كرت الأخبار أن المأمون خرج يوماً في نزهة للصيد، فاجتاز بطرق البلد. ولعلّه كان قاصداً لاختيار هذا الطريق، فقد علم قبل ذلك أين نزل الوافدون... وعلم أيضاً من هم؟!
وهكذا كان... فقد تم ( اللقاء الأول ) في الطريق على ما ينقله المؤرخون، ويمكن أن يكون الإمام الجواد (عليه السلام) هو الذي سعى لاَن يلتقيه المأمون في هذا المكان. فلسان الرواية يقول: اجتاز ـ المأمون ـ بطرف البلد، وثمّ صبيان يلعبون، ومحمد الجواد (عليه السلام) واقف عندهم... فالإمام (عليه السلام) ليس من شأنه الوقوف على قارعة الطريق أو التفرج على ملاعب الصبيان لقضاء الوقت، ولا عُرف عن الأئمة أنهم كانوا يلعبون ويلهون في الطرقات مع أقرانهم في أيام طفولتهم، فهم أجلّ وأسمى من أن يصرفوا أوقاتهم في اللعب أو اللهو؛ لاَنّ الإمام (عليه السلام) متعين عليه هداية الأمّة وبنائها فكرياً واجتماعياً، وقيادتها نحو إرساء قواعد الشريعة بما يحقق حكومة الله في الأرض.
فالإمام (عليه السلام) لا يلهو ولا يلعب (1) قط منذ طفولته، فقد روي عن علي بن حسان الواسطي أنّه كان ممن خرج مع الجماعة (2)، وهم ثمانون عالماً اجتمعوا في موسم عام ( 203 هـ ) من مختلف الأقطار، والتقوا في المدينة المنورة لمعرفة من هو المتعين للإمامة بعد شهادة الإمام الرضا (عليه السلام) .
قال علي بن حسان: حملت معي إليه (عليه السلام) من الآلة التي للصبيان، بعضها من فضة، وقلت: أُتحف مولاي أبا جعفر بها. فلما تفرّق الناس عنه بعد جواب الجميع قام فمضى إلى صريّا واتّبعته، فلقيت موفقاً، فقلت: استأذن لي على أبي جعفر، فدخلتُ فسلّمت، فردّ عليَّ السلام وفي وجهه كراهة، ولم يأمرني بالجلوس، فدنوت منه وفرّغت ما كان في كمي بين يديه، فنظر إليَّ نظر مغضب، ثم رمى يميناً وشمالاً، ثم قال : ( ما لهذا خلقني الله، ما أنا واللعب ؟! ) فاستعفيته، فعفا عني، فأخذتها وخرجت (3).
إذن، يبدو أن الإمام أبا جعفر (عليه السلام) استغل فرصة خروج المأمون ومروره بالقرب من منازلهم، فوقف بإزاء صبيان يلعبون في الطريق؛ ليتم هنالك اللقاء... وخبر هذا اللقاء ينقله لنا ابن شهرآشوب، وابن الصباغ المالكي، والمحدّث الشيخ عباس القمي، وغيرهم. ونحن ننقل نصّ رواية ابن شهرآشوب حيث قال: اجتاز المأمون بابن الرضا (عليه السلام) وهو بين صبيان يلعبون، فهربوا سواه، فقال: عليّ به، فقال له: مالك ما هربت في جملة الصبيان؟ قال (عليه السلام): ( مالي ذنب فأفرّ، ولا الطريق ضيّق فأوسعه عليك، تمرّ من حيث شئت، فقال: من تكون؟
قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
فقال: ما تعرف من العلوم؟ قال: سلني عن أخبار السموات ). فودّعه ومضى، وعلى يده باز أشهب يطلب به الصيد. فلما بعد عنه نهض عن يده الباز فنظر يمينه وشماله لم ير صيداً، والباز يثب عن يده، فأرسله وطار يطلب الأفق حتى غاب عن ناظره ساعة ثم عاد إليه وقد صاد حية، فوضع الحية في بيت الطعم، وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الصبي في هذا اليوم على يدي، ثم عاد وابن الرضا في جملة الصبيان.
فقال: ما عندك من أخبار السموات؟
فقال: ( نعم يا أمير المؤمنين، حدثني أبي، عن آبائه، عن النبي، عن جبرائيل، عن ربِّ العالمين، أنّه قال: بين السماء والهواء بحر عجاج يتلاطم به الأمواج، فيه حيّات خضر البطون، رقط الظهور، ويصيدها الملوك بالبزاة الشهب يمتحن بها العلماء ).
فقال: صدقت، وصدق آباؤك، وصدق جدّك، وصدق ربك. فأركبه ثم زوّجه أُمّ الفضل (4).
----------------------------------------------------
الهوامش:
1- وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن منها، ما رواه الكليني بسنده عن الإمام الباقر (عليه السلام) في معرض بيانه علائم الإمام المعصوم فقال: ( طهارة الولادة، وحسن المنشأ، ولا يلهو ولا يلعب ).
وروى صفوان الجمّال عن الإمام الصادق (عليه السلام) في صفات الإمام، فقال (عليه السلام): ( صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب ). وما تعرّض له أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من خصائص وعلامات الإمام المعصوم، فقال : ( والإمام المستحق للإمامة له علامات فمنها: أن يعلم أنّه معصوم من الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها، لا يزلّ في الفتيا، ولا يخطئ في الجواب، ولا يسهو، ولا ينسى، ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا ). راجع: مناقب آل أبي طالب 4 : 317 . وبحار الأنوار 25 : 164.
2- إثبات الوصية: 188. ودلائل الإمامة: 402 | 360.
3- المصدر السابق نفسه.
4- مناقب آل أبي طالب 4 : 388 ـ 389 . أما رواية ابن الصباغ في الفصول المهمة: 252، والشيخ المحدِّث القمي في منتهى الآمال 2 : 527 ـ 528 عن مستدرك العوالم 23 : 522 . وبحار الأنوار 50 : 56 فهي تختلف عن هذه في بعض أحداثها، فراجع.
source : tebyan