إختلفت الأقوال في مدفن السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) ومحلّ قبرها ، إختلافاً عجيباً. ونحن نستعرض تلك الأقوال ، ثم نقوم بتسليط الأضواء عليها ، كمحاولة لمعرفة القول الصحيح :
القول الأول : أنّها توفّيت في المدينة المنوّرة ، ودُفنت هناك.
القول الثاني : أنّها دُفنت في ضواحي مدينة دمشق في الشام.
القول الثالث : أنّها هاجرت إلى بلاد مصر ، وعاشت هناك حوالي سنة واحدة ، ثم توفّيت ودُفنت في مدينة القاهرة.
وقبل أن نَضَع هذه الأقوال الثلاثة على طاولة التشريح والمُناقشة نقول : أليس من أعجب الأعاجيب أن يختلف المؤرّخون في تاريخ وفاة السيدة زينب الكبرى ومكان دفنها ، مع الإنتباه إلى أنّها ثانية سيدة في أهل البيت النبوي المكرّم ؟!
ففي ضاحية دمشق .. يوجد مشهد مُشيّد ، يقصده الناس من شتّى البلاد ، ويُنسب إلى السيدة زينب عليها السلام.
وفي القاهرة ـ أيضاً ـ مشهد عظيم يرتاده المِصريّون وغيرهم ، وهو يُنسَب إلى السيدة الزينب.
أجل ..
ولكن .. قد يزول هذا التعجّب ، بعد ما علمنا بالظلم الشامل والمستمرّ الذي ظلمه التاريخ لآل رسول الله الطاهرين .. رجالاً ونساءً ! حيث إنّ أكثر الكُتُب التاريخيّة ـ الموجودة حالياً ـ مكتوبة بأقلام معادية لآل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
ويزول التعجّب ـ أيضاً ـ عندما نعلم بمحاربة أكثر الحكومات للكُتُب والمؤلّفات التي كانت تتحدّث عن أهل البيت ( عليهم السلام ).
محاربتها للكتب عن طريق الإحراق والإتلاف والإبادة ، ثم محاربتها عن طريق عدم السماح بطبعها أو نشرها أو دخولها في البلاد الإسلاميّة !!
دراسة القول الأول
لقد كان القول الأوّل : أنّها توفّيت في المدينة المنوّرة فدُفنت هناك.
ودليل هذا القول : هو أنّه ثَبَتَ ـ تارخيّاً ـ أن السيدة زينب وصلت إلى المدينة ودخلت إليها ، ولم يثبت خورجها من المدينة.
ونحن ـ في مجال توضيح هذا القول الأول ـ نذكُرُ كلام المرحوم السيد محسن الأمين ثم نعلّق عليه بعد ذلك.
كلام السيد الأمين
قال السيد محسن الأمين العاملي ما يَلي :
يَجبُ أن يكون قبرها في المدينة المنوّرة ، فإنّه لم يثبت أنها ـ بعد رجوعها للمدينة ـ خَرجت منها ، وإن كان (1) تاريخ وفاتها ومحل قبرها بالبقيع ( مجهولاً ) ، وكم من أهل البيت أمثالها من جُهِلَ محلّ قبره وتاريخ وفاته ، خصوصاً النساء. (2)
تعليق على كلام السيد الأمين
رغم أنّنا نُقدّر للسيد الأمين مكانته العلميّة ومؤلّفاته القيّمة ، ولكنّنا نقول :
إنّ التحقيق في القضايا التاريخيّة عام للجميع ، وليس وقفاً على إنسان معيّن ، فإذا كان السيد الأمين يقول بحُجّيّة الظن حتى في المسائل التاريخية ، فليست هذه المزية خاصّة به ، بل يجوز لغيره ـ أيضاً ـ أن يُبدي رأيه ، وخاصّة بعد الإنتباه إلى « حريّة الرأي » المسموح بها في هذه الأمور والمواضيع !
وعلى هذا الأساس .. فنحن نُناقشه في رأيه ونظريّته ، ونقول :
أولاً :
إنّه لا يوجد في المدينة المنوّرة ـ وفي مقبرة البقيع بصورة خاصّة ـ قبرٌ للسيدة زينب عليها السلام.
فكيف يُمكن أن يكون قبرها هناك ، ولم يعلم بذلك أحد ؟!
