هناک الکثیر من الادلة المشترکة علی ولایة الائمة نتطرق الیها بشکل منطقی یقبله العقل السلیم وهنا نعتمد علی القرآن الکریم والروایات الواردة والعقل السلیم :
إذن، لابدّ وأن تکون هناک نقطة وفاق واشتراک حتّى یتحاکم الطرفان إلى تلک النقطة، من کتاب، أو سنّة مسلّمة بین الطرفین، أو قاعدة عقلیّة قرّرها جمیع العقلاء فی بحوثهم.
أمّا إذا کان طرف الخطاب ، لا یوافق على کتاب البخاری، بل لا یرى صحّة شیء من الصحاح الستّة، فلابدّ حینئذ من إقامة الدلیل له ممّا یراه حجّة، من الکتاب أو العقل، فإن أردنا أن نقیم الدلیل علیه من السنّة، فلابدّ وأن نصحّح الروایة التی نحتجّ بها، لکی یلتزم بتلک الروایة، لانّها إذا صحّت على ضوء کلمات علماء الجرح والتعدیل عندهم، فلابدّ وأن یلتزم بتلک الروایة.
ثمّ الاستدلال کما أشرنا ، تارةً یکون بالکتاب، وتارةً یکون بالعقل، وتارةً یکون بالسنّة.
أمّا الکتاب، فآیاته المتعلّقة بمباحث الامامة کثیرة، لکنّ المهمّ هو تعیین شأن نزول هذه الایات، وتعیین شأن نزول هذه الایات إنّما یکون عن طریق السنّة، إذن، یعود الامر إلى السنّة.
وفی الاستدلال بالعقل أیضاً، هناک أحکام عقلیة هی کبریات عقلیّة، وتطبیق تلک الکبریات على الموارد لا یکون إلاّ بأدلّة من خارج العقل، مثلاً یقول العقل بقبح تقدّم المفضول على الفاضل، أمّا من هو المفضول ؟ ومن هو الفاضل لیقبح تقدّم المفضول على الفاضل بحکم العقل ؟ هذا یرجع إلى السنّة، إذنْ رجعنا إلى السنّة.
والسنّة أیضاً قد أشرنا إلى قواعدنا فی إمکان التمسّک بها، وإثبات مدّعانا واحتجاجنا على ضوئها، فنحن لا نستدل على أهل السنّة بکتبنا، کما لا یجوز لهم أن یستدلّوا بکتبهم علینا.
نصّ على ذلک عدّة من أکابر علمائهم، کابن حزم الاندلسی فی کتابه الفصل، فإنّه ینصّ على هذا المعنى ویصرّح بأنّه لا یجوز الاحتجاج للعامّة على الامامیّة بروایات العامّة، یقول:
لا معنى لاحتجاجنا علیهم بروایاتنا، فهم لا یصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علینا بروایاتهم فنحن لا نصدّقها، وإنّما یجب أن یحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما یصدّقه الذی تقام علیه الحجة به، سواء صدّقه المحتج أو لم یصدّقه، لان مَن صدّق بشیء لزمه القول به أو بما یوجبه العلم الضروری، فیصیر حینئذ مکابراً منقطعاً إن ثبت على ما کان علیه(1) .
إنّ من الواضح أنّ الشیعی لا یرى حجّیة الصحیحین فضلاً عن غیرهما، فلا یجوز للسنّی أنْ یحتجّ بهما علیه، کما لا یجوز للشیعی أن یستدلّ على السنّی بکتاب شیعی، لانّ السنّی لا یرى اعتبار کتاب الکافی مثلاً.
فنحن إذن نستدلّ بروایات الصحاح، وبروایات المسانید، وبالروایات المتفق علیها بین الطرفین، ولربّما نحتاج إلى تصحیح سند بخصوصه على ضوء کتب علمائهم وأقوال کبارهم فی الجرح والتعدیل لیتمّ الاحتجاج، ولا یکون حینئذ مناص من التسلیم، أو یکون هناک تعصّب وعناد، ولا بحث لنا مع المعاند والمتعصّب.
