من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه. هو السجود، وبه يؤكِّد المؤمن عبوديّتَه للّه تعالى، والبارئ عزّاسمه يقدّر لعبده هذا التصاغرَ وهذه الطاعة فيُضفي على الساجد فيضَ لطفه وعظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات: «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده».ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجاً يتميّز بها المؤمن عن الكافر، وكان السجود ركناً من أركانها، لم يكن هناك أوضح في إعلان التذلّل للّه تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري، فضلاً عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة، وإن كان الكلّ سجوداً، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.
والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما أُنبت منها بشرط أن لا يُؤكل ولا يلبس، ولايرون السجود على غير الأرض وما أنبت منها صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وأهل بيته وصحبه. وسيظهر ـ في ثنايا البحثـ أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، كانت هي السنّة بين الصحابة، وأنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرّة.
اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين، ولم يختلفوا في المسجود له، فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه: (لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسجُدُوا للّهِ الَّذي خَلَقَهُنَّ)(1) وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني: ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الإمامية تشترط كون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب، وإليك نقل الآراء:
قال الشيخ الطوسي ـ وهو يبيّـن آراء الفقهاء ـ: لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.
وخالف فقهاء السنّة في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ: لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكُمّ القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن علي ـ عليه السَّلام ـ وابن عمر، وعبادة بن الصامت، ومالك، وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه، أجزأه.
وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري(2).
وقال العلاّمة الحلّي (3) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع، وأطبق جمهور السنّة على الجواز.(4)
وقد اقتفت الشيعة في ذلك أثر أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين، ونحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي عنهم في هذا الجانب:روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه، وعمّا لا يجوز؟ قال: «السجود لا يجوز إلاّ على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أُكل أو لبس». فقال له: جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟
قال: «لأنّ السجود خضوع للّه عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده، في عبادة اللّه عزّ وجلّ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها».(5)
وقال الصادق ـ عليه السَّلام ـ :«وكلّ شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه، أو ملبسه، فلا تجوز الصلاة عليه، ولا السجود إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر، قبل أن يصير مغزولاً، فإذا صار غزلاً فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال ضرورة».(6)
فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم.
على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام، يدعم نظريّة الشيعة، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط، ولم يثبت الترخيص الثالث، بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.
روى المحدث النوري في «المستدرك» عن «دعائم الإسلام»: عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي ـ عليهم السَّلام ـ ، أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: «إنّ الأرض بكم برّة، تتيمّمون منها، وتصلّون عليها في الحياة (الدنيا) وهي لكم كفاة في الممات، وذلك مـن نعمة اللّه، لـه الحمد، فأفضل ما يُسجد عليـه المصلّـي الأرض النقيّـة».(7)
وروى أيضاً عن جعفر بن محمد ـ عليهما السَّلام ـ أنّه قال: «ينبغي للمصلّـي أن يباشر بجبهته الأرض، ويعفّر وجهه في التراب، لأنّه من التذلّل للّه» . (8)
وقال عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني(من أعيان القرن العاشر الهجري) ـ ما هذا نصّه ـ: المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، سواء كان ذلك بالجبهة أو الأنف، بل ربّما كان الأنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الأنفة والكبرياء، فإذا وضعه على الأرض، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي اللّه تعالى، إذ الحضرة الإلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فانّها هي الجنة الكبرى حقيقة، وقد قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «لايدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر». (9)
نقل الإمام محمد بن محمد بن سليمان المغربي المالكي الروداني(المتوفّى1049هـ): عن ابن عباس رفعه: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. (10)
كما أنّ أصل العمل العبادي أمر توقيفي فكذلك شرائطه وأحكامه هي الأُخرى التي يجب أن تُوضح وتبيَّن من جانب مبيّن الشريعة ومبلّغها ونعني به رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لأنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ هو الاسوة بنصّ القرآن الكريم والمبين للكتاب العزيز وعلى المسلمين جميعاً أن يتعلموا منه أحكام دينهم وتفاصيل شريعتهم و قد قال سبحانه:
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُول اللّه أُسوةٌ حَسَنة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّه وَالْيَوم الآخر وَذكر اللّه كَثيراً).(11)
(وَما آتاكُمُ اللّه فخُذُوه وَمانَهاكُمْ عَنْه فانتَهُوا).(12)
إنّ النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مبيّن للشريعة بنصّ من القرآن الكريم، وأئمّة أهل البيت ـ حسب تنصيص النبي ـ أعدال الكتاب وقرناؤه، حيث قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إنّي تاركٌ فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما.(13)
فلا محيص عن الاهتداء بهديهم، والاقتداء بهم وسوف يوافيك أنّهم كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض أو ما أتيت منها.
