إنّ للتوحيد مراتب قد بيّنها علماء الاِسلام في كتبهم العقائدية و برهنوا عليها من الكتاب والسنة والعقل الصريح، و بما أنّ بحثنا مركّز على التوحيد في العبادة والشرك فيها، نذكر مراتب التوحيد بايجاز ، ثمّ نتكلم عن القسم الاَخير بالتفصيل، و في فصل خاص. فنقول: للتوحيد مراتبَ عديدة وهي:
الاَولى: التوحيد في الذات
والمراد منه أنّه سبحانه واحد لا نظير له، فرد لا مثيل له، و يدلّ عليه مضافاً إلى البراهين العقلية قوله سبحانه:"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصير" (1)
وقوله سبحانه: "قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ * اللّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ*وَلَمْ يُولَد* وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد" (2)
وقوله سبحانه:"هُوَ اللّهُ الواحِدُ القَهّارُ"(3)
وقوله سبحانه:"وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ"(4)
إلى غيرها من الآيات الدالة على أنّه واحد لا نظير له، و لا مثيل ولا ثانٍ له و لا عديل.
وأمّا البراهين العقلية في هذا المجال و إبطال (الثنوية) و (التثليث) فموكول إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.
إنّ هناك معنى آخر للتوحيد في الذات وهو انّه سبحانه بسيط لا جزء له، فرد ليس بمركب من أجزاء، و لعلّ قوله سبحانه: «في سورة الاِخلاص» "قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد" يعني هذا القسم من التوحيد كما أنّ الآية الاَخيرة أعني قوله: "وَ لَمْ يَكُنْ لَه كُفواً أَحَد" تهدف إلى معنى التوحيد في الذات بالمعنى الاَوّل، وبهذا يندفع إشكال التكرار فيها.
الثانية: التوحيد في الخالقية
والمراد منه أنّه ليس في صفحة الوجود خالق غير اللّه، ولا فاعل سواه، و أنّكلّ ما يوجد في صفحة الوجود من فواعل و أسباب فإنّما هي غير مستقلات في التأثيرات و إنّما توَثر بإذنه سبحانه وأمره، فجميع الاَسباب والمسببات مخلوقة للّه بمعنى أنّها تنتهي إليه.
و يدل على التوحيد بهذا المعنى "قُلِ اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ القَهّار "(5)
و قوله سبحانه: "اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيٍءٍ وَهُوَ عَلى كلِّ شيّءٍ وَكيل" (6)
وقوله سبحانه: "ذلِكُمُ اللّهُ ربّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إلهَ إِلاّ هُوَ" (7)
الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير
والمراد منه أنّ للكون مدبّراً و متصرفاً واحداً لا يشاركه في التدبير شيء فهو سبحانه المدبّر للعالم، و أنّ تدبير الملائكة وسائر الاَسباب إنّما هو بأمره سبحانه، و هذا على خلاف ما ذهب إليه أكثر المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ ما يرتبط باللّه سبحانه و تعالى هو الخلق والاِيجاد و الاِبداع و أمّا تدبير الاَنواع و الكائنات الاَرضية فقد فوّض إلى الاَجرام السماوية والملائكة والجنّ و سائر الموجودات الروحية وغير ذلك ممّا تحكي عنه الاَصنام المعبودة، و ليس للّه سبحانه أيّ مدخلية في أمر تدبير الكون و إرادته و تصريف شوَونه.
إنّ القرآن الكريم ينص ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّ اللّه هو المدبر للعالم و ينفي أيّ تدبير لغيره و إذا كان هناك مدبر سواه فإنّما هو جندي من جنوده، مأمور بالعمل بأمر منه سبحانه:
"إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الّذي خَلَق السَّمواتِ وَالاَرض في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى علَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُالاَمْر ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرون"(8)
وقال سبحانه: "اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِعَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استوى علَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَكُلٌّ يَجْري لاَجلٍ مُسمًّى يُدبِّرُ الاَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعلّكُمْ بِلِقاءِ ربّكُمْ تُوقِنونَ" (9)
فإذا كان هو المدبّر وحده فيكون معنى قوله سبحانه: "فالمدبّرات أمْراً" و قوله سبحانه: "وَ هُوَ القاهِرُفَوقَ عِبادِهِ وَ يُرسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظةً" ، إنّ هوَلاء مدبرات بأمره، و حفظة للاِنسان و إرادته فلا ينافي ذلك انحصار التدبير باللّه.
الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين
لا شكّ أنّ حياة الاِنسان الاِجتماعية رهن قانون ينظم أحوال المجتمع البشري و يقوده إلى الكمال و هو لا يتحقّق إلاّفي ظل قانون يحقّق السعادة الاِنسانية، فبما أنّ خالق الاِنسان أعرف بخصوصيات المخلوق و ما يصلحه و يفسده فهو أولى بالتشريع و التقنين بل هو المتعين له، قال سبحانه: "أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطيفُ الْخَبير" (10)
إنّ القرآن الكريم لم يعترف بتشريع سوى تشريعه سبحانه، ولا بقانون سوى قانونه فهو، يرى اللّه سبحانه هو المشرع المحيط الذي يحقّ له التقنين خاصة، وأمّا وظيفة غيره فهو تنفيذ القانون الاِلهي.
قال سبحانه: "إنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إلاّإيّاه"(11)
والمراد من الحكم في قوله: "إنِ الْحُكْم" هو الحكم التشريعي بقرينة قوله"أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّإيّاه ذلك الدِّينُ القيّمُ" .
وقال سبحانه:"أَفَحُكْم الْجاهِلِيةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنونَ" (12)
إنّ هذه الآية تقسم القوانين الحاكمة على البشر إلى قسمين: إلهي، وجاهليّ، وبما أنّما كان من صنع الفكر البشرى ليس إلهياً فهو بالطبع يكون حكماً جاهلياً.
وقال سبحانه: "وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ" (13)
وقال سبحانه:"وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ" (14)
و قال: "وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَل اللّهُ فَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُونَ"(15)
فهذه المقاطع الثلاثة توضح أنّ التقنين أوّلاً و الحكم ثانياً حقّ مخصوص للّه لم يفوضه إلى أحد من خلقه و لاَجل ذلك يصف من يعدل عنه بالكفر تارة و الظلم أُخرى و بالفسق ثالثة.
فهم كافرون لاَنّهم يخالفون التشريع الاِلهي بالردّ و الاِنكار والجحود.
وهم ظالمون لاَنّهم يسلِّمون حقّ التقنين الّذي هو خاصّ باللّه إلى غيره.
وهم فاسقون لاَنّهم خرجوا بهذا العمل عن طاعة اللّه.
وأمّا عمل الفقهاء و المجتهدين فهو إمّا استخراج الاَحكام الشرعية من الكتاب والسنّة و الاستخراج غير التشريع، وإمّا تخطيط لكلّ مايحتاج إليه المجتمع في إطار القوانين الاِلهية، و التخطيط غير التشريع.
الخامسة: التوحيد في الطاعة
والمراد أنّه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّاللّه تعالى فهو وحده الّذي يجب أن يطاع و أمّا طاعة غيره فإنّما تجب بإذنه و أمره.
قال سبحانه: "وما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ "(16) و الدين في الآية بمعنى الطاعة أي مخلصين الطاعة له لا لسواه.
وعلى ذلك فكلّمن افترض اللّه طاعته و الانقياد لاَوامره و الانتهاء عن مناهيه فبإذنه سبحانه و أمره، قال سبحانه:"وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّلِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ" (17)
وبالجملة فهنا مطاع بالذات وهو اللّه سبحانه وغيره مطاع بالعرض و بأمره.
السادسة: التوحيد في الحاكمية
إنّ الحكومة حاجة طبيعية يتوقف عليها حفظ النظام بعد التشريع والتقنين. و وظيفة الحكومة تعريف أفراد المجتمع بواجباتهم ووظائفهم و مالهم و ما عليهم من حقوق ، ثمّ تحقيقها و تجسيدها.
