عربي
Wednesday 25th of December 2024
0
نفر 0

الخروج إلى كربلاء

الخروج إلى كربلاء وعندها عزم الحسين (ع) الخروج الى العراق، وقد انتشر بين الناس أنّه يريد الخروج الى الكوفة، ولكن الطريق الذي سلكه يؤدّي الى البصرة والكوفة معاً، ولم يفصح الإمام الحسين (ع) بنحو قطعي عن مقصده الواقعي، ولعلّ هذا هو السبب الذي دفع أهل البصرة الى التمهّل والتريث لعلّ الإمام يقدم إليهم، فكان إنطلاقهم متأخراً ولم يستطيعوا الوصول الى كربلاء حينما سمعوا بمحاصرته هناك·
الخروج إلى كربلاء

الخروج إلى كربلاء

 

وعندها عزم الحسين (ع) الخروج الى العراق، وقد انتشر بين الناس أنّه يريد الخروج الى الكوفة، ولكن الطريق الذي سلكه يؤدّي الى البصرة والكوفة معاً، ولم يفصح الإمام الحسين (ع) بنحو قطعي عن مقصده الواقعي، ولعلّ هذا هو السبب الذي دفع أهل البصرة الى التمهّل والتريث لعلّ الإمام يقدم إليهم، فكان إنطلاقهم متأخراً ولم يستطيعوا الوصول الى كربلاء حينما سمعوا بمحاصرته هناك·

وجاء ابن عباس وابن الزبير الى الإمام (ع) يسألان عن صحّة الأنباء، فقال للأول: «إنّي قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى»· وقال للثاني: «والله لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف أهلها· واستخير الله»· وبعد أن قام عبد الله بن الزبير قال الحسين (ع) لأصحابه: «إنّ هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز الى العراق، وقد علم أنّه ليس له من الأمر معي شيء، وأنّ الناس لا يعدلون بي، فودَّ أنّي خرجتُ منها لتخلو له»·

وفي جواب أحد الناصحين لـه بعدم الخروج للعراق لما سبق منهم لأبيه وأخيه، قال (ع): «لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلم يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصرع أصحابي، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي»·

وهكذا كان الإمام (ع) يبيّن لجميع الناصحين الذين طلبوا منه البقاء في الحجاز ومقاومة يزيد فيها بأن يعمل بما أمره الله تعالى ورسوله (ص) منه، وأنّه سيقتل مع أهله وأصحابه على شاطيء الفرات، ولا يريد أن يُخالف قضاء الله سبحانه، وأنّه لو بقي لقتل بعد أيام، وأنّه يحبّ أن يقتل في فلاة خير من أن يستباح بدمه البيت الحرام وتهتك حرمته· فقد قال مثلاً لأحدهم ـ وهو الأوزاعي ـ: «مرحباً بك يا أوزاعي، جئتَ تنهاني عن المسير، ويأبى الله إلاّ ذلك، إنّ هاهنا الى يوم الاثنين منيّتي»·

وعند رحيله خطب في الناس خطبة قال فيها: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله، وصلّى الله على رسوله، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف، وخيّر لي مصرع أنا لا قيه، كأنّ أوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأنّ منّي أكراشاً جُوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يومٍ خُطَّ بالقلم، رِضى الله رِضانا أهل البيت، نصبُر على بلائه ويوفـّينا اُجور الصابرين، لن تشذَّ عن رسول الله (ص) لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرُّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، مَن كان باذلاً فينا مهجته وموطِّئاً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّي راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى»·

وفي الليلة التي عزم الحسين (ع) في صباحها التوجّه الى العراق جاءه أخوه محمد بن الحنفية وطلب منه البقاء في مكة، فقال له الحسين (ع): «يا أخي خفتُ أن يغتالني يزيد بن معوية في الحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت»· فطلب منه محمد مرّة اُخرى أن يرحل إلى اليمن أو إلى شعاب الجبال، فقال لـه الحسين (ع): «أنظرُ فيما قلت»· وفي السحر حينما تحرك الركب الحسيني جاءه أخوه محمد مسرعاً وقبض على زمام ناقة الحسين (ع) وقال له: ألم تعدني أن تنظر فيما قلتُ لك· فقال الحسين: نعم· أتاني رسول الله (ص) بعدما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلا· فقال محمد: إذن فلماذا تأخذ العيال معك؟ فقال (ع): «قد قال لي: شاء الله أن يراهن سبايا»·