مع الإنتباه إلى الشخصية المرموقة التي كانت للسيدة زينب في أسرتها ، وعند الناس جميعاً ؟!
فهل ماتت في المدينة ولم يحضر تشييع جنازتها أحد ؟!
ولم يشهد دفنها أحد ؟!
ولم يعلم بموضع قبرها أحد ؟
ولم يتحدّث أحد من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) عن هذا الموضوع المهم ؟! وخاصّة الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق ( عليهم السلام ).
ثمّ .. كيف ولماذا لم يُشاهد أحد من الأئمّة الطاهرين أو من شخصيّات بني هاشم .. عند قبرها ؟!
وكيف لم يتحدّث واحد منهم عن زيارة قبرها ، أو عن تعيين موضع قبرها في المدينة ؟! مع ما ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول الثواب العظيم لزيارة قبرها. (3)
وما هي الدواعي لهذا الغموض والتعتيم عن سبب وتاريخ وفاتها ومكان دفنها .. حتى من رجالات أهل البيت ؟!
فهل كانت هناك أسباب وحِكَم تَفرض إخفاء قبرها ، كما كانت ذلك بالنسبة إلى قبر والدتها السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ؟
أم أنّ هناك حقائق وأخباراً خَفيَت عنّا ؟!
هذه أسئلة حائرة .. تجعلنا لا نوافق على القول الأوّل !
ثانياً :
هناك أقوال تقول : إنّها خرجت من المدينة .. إلى الشام أو إلى مصر ، وهي تمنع من موافقتنا على القول الأوّل ، لأنّه معارض بقولين آخَرين .. لكلّ واحد منهما وثائقهما وأدلّتهما.
ثالثاً :
لَيتَ شعري هل يأذن لي السيد الأمين ( رحمه الله ) أن أسأله :
إن كانت السيدة زينب دُفنت في المدينة المنوّرة ، وكان المرقد الموجود في قرية الراوية في ضاحية دمشق قبر امرأة مجهولة النسب ، كما ادّعى ذلك السيد الأمين ، فلماذا دُفنَ السيد بعد وفاته عند مدخل مقام السيدة زينب بضاحية دمشق ؟!
فهل كان ذلك بوصيّةٍ منه ؟!
أم أنّ أولاده إختاروا لقبره ذلك المكان .. وهم يعلمون نظريّة والدهم حول ذلك المقام ؟!
دراسة القول الثاني :
خلاصة القول الثاني هي : أنّ السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) سافرت مع زوجها إلى الشام بسبب المجاعة التي وقعت في المدينة المنوّرة ، وقد كانت لعبد الله بن جعفر في ضواحي دمشق ضَيعَة ( بستان أو مزرعة ) فسافرت السيدة زينب ( عليها السلام ) إلى هناك ، وبعد وصولها ـ بمدّة ـ مَرِضَت وماتت ودُفِنت هناك.
جاء في كتاب كامل البهائي : « رُوي أنّ أمّ كلثوم أُختَ الحسين ( عليه السلام ) توفّيت بدمشق ( سلام الله عليها ). (4)
وقال ابن بطوطة ـ في رحلته المعروفة ـ :
« وبقرية قِبَلي البَلَد ـ أي : بلدة دمشق ـ على فرسخ منها : مشهد أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) مِن فاطمة ( عليها السلام ).
ويُقال :
إنّ اسمها : زينب ، وكَنّها النبي « أمّ كلثوم » لِشَبَهِها بخالتها أمّ كلثوم بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعليه مسجد كبير ، وحوله مسكن وله أوقاف ، ويُسمّيه أهل دمشق : قبر السِت أمّ كلثوم. (5)
وهنا أكثر من سؤال يتبادر إلى الذهن حول هذا القول :
السؤال الأول : إنّ التاريخ لم يَذكر مجاعةً وقعت في المدينة المنوّرة !! ففي أيّ سنة كانت تلك المجاعة ؟
وكم دامت حتى اضطرّ آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الهجرة إلى الشام ؟
السؤال الثاني : إذا كانت وفاة السيدة زينب ( عليها السلام ) في السنة الثانية والستّين ـ كما ذكره بعض المؤرّخين ـ فلماذا لم تكن في المدينة المنوّرة حينما حدثت مجزرة « واقعة الحَرّة » ؟
إذ لا يوجد لها ـ ولا لزوجها عبد الله بن جعفر ـ أيّ إسم أو أثَر ، فهل وقعت المجاعة قبل واقعة الحَرّة أم بعدها ؟!
