بين القتل والثورة مسافة طويلة، هي المسافة بين الأيديولوجية، والشهادة من أجلها، وبين المغامرة، وشهوة الموت.. وبمعرفة الظروف الموضوعية التي أحاطت بثورة الإمام الحسين عليه السلام يمكننا التعرف عليها في شكلها النهائي وصورتها الحقيقية. وإلا فإن عنصر العظمة في هذه الثورة، لا يكمن في استشهاد مائة رجل، وأسر مائة امرأة وطفل، ولا في بشاعة الطريقة التي مارس بها العدو عملية القتل بهم. فالتاريخ يحفل بثورات كثيرة، وتضحيات كثيرة واسراء بأعداد كثيرة. ولكن أيا منها لا يرقى إلى ثورة الإمام الحسين عليه السلام من حيث المستوى البطولي، نظرا إلى الأوضاع الراهنة آنذاك. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ظروف ثورته! وكيف أنه ثار في ركود اجتماعي، ولامبالية جماعية، ويأس من إمكانية التغيير اذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار فسندرك قيمة ثورته، ليس فقط كأنبل ثورة من ثورات التاريخ.. وإنما.. كرمز..
ان الحسين تحول بالشهادة المأساوية، والتلاحم بين الفكر والممارسة، وتقديم كل ما يملك قربانا لتحريك الوضع وتغييره، إلى رمز للثورة.. فالرمز في هذه الثورة هو الأهم: لأنه العطاء الذي لن ينضب.. ونقطة الدم الساخنة التي ستظل تنزف بالكبرياء والكرامة، وتنبض بالحق والحرية على مدى التاريخ. لقد ثار الإمام على (ماركة الإسلام) الفارغة من حقيقته، وفي ظروفه تلك التي اعتاد الناس فيها على التمسك بالمظاهر الإسلامية والتعصب لكل ما يصدر عن الجهات الحاكمة من دون تقييم لنوعيته، كانت ثورته (الأولى) من نوعها. إن الإمام عندما بدأ المسيرة لاقى معارضة عنيفة من كل (عباد) الأمة و(زهادها) وواجه فتوى صريحة بوجوب محاربته باعتباره: خارجا على إجماع الأمة، والشاق لعصاها، وكانت الفتوى صادرة من كبير القضاة في حينه، وهو شريح القاضي حيث أفتى بضرورة ووجوب محاربة الإمام باعتباره خارجا على (أمير المؤمنين)!! انه فوجئ في كربلاء بأكبر (عالم ديني) في الكوفة وهو شبث بن ربعى ـ الذي كان يتجاوز السبعين عاما ـ على راس 4 آلاف مقاتل يقف ضده، وفي ذلك كله كانت (ثورة رائدة). كانت.. البداية!
وكانت.. الرمز!
وكانت.. التراث الثوري الذي يرجع إليه الثائرون على امتداد التاريخ.. واذا كانت الثورة، أية ثورة، لا تكتمل الا اذا كانت من أجل تغيير واقع، بهدمه، وبناء واقع آخر مع وجود العناصر التالية:
1ـ ايديولوجية واضحة.
2ـ خطة.. دقيقة.
3ـ ترجمة الايديولوجية إلى سلوك عملي يمارس في النضال.
4ـ الاعتماد على العنف المقدس.
فإن ثورة لإمام الحسين اكتملت فيها هذه العناصر بشكل رائع لا مثيل له.
وبملاحظة (قبل) و(بعد) عاشوراء، والتغيير الذي حدث نستطيع ان نعرف أهمية الرمز في ثورة الإمام.
فقبل الثورة، قامت السلطات الحاكمة بسحق الروح التغييرية في الأمة، عن طريق الإرهاب الجماعي وتنمية الروح الطبقية وتعميق الهوة بين الفرد، وإيمانه (حتى كثرت التجمعات، وغلبت المصلحة على كل شيء، ووصلت الأخلاق العامة إلى أقصى درجة في الإنحدار). وفي زمن تواصل فيه السلطة القتل كأبسط الوسائل لضرب إنتماء الرجل، كان التملص من الإنتماء، والتنقل من ولاء لآخر، ومن جبهة إلى أخرى سمة عامة، خاصة وأن السلطات التي كانت تحكم بإسم الدين كانت هي تعاني من تحلل عميق من أي التزام. وحين يحكم السيف تضيع الكرامة، ويستسلم الكثيرون، ويستدعون من أنفسهم كل الكوامن الخبيثة، ليعايشوا السلطة الفاجرة بأسلحة من طباعها..
وحين ينتصر الباطل ـ بما يمثله من ظلم ـ واحتكار، وطبقية، وأقطاع ـ ويكتسح الإرهاب البلاد يحدث ما يشبه الوباء، ذلك لأنه يفصل بين لقمة عيش الرجل، وبين إيمانه والتزامه، فيجبر الناس على الإنتماء للسلطة من أجل الحصول على لقمة الخبز.
وماذا يمكن ان يعمل الجائع؟!
انه يكفر بمعنى انه يمشي خلف الخبز، حتى فيما اذا كان عند أهل الباطل.