وهكذا كان الحسين (ع) واضحاً منذ الوهلة الاُولى في حركته السياسية والجهادية، فقد بيّن المصير الذي سيؤول إليه أمره وأمر أنصاره لذلك قال: «من كان باذلاً فينا نفسه·· الخ» ولم يشأ أن يجمع الأنصار حولـه بالوعود الكاذبة وحطام الدنيا كما يفعل غيره الى يومنا الحاضر، لذلك لم يبق معه إلاّ مَن وطّن نفسه على الاستشهاد في سبيل الله تعالى، وتفرّق الكثير من الذين جمعتهم حوله رغبات متعددّة أهمها الرغبة في تحقّق النصر على نظام الحكم الأموي وتبديله بحكم جديد·

وعندما وصل إلى أول منزل بين مكة والعراق المعروف بـ« تنعيم» صادف الإمام قافلة تحمل أموالاً وثياباً متوجّهة من اليمن نحو الشام ليزيد بن معاوية، فصادرها الإمام (ع) وقال لحرّاسها: «لا اُكرهكم، من أحبّ أن يمضي معنا الى العراق أوفينا كراءه وأحسنّا صحبته، ومَن أحبّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الطريق»·

وعندما وصل الحسين (ع) الى المنزل الثاني المعروف بمنزل «صفاح»، مرّ الفرزدق الشاعر المعروف بقافلة وفيها رجال قد لبسوا لامة حربهم وشهروا سيوفهم، فسأل عنهم، فقالوا انّه ركب الحسين (ع)، فجاء الى الحسين (ع) وسلّم عليه وبعد التعارف أجاب الفرزدق بعد أن سأله الإمام عن الناس في العراق، فقال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، فقال الحسين (ع): «صدقت لله الأمر من قبل ومن بعد وكلّ يوم هو في شأن» ثم قال لـه: «يا فرزدق إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد في الأرض وأبطلوا الحدود وشربوا الخمور واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا»·

وعندما وصل الإمام الى وادي حاجز كتب الى أهل الكوفة كتاباً وأرسله مع رسوله قيس بن مسَهّر الصيداوي، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم· من الحسين بن علي الى اخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جائني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقِّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»·

ولكن اُلقي القبض على قيس في واسط وأُرسل الى عبيد الله بن زياد الذي جمع له يزيد ولاية الكوفة إضافة الى ولاية البصرة، فقدمها ومعه ثلّة من زعماء البصرة الذين يخاف منهم الثورة إذا خلا لهم الجو هناك ليكونوا تحت نظره المستمر· وقد كان أنصار الاُمويين قد كتبوا الى يزيد أن الناس قد التفت حول مسلم بن عقيل وأنّهم يستعدون لاستقبال الحسين والثورة على النظام، وأن النعمان بن بشير الوالي في الكوفة ضعيف ، وهو يغضّ النظر عن تحركات الشيعة فيها ·  فعزله يزيد وأرسل عبيد الله والياً بدلـه، حيث قام بحركة اعتقال واسعة في صفوف الشيعة وعزّز قواته العسكرية وجنّد الكثير من المتطوعين فيها، وأغرى زعماء الكوفة ووجهاءها بالأموال، كما رغّب ورهّب القبائل لنصرته وخذلان الحسين (ع)، وبذل في سبيل ذلك أمـوالاً طائلة· واستطاع سيف الإرهاب المسلّط على رقاب الناس وبريق الدنانير الذهبية أن يخمد تلك التحركات والآمال التي عقدت لتغيير الوضع الجائر·

واستطاع قيس أن يوصل رسالة الحسين (ع) الى أهل الكوفة باسلوب ذكي حينما أمره عبيد الله بن زياد أن يصعد المنبر ويتبرأ من الحسين (ع)، فصعد المنبر وبلّغهم رسالة الحسين (ع) وأظهر ولاءه له وحثّ الناس على نصرته· فاُنزل قهراً وقُتل رحمه الله·