هذه أسئلة وتساؤلات متعدّدة لا جواب لها سوى الإحتمالات ، والظنّ الذي لا يُغني عن الحقّ شيئاً.
هذا .. وقد حاول بعض المعاصرين في كتاب سمّاه « مرقد العقيلة » أن يُثبت مدفنها في دمشق .. لا القاهرة ، واستدلّ بأدلّة وتَشَبّث ببعض الأقوال ، ولكنّها لا تَفي بالغَرض ، لأنّ الأدلّة غير قاطعة ، والأقوال غير كافية للإحتجاج والإستدلال ، وكما يُقال : « غير جامعة وغير مانعة ».
وممّا يُضعّف القول الثاني : أنّه حينما أرادوا تجديد بناء حرم السيدة زينب ( عليها السلام ) الموجود في ناحية
دمشق ـ قبل حوالي أربعين سنة ـ وحَفَروا الأرض لبناء الأُسُس والأعمدة ووصلوا إلى القبر الشريف ، ووجدوا عليه صخرة رُخام .. هذه صورتها :
هذا قبر زينب الصغرى المكنّاة بام كلثوم ابنت علي بن ابي طالب امّها فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين ابنت سيّد المرسلين محمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم
فإنّ صحّت هذه الكتابة فالقبر الموجود في ناحية دمشق قبرٌ لسيدة من بنات الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) واسمها : زينب الصغرى ، وهذا يدلّ على مدى إهتمام الإمام ( عليه السلام ) بهذا الإسم حيث اختاره لأكثر من بنت واحدة من بناته.
يُضاف إلى ذلك .. أنّنا نجد في بطون كتب التاريخ وصف السيدة زينب بـ « الكبرى » للفرق بينها وبين أختها.
وفي مجال دراسة القول الثاني .. هناك كلام طويل للسيد محسن الأمين في مناقشته لهذا القول ، ونحن نذكره ـ هنا ـ تتميماً للدراسة الموضوعيّة.
وليس معنى نقلنا لكلامه هو تأييدنا له في قوله ، بل .. إنّ هذا يعني أنّنا نضع المعلومات أمام الباحث ، ليكون على بصيرة أكثر من النقاط التي يُمكن أن تنفعه في إستكشافه لمحور البحث ، مع التنبيه المُسبَق ـ مِنّا ـ على إستغرابنا من كلامه ! ومن لهجته في التعبير عند الكتابة حول هذا الموضوع !!
وإليك نصّ كلامه :
« ... وفيما أُلحِقَ برسالة ( نُزهة أهل الحَرَمين في عمارة المشهدين ) في النجف وكربلاء ، المطبوعة بالهند ، نقلاً عن رسالة ( تحيّة أهل القبور بالمأثور ) عند ذكر قبور أولاد الأئمة ( عليهم السلام ) ما لفظه :
ومنهم : زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكُنيَتها أم كلثوم ، قبرها في قرب زوجها عبد الله بن جعفر الطيار خارج دمشق الشام معروف ، جاءت مع زوجها عبد الله بن جعفر أيام عبد الملك بن مروان إلى الشام سنة المَجاعة ، ليقوم عبد الله بن جعفر في ما كان له من القرى والمزارع خارج الشام ، حتى تنقضي المجاعة ، فماتت زينب هناك ودُفنت في بعض تلك القُرى ، هذا هو التحقيق في وجه دفنها هناك ، وغيره غلط لا أصل له ، فاغتنم .. فقد وَهَمَ في ذلك جماعة فخبطوا العشواء ».
وفي هذا الكلام من خبط العشواء مواضع :
أولاً : إنّ زينب الكبرى لم يقل أحد من المؤرّخين أنها تُكنّى بأمّ كلثوم ، فقد ذكرها المسعودي والمفيد وابن طلحة وغيرهم ولم يقل أحد منهـم أنّهـا تكنّـى أم كلثـوم (6) ، بل كلّهم سمّوها : زينب الكبرى وجعلوها مقابل أمّ كلثوم الكبرى ، وما استظهرناه من أنّها تُكنّى أمّ كلثوم ظهر لنا ـ أخيراً ـ فساده.