وعندما یعود الامر إلى الاستدلال بالسنّة، فالروایات المتعلّقة ببحث الامامة تنقسم إلى أقسام، نذکر أوّلاً انقسامها إلى قسمین أساسیّین رئیسیّین:
القسم الاوّل :
الروایات الشارحة للایات، والمبیّنة لشأن نزول الایات، فکما قلنا من قبل، فإنّ الاستدلال بالقرآن لا یتمّ إلاّ بالسنّة، إذ لیس فی القرآن اسم لاحد، فهناک آیات یستدلّ بها فی مباحث الامامة، لکن ماورد معتبراً فی السنّة فی تفسیر تلک الایات وشأن نزول تلک الایات، هو المتمّم للاستدلال بالقرآن الکریم.
القسم الثانی :
الروایات المستدلّ بها على الامامة والولایة والخلافة بعد رسول الله،. ثمّ الروایات تنقسم إلى أقسام، فهذه الروایات من القسم الثانی تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
الاوّل:
ما یدلّ على الامامة بالنص.
الثانی:
ما یدلّ على الامامة عن طریق إثبات الافضلیّة، هذه الافضلیّة التی هی الصغرى بإصطلاحنا لکبرى قاعدة قبح تقدّم المفضول على الفاضل.
الثالث:
الروایات الدالّة على العصمة، واشتراط العصمة واعتبارها فی الامام أیضاً حکم عقلی، وفی مورده أیضاً أدلّة من الکتاب والسنّة.
والبحث عن الامامة بحث فی غایة الحساسیّة والاهمیّة، لانّنا نرى وجوب معرفة الامام، وعندما نبحث عن الامام وتعیین الامام بعد رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، نرید أن نعرف الحقّ فی هذه المسألة الخلافیة، ثمّ لنتّخذه قدوةً واُسوة، لنقتدی به فی جمیع شؤوننا، وفی جمیع أدوار حیاتنا.
إنّما نرید أن نعرفه ولنجعله واسطة بیننا وبین ربّنا، بحیث لو سئلنا فی یوم القیامة عن الامام، بحیث لو سئلنا یوم القیامة لماذا فعلت کذا ؟ لماذا ترکت کذا ؟ أقول: قال إمامی إفعل کذا، قال إمامی لا تفعل کذا، فحینئذ ینقطع السؤال.
عندما نرید البحث عن الامام لهذه الغایة، فبالحقیقة یکون البحث عن الامام والامامة بحثاً عن الواسطة والوساطة بین الخالق والمخلوق، نرید أنْ نجعله واسطة بیننا وبین ربّنا، نرید أن نحتجّ بما وصلنا وبلغنا من أقواله وأفعاله فی یوم القیامة على الله سبحانه وتعالى، أو نعتذر أمامه فی کلّ فعل أو ترک صدر منّا وسألنا عنه، فنعتذر بأنّه قول إمامنا أو فعل إمامنا، وهکذا بلغنا ووصلنا عنه، هذا هو ـ فی الحقیقة ـ لبّ البحث عن الامامة.
إذن، یظهر أنّ البحث عن الامامة بحث مهمّ جدّاً، لانّ الامام حینئذ یکون کالنبی (صلى الله علیه وآله وسلم) واسطةً بیننا وبین ربّنا عند فقد النبی.
أمّا أنْ یکون الامام حاکماً بالفعل أو لا یکون حاکماً، أنْ یکون مبسوط الید أو لا یکون مبسوط الید، أن یکون مسموع الکلمة أو لا یکون مسموع الکلمة، أن یکون فی السجن أو یکون غائباً عن الانظار، أو أن یقتل، وإلى غیر ذلک، هذه الاُمور کلّها أُمور أُخرى
تتفرّع على بحث الامامة، لیس البحث عن الامامة بحثاً عن الحکومة، وإنّما الحکومة من شؤون الامام.
وکثیراً ما یختلط الامر على الباحثین، وکثیراً ما نراهم یعترضون على مذهبنا بعدم التمکّن من الحکومة والسیطرة والسلطنة على الناس، وإلى غیر ذلک، وهذه الاُمور خارجة الان عمّا نحن بصدده.