الفرق بين المسجود له والمسجود عليه
كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة وتُتخيّل التربة المسجود عليها وَثَناً، وهؤلاء، هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له، والمسجود عليه، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلِّـي وثن يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، ولم يفرّق بين الأمرين، وزعم المسجودَ عليه مسجوداً له، وقاس أمرَ الموحّد بأمرِ المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر، فأخَذَ بالصور والظواهر، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له، يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحّد الذي يريد إظهارَ العبودية إلى نهاية مراتبها، يخضع للّه سبحانه ويسجد له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً: أين التراب وربّ الأرباب؟
نعم: الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، وسيؤدي إلى إرباك كلّ المصلين والحكم بشركهم، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لابدّ أن يكون عابداً لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب.
روى الآمدي عن علي أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ انّه قال: السجود الجسماني: وضع عتائق الوجوه على التراب.(14)
روى الصدوق عن أئمّة أهل البيتعليهم السَّلام قولهم: «الصلاة إقرار بالربوبية للّه عزّ وجلّ، ... ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظام للّه جلّ جلاله».
كما أنّ وضع الذقن على الأرض تذلّل للّه سبحانه قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ للأَذْقانِ سُجّداً)(15)
لا شكّ انّ السجود من فرائض الصلاة، وقد روى الفريقان عن ابن عباس (رض) قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : أُمرت أن أسجد على سبعة أعظمُ: على الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين.(16)
ومع ذلك فانّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض، وأمّا الباقون فأشبه بالشرائط ويدلّ على ذلك قول أصحاب المعاجم حيث لا يذكرون في تعريف السجدة إلاّ وضع الجبهة على الأرض فكأنّ غيرها من شرائط السجدة التي فرضها الشارع وأضافها إلى حقيقتها اللغوية والعرفية.
قال ابن منظور ناقلاً عن ابن سيده: سجد يسجد سجوداً: وضَعَ جبهته بالأرض، وقوم سُجَّد وسجود.(17)
وقال ابن الأثير: سجود الصلاة، وهو وضع الجبهة على الأرض، ولا خضوع أعظم منه.(18)
وهذه الكلمات من أصحاب المعاجم ونظائرها المبثوثة في كتب اللغة، تعرب عن أنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض، ولولا انّ النبي فرض السجود على سبعة أعظم لكفى وضع الجبهة على الأرض، ولكنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أضاف إلى الوضع أُموراً أُخرى، فصار الواجب السجود على سبعة أعظم.
فإذا كان كذلك فلا غرو في أن يختص وضع الجبهة بشرط خاص دون سائر الأعضاء، (هو اشتراط كون المسجود عليه هو الأرض أو ما ينبت منها) ولا يجوز السجود على غيرها دون سائر الأعضاء.
سرّ كشف الجبهة في السجدة
والذي يعرب عن ذلك انّ معظم فقهاء السنّة ذهبوا إلى لزوم كشف الجبهة دون سائر الأعضاء، فلو كان لسائر الأعضاء دور في حقيقة السجدة كالجبهة، لكان حكمها حكم الجبهة مع أنّ الواقع خلافه.