وزاد أجواء الضغط على مسلم بن عقيل الذي اضطرّ الى تقديم موعد الثورة، وخرج مناديه في أزقة الكوفة ينادي بالهتاف المتفق عليه لإعلان ساعة الصفر «يا منصور أمت»، ولكن تخاذل الجميع بعد أن اُلقي القبض على هاني بن عروة أحد زعماء القبائل في الكوفة وقُتل وسحب بالحبال في أسواقها· ثم اُلقي القبض على مسلم وقتلوه رحمه الله·

وفي منزل «زرود» جاء رجل من أهل الكوفة وأسرَّ الى الإمام الحسين (ع) شيئاً، فغيّر الإمام مسيره، وعندما لحقه بعض أصحاب الإمام وسألوه عن خبر الكوفة· قال: لم أترك الكوفة حتى رأيت مسلم بن عقيل وهاني بن عروة يُجرّان بالحبال·

وفي رواية أُخرى أن الخبر وصل الإمام (ع) في الثعلبية بمقتلهما وقد كان ذلك بمحضر أصحابه وأنّه (ع) قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمة الله عليهما»·

وفي الثعلبية التقى الإمام (ع) برجل من أهل الكوفة اسمه «أبا هرّة» وسأله عن سبب نزولـه في هذه الأرض الجرداء، فقال لـه (ع): «يا أبا هرّة إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله يا أباهرة لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم ذلاًّ شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليسلّطنّ عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من قوم سبأ، إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم وفي دمائهم»·

وفي منزل «الزبالة» وصل خبر قتل سفير الإمام (ع) الى أهل الكوفة وأخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر، فجمع (ع) أصحابه وقال لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فقد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذِمام، فاستقوا الماء واكثروا»· فتفرّق الناس شمالاً ويميناً، وهذا هو الامتحان الثاني الذي مرّت به هذه العصابة المؤمنة حتى لا يبقى منها في آخر المطاف إلاّ الصفوة والزبدة·

وفي منزل ذي حسم التقى الركب الحسيني مع كتيبة من كتائب الجيش الاُموي تتألف من ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد الرياحي، وهي من مجموع الكتائب التي أرسلها عبيد الله بن زياد في الطريق والمفاوز بين الحجاز والعراق للقبض على الحسين (ع) وأنصاره· وعندما وصل هؤلاء الجنود الفرسان عطاشى أمر الإمام الحسين (ع) باسقائهم الماء بعد أن تعرّف هويتهم واسم قائدهم· وعندما حان وقت الظهر أذّن أصحاب الحسين (ع)، فقال الحسين (ع) للحر: يا ابن يزيد أتريد أن تصلّي بأصحابك واُصلّي بأصحابي؟ فقال الحر: بل نصلّي جميعاً خلفك· وبعد انتهاء الصلاة وقف الحسين (ع) متكئاً على قبضة سيفه فقال بعد الحمد والثناء على الله تعالى: «أيها الناس إنّها معذرة الى الله وإلى مَن حضر من المسلمين، إني لم أقدم على هذا البلد حتى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم أن أقدم إلينا إنّه ليس علينا إمام، فلعلّ الله أن يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما يثق به قلبي من عهودكم ومن مواثيقكم دخلت معكم الى مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم كارهين لقدومي عليكم انصرفت الى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم»·