البحث یدور بین علی علیه السلام وأبی بکر، أمّا خلافة عمر وعثمان فیتفرّعان على خلافة أبی بکر.
قالت الامامیّة: بأنّ علیّاً هو الخلیفة، هو الامام، بعد رسول الله بلا فصل.
وقال أهل السنّة: الخلیفة بعد رسول الله هو أبو بکر بن أبی قحافة.
استدلّت الامامیّة بآیات من القرآن الکریم، وبأحادیث، على ضوء النقاط التمهیدیة التی ذکرتها، وسترون أنّا لا نخرج عن الاطار الذی ذکرناه قید شعرة.
آیة المباهلة : قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَکَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْکَاذِبِینَ)(2) .
المباهلة: من البهل، والبهل فی اللغة بمعنى تخلیة الشیء وترکه غیر مراعى، هذه عبارة الراغب فی کتاب المفردات(3) .
وعندما تراجعون القاموس وتاج العروس وغیرهما من الکتب اللغویة ترونهم یقولون فی معنى البهل أنّه اللعن(4) .
لکنّی رأیت عبارة الراغب أدق، فالبهل هو ترک الشیء غیر مراعى، کأنْ تترک الحیوان مثلاً من غیر أن تشدّه، من غیر أن تربطه بمکان، تترکه غیر مراعى، تخلّیه وحاله وطبعه.
وهذا المعنى موجود فی روایاتنا بعبارة: «أوکله الله إلى نفسه»، فمن فعل کذا أوکله الله إلى نفسه.
وهذا المعنى دقیق جدّاً.
تتذکّرون فی أدعیتکم تقولون: «ربّنا لا تکلنا إلى أنفسنا طرفة عین أبداً»، وإنّه لمعنى جلیل وعمیق جدّاً، لو أنّ الانسان ترک من قبل الله سبحانه وتعالى لحظة، وانقطع ارتباطه بالله سبحانه وتعالى، وانقطع فیض الباری بالنسبة إلیه آناً من الانات، لانعدم هذا الانسان. لهلک هذا الانسان.ولو أردنا تشبیه هذا المعنى بأمر مادّی خارجی، فانظروا إلى هذا الضیاء، هذا المصباح، إنّه متّصل بالمرکز المولّد، فلو انقطع الاتصال آناً ما لم تجد هناک ضیاءً ولا نوراً من هذا المصباح.هذا معنى إیکال الانسان إلى نفسه، تقول «ربّنا لا تکلنا إلى أنفسنا طرفة عین أبداً».
هناک کلمة لامیر المؤمنین (علیه السلام) فی نهج البلاغة یقول:
«إنّ أبغض الخلائق إلى الله رجلان، رجل وکله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبیل، مشغوف بکلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالٌّ عن هدی من کان قبله، مضلٌّ لمن اقتدى به فی حیاته وبعد وفاته، حمّالٌ لخطایا غیره، رهنٌ بخطیئته»(5) .
وجدت عبارة الراغب أدق، معنى البهل، معنى المباهلة: أن یدعو الانسان ویطلب من الله سبحانه وتعالى أن یترک شخصاً بحاله، وأنْ یوکله إلى نفسه، وعلى ضوء کلام أمیر المؤمنین أن یطلب من الله سبحانه وتعالى أن یکون هذا الشخص أبغض الخلائق إلیه، وأیّ لعن فوق هذا، وأیّ دعاء على أحد أکثر من هذا ؟
لذا عندما نرجع إلى معنى کلمة اللعن فی اللغة نراها بمعنى الطرد، الطرد بسخط، والحرمان من الرحمة، فعندما تلعن شخصاً ـ أی تطلب من الله سبحانه وتعالى أن لا یرحمه ـ تطلب من الله أن یکون أبغض الخلائق إلیه، فالمعنى فی القاموس وشرحه أیضاً صحیح، إلاّ أنّ المعنى فی مفردات الراغب أدق، فهذا معنى المباهلة.
