکشف عن باع هؤلاء عامة والصدر خاصة فی مقارعة الفلسفة الحدیثة والنظریات العلمیة الجدیدة واستفادتهم من هذه الثقافة المعاصرة فی تأصیل النظریة الإسلامیة وتشیید أرکانها.
هذه هی النزعة الموضوعیة الانسانیة.. التی تستهدف الیقین والاقناع وتتعالى عن الجدل والتمذهب یکرّسها السید الشهید محمد باقر الصدر أیضاً فی حواره مع الاتجاهات الأخرى داخل الفکر الإسلامی.. فرغم تعاطیه مع أکثر المسائل حساسیة فی تاریخنا الإسلامی (خلافة رسول الله(صلى الله علیه وآله) ومسألة ولایة الإمام علی(علیه السلام) وقضیة فدک.. ودور الأئمة(علیهم السلام) فی التاریخ ومسألة الإمام المهدی(علیه السلام)).. ورغم النفس المذهبی الطاغی فی التعامل مع مثل هذه القضایا.. إلاّ أن السید محمدباقر الصدر استطاع أن یبحث هذه المسائل باسلوب علمی رصین استفاد فیه من الآلیات والتحولات المنهجیة التی ابتکرها.. وادرک نتائج هامة.. لا تزال مثار بحث وتحلیل العدید من الدراسات.
لقد انطبع خطابه السیاسی أیضاً بهذه السمة حیث حرص أن یکون رمزاً.. لکل المسلمین فی العراق.. بل لکل العراقیین حتى وصفته الصحافة البرطانیة فی السنوات الأخرة بأنه کان مؤهلا لیجسد ماندیلا العراق (4)
المصادر :
1- الشهرستانی، الملل والنحل، تحقیق محمد سید کیلانی، ص16.
2- جعفر آل یاسین، الفکر الإسلامی عند العرب، دار المناهل، 1993 ص98
3- فهمی جدعان: اسس التقدم،، ص544.
4- الفینانشال تایمس: 12 آذار 1997 مقالة للصحفی الشهیر ادورد مورنمر عن محمد باقر الصدر (الرجل الذی کان من الممکن أن یکون ماندیلا العراق) (نقلا عن تجدید الفقه الإسلامی لشبلی ملاط ص11).



source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

شهادته عليه السلام
آداب رسول الله ( صلى الله علیه و آله ) فی الماکل ...
هل كان لبيوت المدينة أبواب
معالم الحجّ في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام
ولادة الإمام السجاد ( عليه السلام )
معنويات الصلاة
الملل والنحل
في مدح الخمول و الاعتزال
زيارة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الفرق بین الرسول و النبی و المُحدِّث

 
user comment