ثم ذهب الإمام مع عدّة من أصحابه الى خيمته، وجلس جنود الحرّ في ظلال خيولهم، وبعد إقامة صلاة العصر خطب فيهم الحسين (ع) مرّة اُخرى كرّر فيها طلبه السابق بالانصراف إن كان رأيهم على خلاف ما أتت به كتبهم· فقال له الحر: ليس لنا علم بهذه الكتب· فطلب الحسين (ع) باحضار الكيس الذي جمع فيه هذه الكتب ونثرها أمامهم، فجاء الجنود وقرأوا عناوينها ثم ابتعدوا، فقال الحر: نحن مأمورين أن نصطحبكم الى عبيد الله بن زياد· فقال له الحسين (ع): «أو تعلم أنّ الموت أدنى إليك من ذلك»· ثم التفت الى أهل بيته وأصحابه وقال لهم: «احملوا النساء ليركبوا حتى ننظر ما الذي يصنع هذا وأصحابه»، وتحرك الركب فتحرّك الحر بجيشه أمامهم ومنعهم من المسير، فصاح به الحسين (ع): «ثكلتك اُمّك ما الذي تريد أن تصنع؟» فقال الحر: لابدّ من اصطحابك الى عبيد الله بن زياد· فقال الحسين (ع): «إذن والله لا اتـّبعك أو تذهب نفسي» فقال الحر: ولا أدعك تذهب حتى اُقتل أنا وجنودي· فقال الحسين (ع) «بَرز أصحابي وأصحابك وابرز إلي، فإن قتلتني خذ برأسي الى ابن زياد وإن قتلتك أرحت الخلق منك»· فلم يقبل الحر بذلك، وقال: إني لم أُومر بقتالك، ولكن اكتب الى ابن زياد لأنظر ماذا يقول وتذهب في طريق لا الى الكوفة ولا الى الحجاز، فقبل الحسين (ع)، وتحرك الركب يرافقه على مرمى السهام جيش الحر حتى وصل منزل البيضة، وهنا خطب الحسين (ع) الجيش مرة ثالثة، قال فيها: «أيها الناس إنّ رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقـّاً على الله أن يدخله مدخله·

ألا وأنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غَيَّر·

قد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله (ص)، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ اُسوة، وان لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من اغترَّ بكم، فحظكم أخطاتم، ونصيبكم ضيّعتم، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله»·

ولكن أنّى لهذه القلوب القاسية أن تستجيب للنداءات المتكررة بمثل هذا المنطق الرصين لأدنى ما يمكن أن تفعله وهي أن تترك الحسين (ع) يسير كما يشاء في أرض الله الواسعة·

ثم اجتازوا منازل عذيب الهجانات وقصر بني مقاتل والقطقطانية حين جاء رسول عبيد الله بن زياد يحمل رسالة الى الحر يأمره فيها بالتضييق على الحسين (ع) وينزلـه في فلاة لاماء فيها ولا كلاء. وبعد أداء صلاة الصبح ركب أصحاب الحسين (ع) وأخذوا يميلون نحو اليسار وجيش الحرّ يمنعهم ويحاول حرف مسيرتهم نحو الكوفة، واستمروا هكذا حتى نزلوا كربلاء، وأراد الحسين (ع) النزول في إحدى القرى القريبة كنينوى والغاضرية ولكن الحر منعه من ذلك وقال: إنّ هذا الرجل الذي قدم بالرسالة مأمور بمراقبتي· وعرض زهير بن القين على الحسين (ع) قتال القوم فانّه أسهل من قتال جيش الكوفة، فرفض الحسين (ع) قائلاً «ما كنت لأبدأهم بقتال»· ثم التفت الى أصحابه وقال: «أما بعد فإنّ الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون» ثم سألهم: هل هذه كربلاء؟ قالوا: نعم· فقال (ع): «هذه موضع كرب وبلاء، هاهنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا، ومقتل رجالنا، ومسفك دمائنا»·

وأرسل عبيد الله بن زياد رسالة الى الحسين (ع) يخبره فيها بأمر يزيد بالنزول على طاعته أو قتله· فقال الحسين (ع) للرسول: «مالي عنده جواب لأنّه قد حقـّت عليه كلمة العذاب»· وأمر الحسين (ع) بنصب الخيام وأرسل عبيد الله بن زياد أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد الى كربلاء، وعندما وصلوا أرسل عمر بن سعد شخصاً الى الحسين (ع) يسأله عن سبب مجيئه الى هنا، فأجابه (ع): «يا هذا إعلم صاحبك عنّي أنّي لم أرد الى هاهنا حتى كتب إليّ أهل مصركم أن يبايعوني ولا يخذلوني وينصروني، فإن كرهوني أنصرف عنهم من حيث جئت».