إذن، عرفنا لماذا أُمر رسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم) بالمباهلة، ثمّ عرفنا فی هذا المقدار من الکلام أنّه لماذا عدل القوم عن المباهلة، لماذا تراجعوا، مع أنّهم قرّروا ووافقوا على المباهلة، وحضروا من أجلها، إلاّ أنّهم لمّا رأوا رسول الله ووجوه أبنائه وأهله معه قال أُسقفهم: «إنّی لارى وجوهاً لو طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن یزیل جبلاً من مکانه لازاله»(6) .
فلماذا جاء رسول الله بمن جاء ؟ لا نرید الان أن نعیّن من جاء مع رسول الله، لکن یبقى هذا السؤال: لماذا جاء رسول الله بمن جاء دون غیرهم ؟ فهذا معنى المباهلة إلى هنا. تعیین من خرج مع الرسول (صلى الله علیه وآله وسلم) فی المباهلة إنّه ـ کما أشرنا من قبل ـ لیس فی الایة المبارکة اسم لاحد، لا نجد اسم علی علیه السلام ولا نجد اسم غیر علی فی هذه الایة المبارکة.
إذن، لابدّ أن نرجع إلى السنّة کما ذکرنا، وإلى أیّ سنّة نرجع ؟ نرجع إلى السنّة المقبولة عند الطرفین، نرجع إلى السنّة المتّفق علیها عند الفریقین. ومن حسن الحظ، قضیّة المباهلة موجودة فی الصحاح، قضیّة المباهلة موجودة فی المسانید، قضیّة المباهلة موجودة فی التفاسیر المعتبرة. إذن، أیّ مخاصم ومناظر وباحث یمکنه التخلّی عن هذا المطلب وإنکار الحقیقة ؟
وتوضیح ذلک: إنّا إذا رجعنا إلى السنّة فلابدّ وأن نتمّ البحث دائماً بالبحث عن جهتین، وإلاّ لا یتمّ الاستدلال بأیّ روایة من الروایات:
الجهة الاُولى :
جهة السند، لابدّ وأن تکون الروایة معتبرة، لابدّ وأن تکون مقبولة عند الطرفین، لابدّ وأن یکون الطرفان ملزمین بقبول تلک الروایة. هذا ما یتعلّق بالسند.
الجهة الثانیة :
جهة الدلالة، فلابدّ وأن تکون الروایة واضحة الدلالة على المدعى.
وإلى الان فهمنا أنّ الایة المبارکة وردت فی المباهلة مع النصارى، نصارى نجران، وإذا رجعنا إلى السنّة فی تفسیر هذه الایة المبارکة، وفی شأن من نزلت ومن خرج مع رسول الله، نرى مسلماً والترمذی والنسائی وغیرهم من أرباب الصحاح یروون الخبر بأسانید معتبرة، (7)
فمضافاً إلى کونها فی الصحاح، هی أسانید معتبرة أیضاً، یعنی حتّى لو لم تکن فی الصحاح بهذه الاسانید، هی معتبرة قطعاً:
خرج رسول الله ومعه علی وفاطمة والحسن والحسین، ولیس معه أحد غیر هؤلاء.
فالسند معتبر، والخبر موجود فی الصحاح، وفی مسند أحمد، وفی التفاسیر إلى ما شاء الله، من الطبری وغیر الطبری، ولا أعتقد أنّ أحداً یناقش فی سند هذا الحدیث بعد وجوده فی مثل هذه الکتب.
نعم، وجدت حدیثاً فی السیرة الحلبیّة بلا سند، یضیف عمر بن الخطّاب وعائشة وحفصة، وأنّهما خرجتا مع رسول الله للمباهلة(8) .
ووجدت فی کتاب تاریخ المدینة المنوّرة لابن شبّة(9) أنّه کان مع هؤلاء ناس من الصحابة، ولا یقول أکثر من هذا.