ثانياً : قوله : « قبرها في قرب زوجها عبد الله بن جعفر » ليس بصواب ولم يقله أحد ، فقبر عبد الله بن جعفر بالحجاز ، ففي « عمدة الطالب » و « الإستيعاب » و « أُسد الغابة » و « الإصابة » وغيرها : أنّه مات بالمدينة ودُفن بالبقيع. وزاد في « عُمدة الطالب » القول بأنّه مات بالأبواء ودُفن بالأبواء ، ولا يوجد قرب القبر المنسوب إليها بالرواية قبر يُنسب لعبد الله بن جعفر.
ثالثاً : مجيؤها مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى الشام سنة المجاعة .. لم نرَهُ في كلام أحد من المؤرّخين ، مع مزيد التفتيش والتنقيب. وإن كان ذُكرَ في كلام أحد من أهل الأعصار الأخيرة فهو حدس واستنباط كالحَدس ، والإستنباط من صاحب ( التحيّة ). فإنّ هؤلاء لَمّا توهّموا أنّ القبر الموجود في قرية راوية خارج دمشق منسوب إلى زينب الكبرى ، وأنّ ذلك أمرٌ مفروغ منه ـ مع عدم ذكر أحد من المؤرّخين لذلك ـ استنبطوا لتصحيحه وجوهاً بالحدس والتخمين .. لا تَستند إلى مستند ، فبعض قال : « إنّ يزيد ( عليه اللعنة ) طلبها من المدينة فعظم ذلك عليها ، فقال لها ابن أخيها زين العابدين ( عليه السلام ) : « إنّك لا تَصلين دمشق » فماتَت قبل دخولها. وكأنّه هو الذي عَدّه صاحب ( التحيّة ) غلطاً لا أصل له ووقع في مثله ، وعَدّه غنيمةً وهو ليس بها ، وعَدّ غيره خبط العشواء وهو منه. فاغتَنِم .. فقد وَهَمَ كلّ من زَعَم أنّ القبر الذي في قرية راوية منسوب إلى زينب الكبرى ، وسبب هذا التوهّم : أنّ مَن سمع أنّ في راوية قبراً يُنسَب إلى السيدة زينب سَبَقَ إلى ذهنه زينب الكبرى ، لتبادر الذهن إلى الفرد الأكمل ، فلمّا لم يجد أثراً يدلّ على ذلك لجأ إلى استنباط العِلَل العليلة. ونظير هذا أنّ في مصر قبراً ومشهداً يُقال له : « مشهد السيدة زينب » ، وهي زينب بنت يحيى ، وتأتي ترجمتها ، والناس يتوهّمون أنّه قبر السيدة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولا سَبَبَ له إلا تبادر الذهن إلى الفرد الأكمل.
وإذا كان بعض الناس إختلقَ سبباً لمجيء زينب الكبرى إلى الشام ووفاتها فيها ، فماذا يختلِقون لمجيئها إلى مصر ؟! وما الذي أتى بها إليها ؟
لكن بعض المؤلفين من غيرنا رأيتُ له كتاباً مطبوعاً بمصر ـ غاب عنّي الآن إسمه ـ ذكر لذلك توجيهاً « بأنّه يجوز أن تكون نُقلت إلى مصر بوجهٍ خفي على الناس ». مع أنّ زينب التي هي بمصر هي زينب بنت يحيى حَسَنيّة أو حُسَينيّة كما يأتي ، وحال زينب التي برواية حالُها.
رابعاً : لم يَذكر مؤرّخ أنّ عبد الله بن جعفر كان له قُرى ومزارع خارج الشام حتى يأتي إليها ويقوم بأمرها ، وإنّما كان يَفِدُ على معاوية فيُجيزُه ، فلا يَطول أمر تلك الجوائز في يده حتّى يُنفِقَها بما عُرِف عنه من الجود المُفرط. فمِن أينَ جاءته هذه القُرى والمزارع ؟ وفي أيّ كتابٍ ذُكرت مِن كُتُب التواريخ ؟!
خامساً : إن كان عبد الله بن جعفر له قرى ومزارع خارج الشام ـ كما صَوّرته المُخيّلة ـ فما الذي يَدعوه للإتيان بزوجته زينب معه ؟! وهي التي أُتيَ بها إلى الشام أسيرةً بزيّ السبايا وبصورة فظيعة ، وأُدخلت على يزيد مع ابن أخيها زين العابدين وباقي أهل بيتها بهيأةٍ مُشجية ؟!