وعندما رأى حبيب بن مظاهر الأسدي أحد أنصار الإمام الحسين (ع) محاصرة جيش الكوفة طلب من الإمام أن يذهب في جنح الظلام الى إحدى القرى القريبة التي يسكن فيها بنو أسد ويطلب منهم النصرة· فأذن له الإمام (ع)، وخرج حبيب ليلاً، وكان رجلاً كبير السن جليل القدر زعيماً من زعماء بني أسد، فأخبرهم بالأمر وطلب منهم النصرة فاستجاب له تسعون فارساً منهم، فجاء بهم ليلاً نحو الحسين (ع)، ولكن احد أفراد القبيلة من أصحاب القلوب المريضة ذهب سرّاً مسرعاَ وأخبر عمر بن سعد بالأمر· فأرسل أربعمائة فارس كمنوا لهم في الطريق· وعند اقتراب فرسان بني أسد من الكمين خرجوا إليهم وكاد أن يقع بينهم القتال، وطلب حبيب من ابن سعد الأزرق قائد هذه الكتيبة التنحي عن طريق وصولهم الى الحسين (ع)، ولكنّه رفض ذلك واصرّ على القتال، وعندما وجد بنو أسد أن لا طاقة لهم على مقارعة هؤلاء فرّوا الى عشيرتهم للتحصّن بها، فتركهم الأزرق، واستطاع حبيب الوصول الى الحسين (ع) وأخبره الخبر، فقال (ع): «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»·

وكتب عبيد الله بن زياد الى عمر بن سعد يطلب منه أن يمنع وصول الحسين (ع) وأصحابه الى الماء، فأرسل الحسين (ع) أخاه العباس مع ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً لملأ القرب من نهر الفرات، وكان عمر بن سعد قد وكـّل على الفرات جيشاً بقيادة عمرو بن حجاج الزبيدي، فحمل عليهم العباس وفرّقهم عن الفرات ونزل مع أصحابه وملأوا القرب وعادوا الى الخيام·

وأرسل الحسين (ع) الى عمر بن سعد وطلب اللقاء به بين المعسكرين ليلاً· وجاء الحسين (ع) مع أخيه العباس وابنه علي الأكبر، بينما جاء ابن سعد مع عشرين فارساً، ثم أمر الحسين (ع) أخاه وابنه الابتعاد، وكذا طلب ابن سعد من الفرسان الابتعاد سوى ابنه وغلامه، ودار بينهما حوار طلب فيه الحسين (ع) من ابن سعد الكف عن قتاله وذكّره الرحم والقرابة، فاعتذر وتعلّل، ولم يترك له الإمام عذراً حين قال له: «ماذا تريدون منّي؟ إنّي مخيّركم ثلاثاً بين أن تتركوني ألحق بيزيد أو أرجع من حيث جئت أو أمضي الى بعض ثغور المسلمين فاُقيم فيها»، فقبل ابن سعد بذلك وأرسل الى عبيد الله بن زياد يخبره، فامتنع عن قبول ذلك وقال: لابدّ ان ينزل على طاعة يزيد· فقال الحسين (ع): «معاذ الله أن أنزل على طاعة ابن مرجانة أبداً» وابن مرجانة عبيد الله بن زياد بن أبيه، ويُنسب الى اُمّه التي كانت معروفة بالبغاء·

وأمر عمر بن سعد جيشه في عصر التاسع من محرم بالاستعداد مخاطباً إيّاهم: يا خيل الله اركبي وابشري بالجنة· فقال الحسين (ع) لأخيه العباس: يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟ فذهب العباس مع عشرين فارساً الى القوم فقالوا: إمّا النزول عند حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو الحرب· فرجع العباس الى الحسين (ع) وأخبره، فقال (ع): «ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم الى غدوة وتدفعهم عنّا العشية لعلّنا نصلـّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي كنتُ اُحبّ الصلاة لـه وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار»· فوافق عمر بن سعد على إمهالهم سواد ليلة عاشوراء·

وأمر الحسين (ع) أصحابه أن يحفروا خندقاً حول المعسكر وأن يضرموا فيها النيران حتى يقاتلوا الجيش غداً من جهة واحدة· ثم خطب الحسين (ع) بأهل بيته وأصحابه وأثنى عليهم وطلب منهم التفرّق في جنح الظلام وهم في حلٍّ من بيعته لأنّ القوم لا يطلبون سواه· ولكنّهم رفضوا جميعاً وأصرّوا على الموت معه والاستشهاد بين يديه· ثم أخذ يحدّثهم بعظيم منزلة أهل البيت (ع) ومنزلتهم عند الله عزوجل ويوم القيامة، ويريهم منازلهم في الجنان وما أعدَّ لهم من جزيل الثواب· ثم انشغل الجميع تلك الليلة بالصلاة والدعاء والتضرّع وقراءة القرآن والاستعداد لمواجهة الأعداء· ولم يكن مع الحسين (ع) غير «72» من أهل بيته وأنصاره على أشهر الروايات·