ووجدت روایة فی ترجمة عثمان بن عفّان من تاریخ ابن عساکر أنّ رسول الله خرج ومعه علی وفاطمة والحسنان وأبو بکر وولده وعمر وولده وعثمان وولده. (10) فهذه روایات فی مقابل ما ورد فی الصحاح ومسند أحمد وغیرها من الکتب المشهورة المعتبرة.
لکن هذه الروایات فی الحقیقة: أوّلاً: روایات آحاد. ثانیاً: روایات متضاربة فیما بینها. ثالثاً: روایات انفرد رواتها بها، ولیست من الروایات المتفق علیها. رابعاً: روایات تعارضها روایات الصحاح. خامساً: روایات لیس لها أسانید، أو أنّ أسانیدها ضعیفة، على ما حقّقت فی بحثی عن هذا الموضوع.
إذن، تبقى القضیّة على ما فی صحیح مسلم، وفی غیره من الصحاح، وفی مسند أحمد، وغیر مسند أحمد من المسانید، وفی تفسیر الطبری والزمخشری والرازی، وفی تفسیر ابن کثیر، وغیرها من التفاسیر إلى ما شاء الله، ولیس مع رسول الله إلاّ علی وفاطمة والحسنان.
دلالة آیة المباهلة على إمامة علیّ (علیه السلام) :
أمّا وجه الدلالة فی هذه الایة المبارکة، بعد بیان شأن نزولها وتعیین من کان مع النبی فی تلک الواقعة، دلالة هذه الایة على إمامة علی من أین ؟ وکیف تستدلّون أیّها الامامیّة بهذه الایة المبارکة على إمامة علی ؟
فیما یتعلّق بإمامة أمیر المؤمنین فی هذه الایة، وفی الروایات الواردة فی تفسیرها، یستدلّ علماؤنا بکلمة: (وأنفسنا) ، تبعاً لائمّتنا (علیهم السلام). ولعلّ أوّل من استدلّ بهذه الایة المبارکة هو أمیر المؤمنین (علیه السلام)نفسه، عندما احتجّ فی الشورى على الحاضرین بجملة من فضائله ومناقبه، فکان من ذلک احتجاجه بآیة المباهلة، وهذه القصّة، وکلّهم أقرّوا بما قال أمیر المؤمنین، وصدّقوه فی ما قال، وهذا الاحتجاج فی الشورى مروی أیضاً من طرق السنّة أنفسهم(11) .
وأیضاً هناک فی روایاتنا(12) أنّ المأمون العباسی سأل الامام الرضا (علیه السلام) قال: هل لک من دلیل من القرآن الکریم على إمامة علی، أو أفضلیّة علی ؟ السائل هو المأمون والمجیب هو الامام الرضا (علیه السلام).
المأمون کما یذکرون فی ترجمته کما فی تاریخ الخلفاء للسیوطی وغیره(13) أنّه کان من فضلاء الخلفاء، أو من علماء بنی العباس من الخلفاء، طلب المأمون من الامام أن یقیم له دلیلاً من القرآن، کأنّ السنّة قد یکون فیها بحث، بحث فی السند أو غیر ذلک، لکن لا بحث سندی فیما یتعلّق بالقرآن الکریم، وبآیات القرآن المجید. فذکر له الامام (علیه السلام) آیة المباهلة، واستدلّ بکلمة: (وأنفسنا) .
لانّ النبی (صلى الله علیه وآله وسلم) عندما أُمر أنْ یخرج معه نساءه، فأخرج فاطمة فقط، وأبناءه فأخرج الحسن والحسین فقط، وأُمر بأن یخرج معه نفسه، ولم یخرج إلاّ علی، وعلی نفس رسول الله بحسب الروایات الواردة بتفسیر الایة، کما أشرنا إلى مصادر تلک الروایات، ولم یخرج رسول الله إلاّ علیّاً، فکان علی نفس رسول الله، إلاّ أن کون علی نفس رسول الله بالمعنى الحقیقی غیر ممکن، فیکون المعنى المجازی هو المراد، وأقرب المجازات إلى الحقیقة یؤخذ فی مثل هذه الموارد کما تقرّر فی کتبنا العلمیة، فأقرب المجازات إلى المعنى الحقیقی فی مثل هذا المورد هو أن یکون علی مساویاً لرسول الله (صلى الله علیه وآله وسلم)، إلاّ أنّ المساواة مع رسول الله فی جمیع الجهات وفی جمیع النواحی حتّى النبوّة ؟ لا.فتخرج النبوّة بالاجماع على أنّه لا نبی بعد رسول الله، وتبقى بقیّة مزایا رسول الله، وخصوصیات رسول الله، وکمالات رسول الله، موجودةً فی علی بمقتضى هذه الایة المبارکة.