1. ففي مختصر أبي القاسم الخرقي وشرحه: «ولا تجب عليه مباشرة المصلّي بشيء منها إلاّ الجبهة على إحدى الروايتين»، وفي رواية أُخرى انّه يجب عليه مباشرة المصلّي بالجبهة ذكرها أبو الخطاب وروى الأثرم قال: سألت أبا عبد اللّه عن السجود على كور العمامة فقال: لا يسجد على كورها ولكن يحسر العمامة. وهومذهب الشافعي.
لما روى خباب قال: شكونا إلى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا ـ إلى أن قال: ـ و عن علي (رض) قال: إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن جبهته، رواه البيهقي.(19)
2. وفي «الوجيز»: يجب كشف الجبهة في السجود لما روي عن خباب، قال: شكونا إلى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا، أي لم يزل شكوانا.
وقال في شرحه: ولا يجب كشف الجميع من (الجبهة) بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الوضع، ويجب أن يكون المكشوف من الموضوع على الأرض، فلو كشف شيئاً ووضع غيره لم يجز، وإنّما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه و بين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرفه أو كور عمامته لم يجز، لأنّه لم يباشر بجبهته موضع السجود.
لنا حديث خباب، وأيضاً روي أنّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قال: الزق جبهتك بالأرض.(20)
3. وقال ابن رشد: اختلفوا أيضاً هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة (مكشوفة) وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه، أم ليس ذلك من شرطه؟
وقال مالك: ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه.
وقال جماعة: ليس ذلك من شرط السجود.
ومن هذا الباب: اختلافهم في السجود على طاقات العمامة وللناس فيه ثلاثة مذاهب:
قول بالمنع، وقول بالجواز، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة، وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها.(21)
4. وقال القفال: فإن كان على جبهته عصابة لعلة بها فسجد عليها أجزأ ولا إعادة عليه، ومن أصحابنا خرّج فيه قولاً آخر في وجوب الإعادة من المسح على الجبيرة.(22)
5. وفي «الفقه على المذاهب الأربعة»: الشافعية ـ قالوا: يضر السجود على كور العمامة و نحوها كالعصابة إذا ستر كلّ الجبهة، فلو لم يسجد على جبهته المكشوفة بطلت صلاته إن كان عامداً عالماً إلاّ لعذر كأن كان به جراحة وخاف من نزع العصابة حصول مشقة شديدة، فإنّ سجوده عليها في هذه الحالة صحيح.(23)
الظاهر انّ سرّ لزوم كشف الجبهة لأجل إلصاق الجبهة المكشوفة بالصعيد حتّى يبلغ المصلّي منتهى الخضوع والعبودية.
غير انّ هؤلاء خصّوا كشف الجبهة بعدم وجود حاجز عليها يمنعها من السجود ككور العمامة وطاقاتها والعصابة وبالرغم من ذلك فقد سوغوا السجدة على السجاد والفرش.وبذلك أبطلوا سرّ لزوم كشف الجبهة وفائدته.
فعندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي:
إذا كانت السجدة على الفرش والسجاد جائزة، فأي فرق بين السجود عليها و السجود على العصابة وكور العمامة؟! فانّ التفريق بين الأمرين أمر غريب، فانّ العصابة أو العمامة منسوج كالفرش والسجاد، وكون العمامة وأجزائها ممّا يحمله المصلّي دون الفرش والسجاد لا يوجب الفرق بعد اشتراكهما في تحقّق السجدة على زعمهم.وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ سرّ الكشف هو لصوق الجبهة بالصعيد، فعندئذ لا يكون أي فرق بين العصابة والسجاد.