وفي صباح اليوم العاشر من المحرم سنة 61 هـ، تقدّم الحسين (ع) نحو الجيش الكوفي وخطبهم خطبة بليغة عرّف فيها نفسه إليهم وما قاله رسول الله (ص) في حقّه وحقّ أخيه الحسن (ع)، ثم حذّرهم من الركون الى الدنيا وذكّرهم بالكتب التي كتبوها إليه، وذكرهـم باسمائهم وكان جماعة منهم قد تولّوا قيادة بعض الكتائب في الجيش الكوفي قائلاً لهم: «يا شبث بن ربعي ويا حجّار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّت الجنان وانّما تقدم على جُندٍ لك مُجنّدة» فأنكروا ذلك، فقال (ع): «سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم»· وقال أيضاً في خطبته هذه:«تبّاَ لكم أيتها الجماعة وترحا، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين فأصرخناكم مؤدّين مستعدّين، سللتم علينا سيفاً في رقابنا، وحششتم علينا نار الفتن التي جناها عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً لأعدائكم، بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه، من غير حدثٍ كان منّا، ولا رأي تفيَّل لنا·

فهلاّ لكم الويلات إذ كرهتمونا وتركتمونا، تجهزتمونا والسيف لم يشهر، والجأش طامن، والرأي لم يستحصف، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش، فقبحاً لكم، فإنّما أنتم من طواغيت الاُمّة، وشذّاذ الأحزاب ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرّفي الكتاب، ومُعطـّلي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومُبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهّار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين·

وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون، وإيّانا تخذلون، أجل والله الخذل فيكم معروف، وشجت عليه عروقكم، وتوارثته اُصولكم وفروعكم، ونبتت عليه قلوبكم، وغشيت به صدوركم، فكنتم أخبث شيء سنخاً للناصب وأكلة للغاصب، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، فأنتم والله هم·

ألا إنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين، بين القتلة والذلّة، وهيهات منّا أخذ الدنيّة، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت، وحجور طهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا إنّي قد أعذرت وأنذرت، ألا أنّي زاحف بهذه الاسرة على قلة العدد وخذلان الناصر·

أما أنّه لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدّي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم فكيدوني جميعاً ثم لا تُنظرون· إنّي توكّلتُ على الله ربّي وربّكم ما من دابّةٍ إلاّ هو آخذٌ بناصيتها إنّ ربي على صراط مستقيم· اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلـّط عليهم غلام ثقيف يُسقيهم كأساً مُصبِرَةً، فلا يدع فيهم أحداً إلاّ قتلةً بقتلة وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم، فإنّهم غرّونا وكذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» ثم تركهم·

ثم جاءهم بعد ساعة وناشدهم مناشدة في بديهيات ما يعلمونه من نسبه من رسول الله (ص) ولبسه ثياب رسول الله (ص) ولامة حربه، وكل ذلك يقولون «نعم» ثم قال لهم: فَبمَ تستحلّون دمي وأبي صلوات الله عليه الذائد عن الحوض، يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟! فقالوا: نعلم كل ذلك ولكنّنا لا ندعك حتى تموت عطشاً·

فقال (ع) لهم: «اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا عزير ابن الله، واشتدّ غضب الله على النصارى حين قالوا المسيح ابن الله، واشتدّ غضب الله على المجوس حين عبدوا النار، واشتدّ غضبه على هذه العصابة الذين يريدون قتل ابن نبيّهم»·

وبدأ عمر بن سعد القتال عندما رمى أول سهم نحو معسكر الحسين (ع) وصاح: اشهدوا لي عند الأمير انّني أول من رمى· وعندما رأى الحر بن يزيد الرياحي عزم الجيش على محاربة الحسين (ع) مال بفرسه نحو الحسين (ع) واضعاً يديه على رأسه طالباً التوبة، فقال لـه الحسين (ع): «إن تبت تاب الله عليك» ثم طلب القتال فأذن لـه الإمام، فبرز الى القوم وأخذ يقاتلهم الى أن قُتل رحمه الله·