من خصوصیّات رسول الله: العصمة، فآیة المباهلة تدلّ على عصمة علی بن أبی طالب قطعاً.
من خصوصیّات رسول الله: أنّه أولى بالمؤمنین من أنفسهم، فعلی أولى بالمؤمنین من أنفسهم کرسول الله قطعاً.
من خصوصیّات رسول الله: أنّه أفضل جمیع الخلائق، أفضل البشر والبشریّة، منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى العالم وخلق الخلائق کلّها، فکان أشرفهم رسول الله محمّد بن عبدالله، وعلی کذلک.
فحینئذ حصل عندنا تفسیر الایة المبارکة على ضوء الاحادیث المعتبرة، حصل عندنا صغرى الحکم العقلی بقبح تقدّم المفضول على الفاضل، بحکم هذه الاحادیث المعتبرة. وناهیک بقضیّة الاولویّة، رسول الله أولى بالمؤمنین من أنفسهم، وعلی أولى بالمؤمنین من أنفسهم. أنّ الاحادیث کلّها وإنْ اختلفت ألفاظها، اختلفت أسانیدها، اختلفت مدالیلها، لکنّ کلّها تصبّ فی مصب واحد، وهو أولویّة علی، وهو إمامة علی، وهو خلافة علی بعد رسول الله بلا فصل.
لابدّ وأنّکم تتذکّرون حدیث الغدیر:
«ألست أولى بالمؤمنین من أنفسهم ؟ قالوا بلى، قال: فمن کنت مولاه فهذا علی مولاه».
نفس المعنى الذی قاله فی حدیث الغدیر، هو نفس المفهوم الذی تجدونه فی آیة المباهلة، وبالنظر إلى ما ذکرنا من المقدّمات والممهّدات، التی کلّ واحد منها أمر قطعی أساسی، لا یمکن الخدشة فی شیء ممّا ذکرت.
مع ابن تیمیة فی آیة المباهلة :
ولو أنّ مدّعیاً یدّعی أو متعصّباً أو جاهلاً یقول کما قال ابن تیمیّة فی منهاج السنّة(14) بأنّ رسول الله إنّما أخرج هؤلاء معه، ولم یخرج غیرهم، یعترف بعدم خروج أحد مع رسول الله غیر هؤلاء، یعترف ابن تیمیّة، واعتراف ابن تیمیّة فی هذه الایام وفی أوساطنا العلمیّة وفی مباحثنا العلمیّة له أثر کبیر، لانّ کثیراً من الخصوم یرون ابن تیمیّة «شیخ الاسلام»، إلاّ أنّ بعض کبارهم قال: من قال بأنّ ابن تیمیّة شیخ الاسلام فهو کافر !! المهم، فابن تیمیّة أیضاً یعترف بعدم خروج أحد مع رسول الله فی قضیة المباهلة غیر هؤلاء الاربعة، یعترف بهذا، وراجعوا کتابه منهاج السنّة، موجود، إلاّ أنّه یقول بأنّ عادة العرب فی المباهلة أنّهم کانوا یخرجون أقرب الناس إلیهم، کانوا یخرجون معهم إلى المباهلة من یکون أقرب الناس إلیهم، کانت عادتهم أن یخرجوا الاقرب نسباً وإنْ لم یکن ذا فضیلة، وإن لم یکن ذا تقوى، وإنْ لم یکن ذا منزلة خاصة أو مرتبة عند الله سبحانه وتعالى، یقول هکذا.