وهنا تكون السلطات هي المسؤولة تماما ـ كما ان السيد الذي أجاع خادمته حتى زنت في سبيل الحصول على لقمة العيش كان هو المسؤول دون الخادمة عن عملية الزنا. ومن الواضح ان دافع الإمام الحسين إلى الثورة لم تكن القضايا الاقتصادية وان كانت هي أيضا مقصودة، كقضية حق، لأن الصراع بين الظالم والمظلوم تحول إلى صراع بين القيم الإنسانية العليا والقيم الجاهلية. فالثورة ليست مجرد تغيير تنشده وتعمل له مجموعة مقهورة لتلغي قهرها وتسترد حقوقها، بل هي أعمق من هذا، إنها طريق في سلم التطور الأخلاقي للمجموعة البشرية وهذا السلم يبدأ من السلوك الفردي في أبسط صورة إلى السلوك الجماعي للأمة والإنسانية بشكل عام. والصراع من أجل توزيع الثورة هو ذريعة للتطور بالبشرية من حالة أخلاقية رديئة إلى حالة أخلاقية راقية.. بما تعني كلمة الأخلاق من التزامات وطريقة عمل.. وقائد الثورة في كربلاء لم يكن تحركه إلى الثورة ضغوط الحرمان أو القهر ـ لأنه كان يعيش في رفاهية، وكان يستطيع ان يترك الثورة ويحصل على ما يريد ـ ولكنه كانت تحركه قيم إنسانية أعلى من القيم السائدة. ان التركيبة النفسية للإمام ـ التي كات صنيعة إيمانه بالله والتزامه أمامه ـ كانت تتناقض مع القيم الأخلاقية السائدة في مجتمعه، فهو كان مدفوعا بدوافع قوية للدفاع عن المثل التي أهدرت وليشعر بأن طريق الناس إلى قيم الله، والإرتقاء قد احتل من قبل قوات السلطة، وإنه المطالب بالتغيير، أو كما عبر هو: (وأنا أحق من غيري!).. كانت القضية ان طريق الحق قد طمس.. فكان بحاجة إلى رش الدم عليه ليتوهج من جديد تحت ضوء الشمس، ويعود التعرف عليه من جديد..
كان الهدف بعث الروح من جديد.
وبعد عاشوراء.. ماذا نرى؟
ثورات.. تمرد.. انتفاضات.. نقد.. مقاومة.
وهذا جدول سريع ببعض الثورات التي انتشرت بعد عاشوراء.
ففي سنة خمس وستين ـ وبالضبط ـ بعد أربع سنوات من عاشوراء ـ خرج سليمان بن صرد الخزاعي في عدد من اصحابه لم يتجاوز أربعة آلاف وكانت دعوته، دعوة إلى الجهاد في سبيل الحق والموت دون تحقيقه، ولذلك كان يقول لأصحابه. (من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله ثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، وفرحمة الله عليه حيا وميتا، ومن كان إنما يريد الدنيا وحدثها، فوالله ما نأتي فيئا نستفيئه، ولا غنيمة نغنمها، ما خلا رضوان الله رب العالمين، وما معنا من ذهب ولا فضة، ولا خز ولا حرير، وما هي الا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا، وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدونا، ومن كان ينوي غير هذا فلا يصحبنا..). ونشب القتال، واستبسل سليمان بن صرد وأصحابه وقتل معظمهم، ولم يبق منهم غير القليل.
وبعد سليمان. قام المختار، وجعل من مقتل الحسين وسليمان دافعا جديدا لمكافحة الطغيان، وأخذ يتهيأ لإعلان الثورة من جديد، وكانت أهداف ثورته (الدعوة للعمل بكتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت وقتال المحلين، والدفاع عن الضعفاء). وانتصر في ثورته، وأنزل العقوبة بقتلة الإمام..
وبعد المختار، ثار صالح بن مسرح التميمي داعيا إلى (محاربة الجور، وإقامة العدل) وقتل في عام 76هـ.
وفي سنة 77هـ ثار مطرف بن المغيرة، فأعلن خلع عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف ودعا إلى (قتال الظلمة وجهاد من عند عن الحق واستأثر بالفيء وترك حكم الكتاب) وقد قتل هو وأصحابه في العام ذاته. وفي سنة 81هـ. ثار عبد الرحمن بن الأشعث، داعيا إلى (كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الظلم) ولكنه قتل على يد الحجاج. وفي سنة 122هـ. ثار زيد بن علي بن الحسين داعيا الناس إلى (كتاب الله وسنة نبيه، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين واعطاء المحرومين، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء، ورد الظالمين ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا وجهل حقنا). وقد قتل هو وأصحابه في العام نفسه ولكنه بقي مصلوبا لمدة ثلاث سنوات حيث طافوا برأسه على مدن دمشق، والمدينة، ومصر، ثم (أحرق ونسف في اليم نسفا)! وبعده ثار ابنه يحي بن زيد في سنة 125هـ. وقتل أيضا فيها.
ثم ثار عبد الله بن معاوية، متابعا الإتجاه العام الثوري الذي أوضحه وعمقه زيد بن علي.. وقتل عام 127هـ.
وفي سنة 128هـ. ثار الحارث بن سريج (إنكارا للجور) وقتل في العام نفسه.
وفي سنة 128 نفسها، ثار أبو حمزة داعيا للثورة ومناهضة (مروان وآل مروان).
وفي سنة 129هـ. قام أبو مسلم الخراساني.
وفي سنة 132 هـ. كانت الدولة الأموية قد سقطت بشكل نهائي.
source : irib