ثم هجم جيش الكوفة على معسكر الحسين (ع) ووقع قتال عظيم أسفر عن قتل مجموعة من أصحاب الحسين (ع)· ثم انتقل القتال الى المبارزة، فكان الرجل والرجلان والثلاثة يبرزون ويقاتلون الى أن يُقتلوا·

وعند الـزوال صلّى الحسين (ع) بأصحابه صلاة الخوف، ثم قال لهم: «يا أصحابي إنّ هذه الجنّة قد فُتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، واينعت ثمارها، وزيّنت قصورها، وتألّفت ولدانها وحورها· وهذا رسول الله (ص) والشهداء الذين قُتلوا معه وأبي واُمّي يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم، وهم مشتاقون إليكم، فحاموا عن دين الله وذبّوا عن حرم رسول الله (ص)»·

وهكذا استمر القتال حتى قُتل جميع الأصحاب، ثم برز أهل البيت النبوي الواحد تلو الآخر حتى قتلوا جميعاً، وكان عددهم سبعة عشر· فبقي الحسين (ع) وحده، فأخذ يبرز الى القوم وينصحهم وهم يرمونه بالسهام والحجارة، وتارة يرجع الى عياله خوفاً من هجوم الجيش الاُموي على خيامهم، ويودع النساء والأطفال ويقول لهم: «استعدوا للبلاء واعلموا أنَّ الله تعالى حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمـركم الى خير، ويعذّب أعاديكم، ويعوّضكم الله عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكـّوا ولا تقولو بألسنتكم ما ينقص من قدركم»·

ثم يرجع الى الجيش الكوفي فينصحهم ويذكّرهم لعلهم يرجعون، ومن خطبه تلك: «يا أهل الكوفة قبحاً لكم وترحاً، وبؤساً لكم وتعساً، استصرختمونا والهين فأتيناكم موجبين، فشحذتم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحثثتم علينا ناراً نحن أضرمناها على عدوّكم وعدوّنا، فأصبحتم وقد آثرتم العداوة على الصلح من غير ذنبٍ كان منّا إليكم، وقد أسـرعتم إلينا بالعناد وتركتم بيعتنا رغبة في الفساد، ثم نقضتموها سفهاً وضلَّة لطواغيت الاُمة وبقية الأحزاب ونبذة الكتاب، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنّا وتقتلونا، ألا لعنة الله على الظالمين»·

ثم يهجم عليهم ويغور في أوساطهم كالأسد الهصور فيفرّون من بين يديه كالمعزى، ثم يرجع الى مقرّه· وحينها نادى عمر بن سعد بالجيش أن لا يبرز إليه أحد، وأن يفترقوا عليه ثلاث فرق، فرقة بالحجارة وفرقة بالنبال وفرقة بالسيوف، حتى اُثخن بالجراح وأصابه السهم المثلث في قلبه الشريف فاستخرجه من ظهره وانصب الدم كالمـيزاب ثم وقع على الأرض يجود بنفسه، وبقي هكذا ساعة والناس يهابون أن يتقدّموا إليه، وعمر بن سعد ينادي بالقوم أن أنزلوا إليه وأريحوه، وكلّما تقدم أحدهم ونظر الى وجه الحسين (ع) انشغل بالنظر الى نور وجهه ثم يفرّ مذعوراً، حتى نزل إليه أحد قادة الجيش وهو شمر بن ذي الجوشن فذبحه من الوريد الى الوريد، وقضى الحسين (ع) نحبه شهيداً عطشاناً غريباً وحيداً، ولم تنته قصّة عاشوراء·


source : sibtayn
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الأزارقة
زياد ابن أبيه.. أحد رمـــوز الإرهاب الأموي
شيعة الريّ وضغوط الغَزْنَويّين
مناظرة الإمام الكاظم(ع) مع عبد الله بن نافع في ...
خالد بن الوليد و الطوق في الجيد
البشائر ببعثته
محاولة اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ...
السر في مُطالبة فاطمة الزهراء (ع) بفدك
الشيعة في أفغانستان
فخرج منها خائفاً يترقب:

 
user comment