فهل من المتصوّر أن تَرغَب في دخول الشام ورؤيتها مرّةً ثانية وقد جرى عليها بالشام ما جرى ؟!
وإن كان الداعي للإتيان بها معه هو المجاعة بالحجاز .. فكان يُمكنه أن يَحمل غلات مزارعه ـ الموهومة ـ إلى الحجاز أو يبيعها بالشام ويأتي بثمنها إلى الحجاز ما يُقوّتها به ، فجاء بها إلى الشام لإحراز قوتها ، فهو ممّا لا يقبله عاقل ، فابن جعفر لم يكن مُعدَماً إلى هذا الحدّ ، مع أنّه يتكلّف من نفقة إحضارها وإحضار أهله أكثر من نفقة قوتها ، فما كان ليُحضرها وحدها إلى الشام ويترك باقي عياله بالحجاز جياعاً !!
سادساً : لم يُتَحقّق أنّ صاحبة القبر الذي في راوية تُسمّى زينب لو لم يُتحقّق عدمه ، فضلاً عن أن تكون زينب الكبرى ، وإنّما هي مشهورة بأمّ كلثوم ». (7) إنتهى كلامه.
دراسة القول الثالث :
نُذكّر أنّه كان القول الثالث : هو أنّ مرقد السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) في مصر.
وقد كان هذا القول ـ ولا يزال ـ إحدى الإحتمالات لِمَكان المرقد الشريف ، وله أدلّته والأفراد القائلون به.
لكنّ بعد إكتشاف وانتشار كتاب « أخبار الزينبات » ـ للعُبيدلي ـ صار هذا القول أقوى الإحتمالات الثلاثة لمكان قبر السيدة زينب الكبرى ، لقوّة الأُسُس المَبنيّة عليها هذا القول ، وإليك بعض التوضيح لهذا الكلام :
لقد ذكر العُبيدلي أخباراً وتصريحات كثيرة ومهمّة حول رحلة السيدة زينب ( عليها السلام ) إلى مصر ، وذلك في كتابه « أخبار الزينبات ».
لكن بقيَ هذا الكتاب ـ طيلة هذه القرون ـ في زوايا الخمول والنسيان ، وفي أروقة المكتبات في رفوف الكتُب المخطوطة التي يظلِّلُ عليها غبار الجهل والإهمال.
وقد أمر بطبعه بصورة مستقلّة ـ ولاول مرّة ـ المرحوم آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي ( رحمه الله ) في مدينة قم عام 1401 هـ ، مع تعليقات مفيدة جداً. فقال ـ في مقدّمته على هذا الكتاب ـ ما خلاصته :
من هو العُبيدلي ؟
وما هو كتاب « أخبار الزينبات » ؟
الجواب : هو العلامة الجليل ، الشريف الطاهر ، المُحَدّث المُفَسّر ، النَسّابة ، الثِقَة الأمين ، أبو الحسين : يحيى العُبيدلي المَدَني ، العقيقي الأعرجي ، بن الحسن بن جعفر الحُجّة بن عبيد الله الأعرج ، ابن الحسين الأصغر ، ابن الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ).
وُلدَ العُبيدلي سنة 214 هـ في المدينة المنوّرة ، وتوفّي سنة 277 في مكّة المكرّمة. وهو يُعتَبَر من علمائنا بالمدينة المنوّرة ، وساداتها الشرفاء الكُرماء في القرن الثالث الهجري.
وقد روى عنه النجاشي المتوفّى سنة 450 هـ ، والحافظ أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة الهمداني ، المتوفّى عام 333 ، والشيخ المفيد ، والشيخ الصدوق في كتابه : « مَن لا يحضره الفقيه » ، والشيخ الطوسي ، وابن شهر آشوب ، والعلامة الحلّي في « تذكرة الفقهاء » وغيرهم من علماء الرجال.
كتاب أخبار الزينبات
يُعتبرُ كتاب « أخبار الزينبات » مِن أهمّ كتب التراجم والرجال ، ومِن الوثائق القويّة ، وأقدم المصادر في هذا
الشأن ، وقد اشتملَ على فوائد لم توجَد في غيره.