وإلى ذلك ذهب علماؤنا أجمع، قال العلاّمة: يجب إبراز الجبهة للسجود، على ما يصحّ عليه السجود.(24)
السجود في عصر الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وبعده إنّ النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها، متحمّلين شدّة الرمضاء، وغبار التراب، ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخُمر، ولا على الفرش والسجاد، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها، وقد شكا بعضهم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من شدّة الحرّ، فلم يجبه، إذ لم يكن له ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أن يُبدِّل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر، فوسَّع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مراحل ثلاث لا غير:
1. ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.
2. المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخُمُر، تسهيلاً للأمر، ورفعاً للحرج والمشقّة.
3. المرحلة التي رخّص فيها السجود على الثياب اضطراراً وفي حال الضرورة.
وإليك البيان:
1. روى الفريقان عن النبيّ الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أنّه قال: «وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».(25)
والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يُسجد عليه ويُقصد للتيمّم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: للسجود تارةً، وللتيمّم أُخرى.
إنّ هذا الحديث يثبت بجلاء انّ وجه الأرض، تراباً كان أو صخراً أو حصى هو الأصل في السجود وهو الذي يجب أن يتخذ موضعاً للسجود ولا يجوز التعدي عن ذلك إلاّ بدليل آخر.
وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبِيَع والكنائس، فليس هذا المعنى مغايراً لما ذكرناه، فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر «طهوراً» بعد «مسجداً» وجعلهما مفعولين لـ«جُعلت» والنتيجة هي توصيف الأرض بوصفين: كونها مسجداً وكونها طهوراً، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال: إنّ ماجعله من الأرض مسجداً ، هو الذي جعله طهوراً.(26)
فإذا كانت التربة والحصى طهوراً فهي أيضاً مسجود عليه للمصلّي . فالحصر حجّة إلى أن يدلّ دليل على الخروج عنه.
2. عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، قال: كنت أُصلّي مع النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ الظهر، فآخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفّي ثمّ أُحوّلها إلى الكف الأُخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ.(27)
وعلّق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود.(28)
ونحن نقول: ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً، لكان أسهل من تبريد الحصى، ولأمكن حمل منديل أو سجّادة أو ما شابه للسجود عليه.
3. روى أنس قال: كنّا مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في شدّة الحرّ، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (29).
4. عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا.(30)
قال ابن الأثير في معنى الحديث: إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك، لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم.(31)
هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتّى أنّ الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لم يفسح للمسلمين العدولَ عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنسوجات المنفصلة، وهو ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مسَّ جباههم الأرض، وإن آذتهم شدّة الحرّ.
والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض، وعن إصرار النبي الأكرم ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحدة من الروايات، وإليك البيان.
5. عن خالد الجهني: قال: رأى النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له: «ترّب وجهك يا صهيب».(32)
والظاهر أنّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب، بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية، وعلى كلّ تقدير، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.
6. روت أُمّ سلمة: رأى النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ غلاماً لنا يقـال لـه «أفلح» ينفخ إذا سجـد، فقـال: «يـا أفلـح تـرّب».(33)
7. وفي رواية: «يا رباح ترّب وجهك».(34)
8. روى أبو صالح قال: دخلت على أُمّ سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين، فلمّا سجد نفخ التراب، فقالت أُمّ سلمة: ابن أخي لا تنفخ، فإنّي سمعت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يقول لغلام له يقال له يسار ـونفخ ـ: «ترّب وجهك للّه».(35)
9. روي: أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته.(36)
10. روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال: «إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه»، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة.(37)
11. روى صالح بن حيوان السبائي: أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ عن جبهته.(38)
12. عن عياض بن عبد اللّه القرشي: رأى رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ رجلاً يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: «ارفع عمامتك» وأومأ إلى جبهته.(39)
هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بالتتريب، و لما حسر العمامة عن الجبهة.