إنّ أعمال الحكومة والحاكمية في المجتمع لاتنفك عن التصرف في النفوس و الاَموال و تنظيم الحريّات و تحديدها أحياناً والتسلّط عليها ولا يقوم بذلك إلاّ من كانت له الولاية على الناس و لولا ذلك لعُدّ التصرف عدواناً، وبما أنّجميع الناس سواسيه أمام اللّه و الكلّ مخلوق له بلا تمييز فلا ولاية لاَحد على أحد بالذات بل الولاية للّه المالك الحقيقي للاِنسان والكون، والواهب له الوجود والحياة ، فلا يصحّ لاَحد الاِمرة على العبادة إلاّبإذنه.
فالاَنبياء والعلماء والموَمنون مأذونون من قبله سبحانه في أن يتولوا الاَمر من قبله و يمارسوا الحكومة على الناس من ناحيته، فالحكومة حقّ مختصّ باللّه سبحانه و الاَمارة ممنوحة من قبله.
قال سبحانه: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَخَيْرُ الْفاصِلينَ"(18)
وقال سبحانه: "أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَأَسْرَعُ الْحاسِبينَ "(19)
نعم إنّ اختصاص حقّ الحاكمية باللّه سبحانه ليس بمعنى قيامه شخصياً بممارسة الاِمرة، بل المراد أنّ من قام بالاِمرة في المجتمع البشري، يجب أن يكون مأذوناً من جانبه سبحانه لاِدارة الاَمور، والتصرّف في النفوس و الاَموال.
ولذلك نرى أنّه سبحانه: يمنح لبعض حقّ الحكومة بين الناس، إذ يقول:
"يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الاَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ" (20) و على ضوء ذلك فلا محيص عن كون الحكومة في المجتمع الاِسلامي مأذوناً بها من قبل اللّه سبحانه: ممضاة من جانبه، و إلاّ كانت حكم الطاغوت، الذي شجبه القرآن في أكثر من آية.
السابعة: التوحيد في العبادة
والمراد منه حصر العبادة في اللّه سبحانه، و هذا هو الاَصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّاختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلاً في زمرة المسلمين إلاّ إذا اعترف بحصر العبادة في اللّه، أخذاً بقوله سبحانه: "إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعين" و ليس أصل بين المسلمين أبين و أظهر من هذا الاَصل، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم و من تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الاِسلام.
نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان، فهل هي عبادة غير اللّه أو أنّها تكريم و احترام و إكبار وتبجيل.
والهدف في الفصل الآتي هو تمييز الجزئيات بعضها عن بعض، بوضع تعريف منطقي للعبادة حتى يقف القارىَ على مصاديق العبادة ومصاديق التكريم عن كثب و لا يختلط بعضها بالبعض الآخر.
إنّ الوهابيين جعلوا الشرك في العبادة ذريعة لتكفير المسلمين و جعلهم في عداد المشركين في العبادة و هم ربما يتلون قوله سبحانه:"وَ ما يُوَمِنُ أَكْثرُهُمْ باللّهِ إلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ"(21) و يفسرونه بإيمان المسلمين، و لكن ما هو الدليل على هذا التطبيق. و لماذا لا ينطبق هذا عليهم.
إنّ المسلم الواعي لا ينسب شيئاً إلى إنسان إلاّإذا كان مقروناً بالبرهان والدليل، معتمداً على قوله سبحانه: "قُلْ هاتُوا بُرهانكُمْ إِنْكُنْتُمْ صادِقينَ" (22) ، فلا يتهم المسلم بالشرك إلاّبالدليل ، ولا يضفي عليه عنوان التوحيد إلاّكذلك.
المصادر :
1- الشورى/11
2- الاخلاص/1ـ4
3- الزمر/4
4- الرعد/16
5- الرعد/16
6- الزمر/62
7- الموَمن/62
8- ونس/3
9- الرعد/2
10- الملك/14
11- يوسف/40
12- المائدة/50
13- المائدة/44
14- المائدة/45
15- المائدة/47
16- البيّنة/5
17- النساء/64
18- الاَنعام/57
19- الاَنعام/62
20- ص/26
21- يوسف/106
22- البقرة/111
source : rasekhoon