وإليك بعض المعلومات حول النسخة المخطوطة لهذا الكتاب :
وُجدَ هذا الكتاب في مدينة حَلَب ، قد كُتبَ بتاريخ سنة 676 هـ بخط الحاج محمد بلتاجي الطائفي ، المجاور للحرم النبوي الشريف ، والكتاب منقول عن أصلٍ مؤرّخ بتاريخ سنة 483 هـ ، وبخط السيد محمد الحسيني الواسطي الأصل.
مقتطفات من ( أخبار الزينبات )
ونحن نذكر بعض المقتطفات من هذا الكتاب الثمين ، وهي تُشَكّل الأدلّة على قوّة القول الثالث :
« زينب الكبرى بنت علي بن أبي طالب ، أمّها : فاطمة الزهراء بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وُلدت في حياة جدّها ، وخرجت إلى عبد الله بن جعفر ، فولدت له أولاداً ، ذكرناهم في كتاب النَسَب ». (8)
« حدّثنا زهران بن مالك ، قال سمعتُ عبد الله بن عبد الرحمن العتبي يقول : حدّثني موسى بن سلمة ، عن الفضل بن سهل ، عن علي بن موسى ، قال :
أخبرني قاسم بن عبد الرزاق ، وعلي بن أحمد الباهلي ، قالا : أخبرنا مُصعَب بن عبد الله قال :
كانت زينب بنت علي ـ وهي بالمدينة ـ تُؤلّبُ الناس على القيام بأخذ ثار الحسين. (9)
فلمّا قام عبد الله بن الزبير بمكّة ، وحَمَل الناس على الأخذ بثار الحسين ، وخلع يزيد ، بَلَغ ذلك أهل المدينة ، فخطبت فيهم زينب ، وصارت تؤلّبهم على القيام للأخذ بالثار ، فبَلَغَ ذلك عمرو بن سعيد ، فكتب إلى يزيد يُعلِمُه بالخبر.
فكتب [ يزيد ] إليه : « أن فَرّق بينها وبينهم » فأمر أن يُنادى عليها بالخروج من المدينة والإقامة حيث تشاء.
فقالت : « قد علم الله ما صار إلينا ، قُتِل خَيرُنا ، وانسَقنا كما تُساق الأنعام ، وحُمِلنا على الأقتاب ، فوالله لا خرجنا وإن أُهريقَت دماؤنا ».
فقالت لها زينب بنت عقيل : « يا ابنة عمّاه ! قد صدقنا الله وعده وأورثنا الأرض نتبوّأُ منها حيث نشاء.
فطيبي نفساً وقَرّي عيناً ، وسيجزي الله الظالمين.
أتُريدين بعد هذا هوانا ؟!
إرحَلي إلى بلد آمِن »
ثمّ اجتمع عليها نساء بني هاشم ، وتَلَطّفنَ معها في الكلام ، وواسَينَها. (10)
وبالإسناد المذكور ، مرفوعاً إلى عبيد الله بن أبي رافع (11) ، قال : سمعتُ محمّداً أبا القاسم بن علي يقول :
« لمّا قَدِمَت زينب بنت علي من الشام إلى المدينة مع النساء والصبيان ، ثارت فتنةٌ بينها وبين عمرو بن سعيد الأشدَق ( والي المدينة مِن قِبَل يزيد ).
فكتب إلى يزيد يُشير عليه بنقلها من المدينة ، فكتَبَ له بذلك ، فجهّزها : هيَ ومَن أراد السفر معها من نساء بني هاشم إلى مصر ، فقَدِمتها لأيّام بَقيت من رجب ». (12)
حَدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جَدّي ، عن محمد بن عبد الله ، عن جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن الحسن بن الحسن ، قال : « لمّا خرجت عمّتي زينب من المدينة خرج معها مِن نساء بني هاشم : فاطمة إبنة عمّي الحسين ، وأُختها سكينة ». (13)
ورُويَ بالسند المرفوع إلى رقيّة بنت عقبة بن نافع الفهري ، قالت :
« كنتُ فيمَن استَقبَل زينب بنت علي لَمّا قَدِمَت مصر .. بعد المصيبة ، فتقدّم إليها مُسلمة بن مُخلّد ، وعبد الله بن حارث ، وأبو عميرة المزني ، فعَزّاها مسلمة وبكى ، فبَكت وبكى الحاضرون وقالت : « هذا ما وَعَد الرحمن وصدق المرسلون ».