يظهر من غير واحدمن الروايات انّ النبي كان يهتم بالسجود على الأرض وإليك نماذج من هذا:
1. يقول وائل بن حجر: «رأيت النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض».(40)
2. يقول ابن عباس: انّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ سجد على الحجر.(41)
3. روي عن عائشة: ما رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ متقياً وجهه بشيء».(42)
قال ابن حجر: وفي الحديث إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هوالأصل، لأنّه علق بعدم الاستطاعة.(43)
وهذا الحديث يعرب عن جواز السجود على الثياب عند الضرورة وعدم جوازه في حال الاختيار، وهذا هو المروي عن أئمّة أهل البيت.
فعن عيينة بباع القصب قال: قلت لأبي عبد اللّه أدخل في المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره انّ أُصلي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه، قال: نعم ليس به بأس.(44)
وعن القاسم بن الفضيل قال: قلت للرضا ـ عليه السَّلام ـ : جعلت فداك الرجل يسجد على كمه من أذى الحرّ والبرد، قال: لا بأس به.(45)
إنّ هناك أحاديث وروايات تعرب عن أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كان يسجد على الطين والأرض في البرد القارص، وكان يصلي في كساء يتقي به برد الأرض بيده ورجله دون جبهته، وإليك ما يدلّ على ذلك.
1. عن وائل بن حجر رأيت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة يتقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله.(46)
2. عن ثابت بن صامت انّ رسول اللّه صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفف به يضع يديه عليه يقي برد الحصى.(47)
3. عن أبي هريرة قال: سجد رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في يوم مطير حتّى أنّي لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته وأرنبته.(48)
هذه الروايات ونظائرها تعرب عن عمل النبي في سجدته في يوم مطير والبرد وانّه كان يسجد تارة على الطين ولم يقي وجهه بشيء، وأُخرى وقى يديه من دون تعرض للوجه مع أنّ تدقيق الرواة في بيان عمل النبي في اتقاء يديه بالكساء عن البرد والطين وتركهم ذكر الجبهة يكشف عن أنّه لم يق وجهه بشيء وإلاّ لذكره الرواة ولم يغفلوا عنه.
سيرة الصحابة والتابعين في السجود
يظهر من غير واحد من الروايات انّ سيرة لفيف من الصحابة كانت جارية على السجود على الأرض.
1. عن أبي أُميّة انّ أبا بكر كان يسجد أو يصلّي على الأرض مفضياً إليها.(49)
2. عن أبي عبيدة انّ ابن مسعود لا يسجد ـ أو قال لا يصلّي ـ إلاّ على الأرض.(50)
3. كان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود لا يرخص في السجود على غير الأرض حتّى في السفينة، وكان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه.(51)
4. كان إبراهيم النخعي الفقيه الكوفي التابعي يقوم على البردي ويسجد على الأرض. قال الراوي: قلنا ما البردي، قال: الحصير.(52) وفي لفظ انّه كان يصلّي على الحصر ويسجد على الأرض.
5.كان عمر بن عبدالعزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب ويسجد عليه.(53)
6. كان عروة بن الزبير يكره الصلاة على شيء دون الأرض.(54)
7. كتب علي بن عبد اللّه بن عباس إلى «زرين» ان ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد.(55)
والحاصل انّ التذلل والخضوع في مقابل عظمة اللّه سبحانه يتحقّق بأفضل مجاليه بوضع الجبهة والأنف على التراب والطين، قائلاً: أين التراب ورب الأرباب وأنّه والتراب سواسية ولا تجد ذلك في السجود على المصنوعات وللعلاّمة الأميني كلمة قيمة وإليك نصّها:
والأنسب بالسجدة التي إن هي إلاّ التصاغر والتذلّل تجاه عظمة المولى سبحانه و وجاه كبريائه، أن تُتخذ الأرضُ لديها مسجداً يعفِّر المصلّي بها خدّه ويرغم أنفه لتذكّر السّاجد للّه طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها وإليها يعود ومنها يعاد تارة أُخرى حتّى يتّعظ بها ويكون على ذكر من وضاعة أصله ليتأتى له خضوع روحي وذلّ في الباطن وانحطاط في النفس واندفاع في الجوارح إلى العبودية وتقاعس عن الترفّع والأنانية، ويكون على بصيرة من أنّ المخلوق من التراب حقيق وخليق بالذلّ والمسكنة ليس إلاّ.