لکنّه یعترض على نفسه ویقول: إنْ کان کذلک، فلم لم یخرج العباس عمّه معه ؟ والعباس فی کلمات بعضهم ـ ولربّما نتعرّض إلى بعض تلک الکلمات فی حدیث الغدیر ـ أقرب إلى رسول الله من علی، فحینئذ لِمَ لمْ یخرج معه ؟
یقول فی الجواب: صحیحٌ، لکنْ لم یکن للعباس تلک الصلاحیة والقابلیّة واللیاقة لان یحضر مثل هذه القضیة، هذا بتعبیری أنا، لکن راجعوا نصّ عبارته هذا النقل کان بالمعنى، یقول بأنّ العباس لم یکن فی تلک المرتبة لان یحضر مثل هذه القضیّة، یقول ابن تیمیّة فلذا یکون لعلی فی هذه القضیة نوع فضیلة. بهذا المقدار یعترف، ونغتنم من مثل ابن تیمیّة أن یعترف بفضیلة لعلی فی هذه القضیّة.
ولو أنّک راجعت الفضل ابن روزبهان الخنجی، ذلک الذی ردّ کتاب العلاّمة الحلّی رحمه الله بکتاب أسماه إبطال الباطل، لرأیته فی هذا الموضع أیضاً یعترف بثبوت فضیلة لعلی لا یشارکها فیها أحد(15) .
نعم، یقول ابن تیمیّة: لم تکن الفضیلة هذه لعلی فقط، وإنّما کانت لفاطمة والحسنین أیضاً، إذن، لم تختصّ هذه الفضیلة بعلی.
وهذا کلام مضحک جدّاً، وهل الحسنان وفاطمة یدّعون التقدم على علی ؟ وهل کان البحث فی تفضیل علی على فاطمة والحسنین، أو کان البحث فی تفضیل علی على أبی بکر ؟ أو کان البحث فی قبح تقدم المفضول على الفاضل بحکم العقل ؟
والعجب أنّ ابن تیمیّة یعترف فی أکثر من موضع من کتابه منهاج السنّة بقبح تقدّم المفضول على الفاضل، یعترف بهذا المعنى ویلتزم، ولذلک یناقش فی فضائل أمیر المؤمنین لئلاّ تثبت أفضلیّته من الغیر.
ثمّ مضافاً إلى کلّ هذا، ترون فی قضیّة المباهلة أنّ رسول الله یقول لعلی وفاطمة والحسنین: «إذا أنا دعوت فأمّنوا»(16) ، أی فقولوا آمین، وأیّ تأثیر لقول هؤلاء آمین، أن یقولوا لله سبحانه وتعالى بعد دعاء رسول الله على النصارى أن یقولوا آمین، أیّ تأثیر لقول هؤلاء ؟ ألم یکف دعاء رسول الله على النصارى حتّى یقول رسول الله لفاطمة والحسنین وهما صغیران أن یقول لهم قولوا آمین ؟
إذن، کان لعلی ولفاطمة وللحسنین سهم فی تقدّم الاسلام، کان علی شریکاً لرسول الله فی رسالته.
وهذا معنى (فَأَرْسِلْهُ مَعِی رِدْءاً یُصَدِّقُنِی)(17) ، فهارون کان ردءاً یصدّق موسى فی رسالته، وهارون کان شریکاً لموسى فی رسالته.وهذا معنى: «أنت منّی بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبی بعدی»، وقد قلت من قبل: إنّ الاحادیث هذه کلّها تصب فی مصبّ واحد، ترى بعضها یصدّق بعضاً، ترى الایة تصدّق الحدیث، وترى الحدیث یصدّق القرآن الکریم، وهکذا الامر فیما یتعلّق بأهل البیت:
رسول الله یجمع أهله تحت الکساء فتنزل الایة المبارکة آیة التطهیر، وفی یوم الغدیر ینصب علیّاً ویعلن عن إمامته فی ذلک الملا فتنزل الایة المبارکة: (الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ)(18) .