ثمّ احتملها إلى داره بالحمراء ، فأقامت به أحد عَشَرَ شهراً ، وخمسة عشر يوماً ، وتُوفّيَت ، وشَهِدَت جنازتها ، وصلّى عليها مسلمة بن مُخلّد في جمع [ من الناس ] بـ [ المسجد ] الجامع ، ورجعوا بها فدفنوها بالحمراء ، بمخدعها من الدار بوصيّتها ». (14)
حدّثني إسماعيل بن محمد البصري ـ عابد مصر ونزيلها ـ قال : حدّثني حمزة المكفوف قال : أخبرني الشريف أبو عبد الله القرشي قال : سمعتُ هند بنت أبي رافع بن عبيد الله بن رقيّة بنت عقبة بن نافع الفهري تقول :
« تُوفّيت زينب بنت علي عشيّة يوم الأحد ، لخمسة عشر يوماً مضت من رجب ، سنة 62 من الهجرة ، وشَهِدتُ جنازتها ، ودُفنت بمخدعها بدار مسلمة المستجدّة بالحمراء القصوى (15) ، حيث بساتين عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. (16)
مناقشات حول القول الثالث
أقول : لقد قرأتَ أنّ العُبيدلي ذكر هجرتها إلى مصر ، وأنّ مسلمة بن مُخلّد استقبَلَها ... إلى آخر كلامه.
وتَرى بعض المؤلّفين يُضعّف سفرها إلى مصر ، ويستدلّ لكلامه « أنّ مسلمة بن مُخلّد كان من أصحاب معاوية ، ومن المنحرفين عن الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فكيف يستقبل السيدة زينب ويُنزلها في داره » ؟
ونحن نقول : إنّ هذا الكلام لا يُضعّف القول الثالث ، لأنّ مجرّد إستقبال الوالي ـ وهو مُسلمة بن مُخلّد ـ لشخصيّة في مستوى السيدة زينب الكبرى .. ليس بأمرٍ عجيب !
مع الإنتباه إلى أنّه : أولاً :
إنّ مسلمة كان والياً من قِبَل بني أميّة ، وكان اللازم عليه أن يستقبل السيدة زينب ( عليها السلام ) تنفيذاً منه للمخطّط الأموي الذي أمَرَ بإبعاد السيدة زينب من المدينة المنوّرة.
ولعلّ يزيد هو الذي أمر مسلمة باستقبال السيدة زينب ، وإسكانها في قصره ، لكي تكون تحرّكاتها تحت مراقبته وإشرافه المباشر.
يُضاف على هذا ، أنّنا نقول :
أما كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة من قِبَل معاوية ثمّ مِن قِبَل يزيد بن معاوية ، ومع كلّ ذلك فإنّنا نقرأ ـ في التاريخ ـ أنّه لمّا أراد يزيد إرجاع عائلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى المدينة أمَرَ النعمان بن بشير أن يُهيّئ لهنّ وسائل السفر ؟
وأن يُرافقهنّ من الشام إلى المدينة ، مُراعياً الإحترام والتأدّب ؟
فهل مِن المعقول أنّ النعمان بن بشير ـ مع سوابقه ـ يُرافق عائلة الإمام الحسين من الشام إلى كربلاء ، ثمّ إلى المدينة المنوّرة مع مراعاة التأدّب والإحترام اللائق بهن ؟!
فإذا كان ذلك ممكناً ، فلا مانع من أن يستقبل مسلمة بن مخلّد السيدة زينب ( عليها السلام ) ويُنزلها في داره.
ثانياً : إنّ مسلمة كان يعلم تعاطف أهل مصر مع أهل البيت النبوي ، وكان يسمع بإستعداد الناس رجالاً ونساءاً لاستقبال السيدة زينب ( عليها السلام ) ، فهو لا يَتَمَكّن مِن أن لا يخرج لإستقبال هذه السيدة العظيمة ، التي يعلم مدى محبّة وتعاطف المصريّين لوالدها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
وخاصّة وأنّه يسمع بخروج الجموع الغفيرة من مختلف طبقات الشعب لإستقبالها .. إستقبالاً مقروناً بالبكاء والدموع وهياج مشاعر الحزن لما جرى على آل الرسول الطاهرين في فاجعة كربلاء الدامية.
_____________
1 ـ وإن كان : أي حتّى لو كان تاريخ وفاتها ومحل قبرها مجهولاً.