ولا توجد هذه الأسرار قطّ وقطّ في المنسوج من الصوف والديباج والحرير وأمثاله من وسائل الدَّعة والراحة ممّا يُري للإنسان عظمة في نفسه، وحرمة وكرامة ومقاماً لديه ويكون له ترفّعاً وتجبراً واستعلاءً وينسلخ عند ذلك من الخضوع والخشوع.(56)
المصادر :
1- فصلت: 37.
2- الخلاف: 1/ 357 ـ 358 ، المسألة 112 ـ 113، كتاب الصلاة.
3- الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي (648 ـ 726هـ) وهو زعيم الشيعة في أواخر القرن السابع والثامن
4- التذكرة:2/434، المسألة 100.
5- الوسائل: ج 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1
6- الوسائل:3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 11.
7- مستدرك الوسائل:4/14، الباب10 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث1.
8- مستدرك الوسائل: 4/14، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث2.
9- اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر: 1/ 164. الطبعة الأُولى.
10- جمع الفوائد من جامع الأُصول ومجمع الزوائد: 1/214 برقم 1515.
11- الأحزاب:21.
12- الحشر:2.
13- سنن الترمذي:5/328، رقم 874 ط دار الفكر وغيرها من المصادر المتوفرة.
14- غرر الحكم ودرر الكلم:1/107 برقم2234.
15- الإسراء:107/ الفقيه:1/215، الحديث645.
16- أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه:1/206 ومسلم في صحيحه:1/354.
17- لسان العرب:6، مادة سجد.
18- النهاية: 2، مادة سجد.
19- الشرح الكبير على متن الخرقي:1/557ـ558 على هامش المغني.
20- العزيز ، شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير:1/521.
21- بداية المجتهد:1/139.
22- حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء:122.
23- الفقه على المذاهب الأربعة:1/233.
24- منتهى المطلب:5/154.
25- صحيح البخاري: 1/91 كتاب التيمّم الحديث 2; سنن البيهقي: 2/433
26- أحكام القرآن: 2/389، نشر بيروت.
27- مسند أحمد: 3/ 327 من حديث جابر; سنن البيهقي: 1/439 باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
28- سنن البيهقي: 2/105.
29- السنن الكبرى: 2/106.
30- سنن البيهقي: 2/105، باب الكشف عن الجبهة.
31- النهاية: 2/497، مادة «شكا».
32- كنز العمال: 7/465 برقم 19810.
33- المصدر نفسه: 7/459 برقم 19776.
34- المصدر نفسه: 7/459 برقم 19777.
35- المصدر نفسه: 7/465، برقم 19810; مسند أحمد: 6/301.
36- الطبقات الكبرى: 1/151، كما في السجود على الأرض: 41.
37- منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند: 3/194.
38- السنن الكبرى: 2/105.
39- المصدر نفسه.
40- أحكام القرآن:3/36; مسند أحمد:315، 317.
41- السنن للبيهقي:2/102.
42- المصنف:1/397 و كنزالعمال:4/212.
43- فتح الباري:1/414.
44- الوسائل:3، الباب4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث1.
45- الوسائل:3،الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث2.
46- السنن الكبرى:2/106.
47- سنن ابن ماجة:1/329
48- مجمع الزوائد:2/126
49- المصنف لعبدالرزاق:1/397
50- المصنف:1/397.
51- الطبقات الكبرى:6/53; المصنف لعبدالرزاق:2/583
52- المصنف لعبد الرزاق:1/397.
53- فتح الباري:1/410.
54- فتح الباري:1/410.
55- أخبار مكة للأزرقي.
56- سيرتنا وسنّتنا:125ـ126.
source : rasekhoon