وأی ارتباط هذا بین أفعال رسول الله والایات القرآنیّة النازلة فی تلک المواقف، ترون الارتباط الوثیق، یقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَکُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَکُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَکُمْ) ویخرج رسول الله بعلی وفاطمة والحسن والحسین فقط، وهذا هو الارتباط بین الوحی وبین أفعال رسول الله وأقواله.
إذن، فالایة المبارکة غایة ما دلّت علیه هو الامر بالمباهلة، وقد عرفنا معنى المباهلة، لکن الحدیث دلّ على خروج علی وفاطمة والحسن والحسین مع رسول الله.
الایة المبارکة لیس فیها إلاّ کلمة: (وأنفسکم) لکن الحدیث فسّر تفسیراً عملیاً هذه الکلمة من الایة المبارکة، وأصبح علی نفس رسول الله، لیس نفس رسول الله بالمعنى الحقیقی، فکان کرسول الله، کنفس رسول الله، فکان مساویاً لرسول الله، ولهذا أیضاً شواهد أُخرى، شواهد أُخرى من الحدیث فی مواضع کثیرة.
یقول رسول الله مهدّداً إحدى القبائل: «لتنتهنّ أو لارسل إلیکم رجلاً کنفسی»، وکذا ترون فی قضیّة إبلاغ سورة البراءة، إنّه بعد عودة أبی بکر یقول: بأنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلیه بأنّه لا یبلّغ السورة إلاّ هو أو رجل منه، ویقول فی قضیّة: «علی منّی وأنا من علی وهو ولیّکم من بعدی»، وهو حدیث آخر، وهکذا أحادیث أُخرى یصدّق بعضها بعضاً.
إلى هنا ینتهی البحث عن دلالة آیة المباهلة على إمامة أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وإنْ شئتم المزید فهناک کتب أصحابنا من الشافی للسید المرتضى، وتلخیص الشافی، وکتاب الصراط المستقیم للبیّاضی، وکتب العلاّمة الحلّی رحمة الله علیه، وأیضاً کتب أُخرى مؤلّفة فی هذا الموضوع.
وصلّى الله على سیّدنا محمّد وآله الطاهرین.
المصادر :
1- الفصل فی الاهواء والملل والنحل 4 / 159
2- سورة آل عمران: 61.
3- المفردات فی غریب القرآن: «بهل».
4- تاج العروس: «بهل».
5- نهج البلاغة: 51، الخطبة رقم 17.
6- راجع: الکشاف 1 / 369، تفسیر الخازن 1 / 242، السراج المنیر فی تفسیر القرآن 1 / 222، تفسیر المراغی 13 / 175، وغیرها.
7- راجع: صحیح مسلم 7 / 120، مسند أحمد 1 / 185، صحیح الترمذی 5 / 596، خصائص أمیر المؤمنین: 48 ـ 49، المستدرک على الصحیحین 3 / 150، فتح الباری فی شرح صحیح البخاری 7 / 60، المرقاة فی شرح المشکاة 5 / 589، أحکام القرآن للجصاص 2 / 16، تفسیر الطبری 3 / 212، تفسیر ابن کثیر 1/319، الدرّ المنثور فی التفسیر بالمأثور 2 / 38، الکامل فی التاریخ 2 / 293، أسد الغابة فی معرفة الصحابة 4 / 26، وغیرها من کتب التفسیر والحدیث والتاریخ.
8 - إنسان العیون 3 / 236.
9- تاریخ المدینة المنورة 1 / 581.
10- ترجمة عثمان من تاریخ دمشق: 168.
11- ترجمة أمیر المؤمنین من تاریخ دمشق 3 / 90 الحدیث 1131
12- الفصول المختارة من العیون والمحاسن: 38.
13- تاریخ الخلفاء: 306.
14- منهاج السنة 7 / 122 ـ 130.
15- أنظر: إحقاق الحق 3 / 62.
16- الکشاف 1 / 368، الخازن 1 / 243، وغیرهما.
17- سورة القصص: 34.
18- سورة المائدة: 3.
source : rasekhoon