2 ـ موسوعة أعيان الشيعة ، للسيد محسن الأمين ، الطبعة الحديثة عام 1403 هـ ، ج 7 ص 140 .
3ـ وقد ذكرنا ذلك في ص 35 مِن هذا الكتاب.
4 ـ كامل البهائي ، ج 2 ، ص 302.
5 ـ رغم مُضيّ أكثر من ألف وثلاثمائة وستّين عاماً على تاريخ وفاة السيدة زينب ( عليها السلام ) إلا أن الوثائق التاريخيّة لتحديد مكان قبر هذه السيدة العظيمة .. بصورة قاطعة ، لا زالت ناقصة يبقى الأمل في العثور على قرائن تاريخيّة مؤيّدة لأحد القولين ـ الثاني أو الثالث ـ في السنوات القادمة ، إن شاء الله تعالى ، إلا أنّ لكلّ قول من الأقوال الثلاثة المذكورة قائلين يميلون إليه ، لا لشيء إلا لإطمئنانهم النِسبي بوثائق ذلك القول ، وكان السيد الوالد ( مؤلف هذا الكتاب ) يميل ـ بقوّة ـ إلى القول بأنّ قبرها في مصر ، وإنّني أتصوّر أنّه لو كان كتاب ( أخبار الزينبات ) للعُبيدلي يُطبَع قبل مئات السنين لكان أكثر المحققين يقولون بدفنها في مصر.
إلا أنّ هذا لا يعني ـ أيضاً ـ القطع واليقين بذلك ، حتى يلزم منه إهمال القبر الموجود في ضاحية دمشق بالشام. فالتوسّل إلى الله تعالى بالسيدة زينب وطلب الشفاعة منها لقضاء حوائج الدنيا والآخرة .. له دوره الكبير ، سواء كان عند القبر في سوريا أو في مصر ، خاصةً مع احتمال كون ذلك القبر مدفناً لبنت ثانية لأمير المؤمنين ( عليه السلام ). وقد نَشَرت مجلة « أهل البيت » الصادرة من لبنان ، في تاريخ 1/صفر/1414 هـ مقالاً تحت عنوان : « ربع مليون زائر لمقام السيدة زينب في دمشق » ، ممّا يدلّ على أهمّية هذا المقام أيضاً.
ويُحكى أنّ هناك إعتقاداً عند المسلمين الشيعة في لبنان أن المرأة التي لم تُرزَق النسل والذريّة تَحضر عند قبر السيدة زينب في دمشق ، في ليلة أو يوم أربعين الإمام الحسين ( عليه السلام ) وتتوسّل إلى الله تعالى بجاه السيدة زينب ( عليها السلام ) ليتفضّل عليها بنعمة الولد ، وترى النتائج المطلوبة بسرعة !! المحقق
6 ـ كلام عجيب وادّعاء غريب ، تشهد الوثائق التاريخيّة الكثيرة على خلافه ! المحقق
7 ـ أعيان الشيعة ، للسيد محسن الأمين ، ج 7 ص 140.
8 ـ كتاب « أخبار الزينبات » ص 111، طبع ايران عام 1401 هـ.
9 ـ تُؤلِّبُ : تُحَرِّصُ. المعجم الوسيط.
10 ـ أخبار الزينبات ص 115 ـ 117.
11 ـ مَرفوعاً : السَنَد المرفوع : هي الرواية التي لم تُذكر فيه أسماء الوسائط ـ من الرواة ـ أو أسماء بعضهم.
12 ـ أخبار الزينبات ص 118.
13 ـ نفس المصدر ص 119.
14 ـ المخدَع ـ بضمّ الميم وفتحه ـ : البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير. كما في مجمع البحرين للطريحي. والمقصود : الحُجرة الصغيرة التي لها باب في الحجرة الكبيرة. وكان هذا متعارفاً في هندسة البناء في الزمن القديم. وكان يُعبّر عنها بـ « الخزانة ».
15 ـ الحمراء القُصوى : منطقة كانت بين القاهرة ومدينة الفسطاط ، في الزمن القديم ، وكانت تُعرف أيضاً بـ « قناطر السباع ». كما يُستفاد من المقريزي في كتابه « المواعظ والاعتبار » ج 2 ص 202.
16 ـ أخبار الزينبات ص 121 ـ 122.