في تلك الايام المبكرة من عمرنا حيث كنا ننظر الى الحياة بعين واسعة بريئة ، ونشم عبق المثل باحساس مرهف وروح شاعرية ، في تلك الايام كنا نتوجه - في ليالي الجمعة - تلقاء حرم أبي الفضل العباس ابن علي عليه السلام في وطننا الجريح في كربلاء المقدسة ، فندلف الى الصحن الشريف بشوق ، وندخل الرواق برهبة . فاذا اقتربنا الى ضريحه الميمون ، ارتسمت في اذهاننا صورة ذلك البطل العظيم ، ممتطيا صهوة جواده المطهم ، ورجلاه تخطان الأرض ، ووجهه كفلقة بدر (1) ، وفي يمينه الحسام وقد حمل القربة يريد المشرعة التي حاصرها اربعة آلاف مقاتل وكلهم بها عمر ابن سعد بقيادة عمرو بن الحجاج . وذلك منذ يوم تاسوعا من عام 61 للهجرة ، حيث قدم شمر ابن ذي الجوشن الى وادي كربلاء ، ومعه رسالة من عبيد الله ابن زياد ( المتسلط على الكوفة من قبل يزيد بن معاوية ) في تلك الرسالة أمر ابن زياد قائد جيشه عمر ابن سعد بأن يمنع على الحسين وأهل بيته واصحابه - عليهم السلام - ماء الفرات .
فلما انتصف النهار من اليوم العاشر ، وسقط العديد من اصحاب الحسين - عليه السلام - ومن أهل بيته ، صرعى أثر العطش بأهل البيت ، وبالذات بالاطفال الصغار ، وارتفعت صيحات العطش ، العطش فكادت تمزق قلب سقاء كربلاء أبي الفضل العباس ، صاحب لواء العسكر الحسيني . والذي لقب بهذا اللقب بعد ان قاد حملة ناحجة الى الفرات وجاء بالماء الى المخيم قبل يوم عاشوراء حسب بعض التواريخ .
لقـــد كان العباس بطلا شهدت له المواجهات العسكرية التي كانت بين الامام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - وبين اصحاب الردة ، ولعله اشترك في فتح المشرعة مع أخيه الحسين - عليه السلام - في بعض المعارك عندما سيطر اصحاب معاوية على الفرات ومنعوا اصحاب أمير المؤمنين منه . فلما تمادى في غيه ، ولم يقبل نصيحة الامام عليه السلام بفتح الشريعة سلميا خطب الامام علي عليه السلام في أصحابه خطابا حماسيا ، وكان فيما قال : أرووا السيوف من الدماء ، ترووا من الماء . وحمل أصحابه على المشرعة بقيادة السبط الشهيد وأخيه العباس حسب هذه الرواية ، فلما فتحوها أباحها الامام لاعداءه كما جاء في بعض الروايات ، بيد ان أهل الكوفة الذين حاربوا معاوية بالأمس تحت راية الامام علي ، انضووا اليوم تحت راية يزيد بن معاوية وعدو يحاربون سيد شباب أهل الجنة وأصحابه وأهل بيته ، ويمنعونهم عن الفرات .
وها هو سيدنا العباس يجد نفسه محاطا بأكثر من أربعة آلاف من الاعداء الشرسين ، فهل يمنعه ذلك من اقتحام المشرعة ؟
كلا .. ان اصوات الاستغاثة التي ارتفعت من حناجر آل الرسول منادية بالعطش ، استنهضت البطل الأبي ، فتقدم الى الامام الحسين - عليه السلام - واستأذنه في المبارزة ، بيد ان الامام الحسين عليه السلام لم يأذن له في البدء قائلا : أنت صاحب لوائي ، والعلامة من عسكري .
فقال أبو الفضل : يا أبا عبد الله ؛ لقد ضاق صدري .
فأذن الامام الحسين - عليه السلام - له ، وقال : اطلب لهؤلاء الاطفال قليلا من الماء .
حينما كنا صغارا ، ونقف امام ضريح أبي الفضل العباس ، كانت بصائرنا تتجه الى مخيم الحسين ، حيث لاتزال كربلاء تحتفظ بآثاره وبذكريات العطش لاولئك الصبية الصغار ، والنساء الارامل والثكالى . فتكمل الصورة لذلك البطل واقفا على المشرعة يطلب الماء لاولئك الأبرياء ، التي كانت تلك الصورة ذات أثر بالغ على افئدتنا حتى لكأننا نجد حوادث واقعة الطف ماثلة امامنا بكل لمساتها المثيرة . فها هو العبـــاس واقف على المشرعة ، وقد اقحم فرسه في الماء ، ثم مد يديه واغترف غرفة من الماء ، وقربها الى فمه الذابل من العطش ، فإذا به يتذكر عطش أخيه ، فيرمي الماء على الماء ، ثم يخاطب نفسه بكلمات لاتزال العصور ترددها قائلا :
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت ان تكوني
هذا الحسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
هيهات ما هذا فعال ديني ولا فعال صادق اليقين
وهكذا ترتسم امامنا صورة العباس عند زيارة مرقده وحيث كنا نسلم عليه بتلاوة تلك الزيارة التي تنضح بصائر وهدى ، ثم نصلي لربنا ركعات ، ندعوه بدعوات ، نعود بعد ان نرتشف من نمير وفائه كأسا ، ونغترف من بحر بصيرته غرفة ، ونقتبس من نور ايمانه هدى .
تلك كانت مثلا لزيارة محبي أهل البيت - عليهم السلام - لمشهد أبي الفضل العباس عليه السلام في كربلاء المقدسة ، حيث يتقاطر اليه الآلاف من كل مكان ، وحيث تجد بينهم اصحاب الحوائج يدعون الله سبحانه متوسلين اليه بالعباس ، او المتنازعين يحلفون عند ضريحه فلا يجرأ احد منهم بالكذب ، لاعتقاد الجميع ان الله يعجل عليهم بالعذاب لو كذبوا كما تجد المجاهدين الذين يتزودون من مرقد العباس العزيمة والاستقامة ..
واني اذ رسمت لك هذه الصورة أيها القارئ الكريم ، في مستهل حديثي عن أبي الفضل العباس - عليه السلام - فانما لكي نبحث من خلالها عن السر الكامن وراء هذه الحب والاحترام البالغين من قبل الملايين من المسلمين تجاه سيدنا أبي الفضل العباس - عليه السلام - حتى اننا نستطيع انه نؤكد بأنه لا يحظى أحد من أهل بيت النبوة ، بعد الائمة المعصومين - عليهم السلام - باهتمام المؤمنين بقدر أبي الفضل العباس - عليه السلام - . فان له مكانة عظيمة في قلوب المؤمنين ، حتى انه بمجرد ما يذكر اسم هذا البطل العظيم ، تتداعى لديهم مثل الوفاء والمواساة ، والبطولة والاباء ، والبصيرة النافذة والايمان الصلب ..
_________________
(1) يقول المؤرخون : كان العباس وسيما جميلا ، يكرب الفرس المطهم ، ورجلاه يخطان الأرض ، ويقال له قمر بني هاشم ( العباس - للاستاذ عبد الرزاق المقرم - ص 140 ، عن مقاتل الطالبين ص 33 )
source : sibtayn