موقفه من السلاطينمادام الانحراف بدأ يفرز خطوطه بوضوح في هذا العصر، حينئذ نتوقع من الامام (عليه السلام) ان يمارس وظيفة التوعية الاسلامية حيال السلطة الزمنية المنحرفة، ويحذر الاسلاميين من التعاون مع السلطة، مثلما يحذرهم من الانحدار في الفتن والاضطرابات التي واجهها هذا العصر... ففي احدى توصياته (عليه السلام) يقول: «كفانا» الله واياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين. أيها المؤمنون: لا يفتننكم الطواغيت واتباعهم من اهل الرغبة في الدنيا، المائلون اليها، المفتونون بها، المقبلون عليها وعلى حطامها الهامد وهشيمها البائد غداً... وان الامور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور، وبوائق الزمان، وهيبة السلطان، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة اهل الحق الا قليلاً ممن عصم الله عزوجل، فليس يعرف تصرف ايامها وتقلب حالاتها وعاقبة ضرر فتنتها الا من عصم الله،ونهج سبيل الرشد، وسلك طريق القصد، ثم استعان على ذلك بالزهد، فكرر الفكر واتعظ بالعبر وازدجر... واياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم...الخ»(۱). لنمعن النظر في هذه الفقرات التي وردت في النص المتقدم، من نحو: (كيد الظالمين) (بطش الجبارين) (لا يفتننكم الطواغيت) (سنن الجور) (هيبة السلطان) (صحبة العاصين) (معونة الظالمين) (مجاورة الفاسقين) (احذروا فتنتهم) (تباعدوا من ساحتهم).. انها جميعاً تكشف عن ان الامام (عليه السلام) كان حريصاً كل الحرص على توعية الاسلاميين، وتحذيرهم من الانقياد وراء متاع الحياة الدنيا، وبهارج السلطة والجاه والموقع، حيث ان السلطة تخلت تماماً عن الالتزام ولو شكلياً بمبادىء الرسالة التي شغل بها الجمهور في الفترات السابقة بحيث كانت تستأثر باهتمامه كما لحظنا.... والملاحظ ان الامام (عليه السلام) كان يستثمر جميع الفرص التي تتيح له ان يمارس عملية التوعية والتحذير من التعاون مع الظالمين سواء اكان ذلك في صعيد الخطب والتصويات العامة - كما لحظنا من النص المتقدم- ام كان ذلك في صعيد التوعية والتحذير لافراد بأعيانهم،... ومن ذلك مثلاً كتابته لأحد الاشخاص يلفت نظره الى النتائج المترتبة دنيوياً واخروياً على التعاون مع الظالمين. يقول (عليه السلام) في رسالته: «فانظر اي رجل تكون غداً اذا وقفت بين يدي الله فسالك عن نعمه كيف رعيتها وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبن الله قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات، هيهات، ليس كذلك اخذ على العلماء في كتابه اذ قال: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه». واعلم ان ادنى ما كتمت واخف ما احتملت ان آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه واجابتك له حين دعيت، فما اخوفني ان تبوء باثمك غداً مع الخونة وان تسأل عما اخذت باعانتك على ظلم الظلمة، انك اخذت ما ليس لك ممن اعطاك ودنوت ممن لم يرد على احد حقاً ولم ترد باطلاً حين ادناك واجبت من حاد الله، او ليس بدعائه اياك - حين دعاك- جعلوك قطباً اداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليك الى بلاياهم وسلماً الى ضلالتهم؟»(۲). واضح، ان الامام (عليه السلام) في هذه (الرسالة) يحدد الوظيفة الاجتماعية للمفكرين، حيث ان الله تعالى كما يقول (عليه السلام): (اخذ على العلماء في كتابه اذ قال: «لتبيننه للناس ولا تكتمونه») وحينئذ فان تعاونهم مع الظالم يساهم في نشر الضلال، دون ان يردوا باطلاً، فضلاً عن انهم يومنون وحشة الظالم، وفضلاً عن انهم يظلون بمثابة جسر يعبر الظالمون عليهم لتمرر مظالمهم... الخ. المهم، ان الامام (عليه السلام) وهو يمارس هذه الوظيفة الاجتماعية في التنبيه على المناخ السياسي لهذا العصر، والتحذير من التعاون مع الظالمين، انما يكشف بذلك عن اهم خصائص هذا العصر وانعكاساته على حقل الأدب ومن ثم انعكاساته على تحديد وظيفة الامام (عليه السلام) واثر هذه الوظيفة على رجال الفكر، حيث ان توجيهاته وتوصياته (عليه السلام) لابد ان تترك اثراً على ميدان النشاط الأدبي بالنسبة لعدد كبير من رجال الفكر الملتزمين... وأما: *******فنياًيمكن ملاحظة كل من (الخطبة) و(الرسالة) اللتين وقفنا عندهما من حيث خصائص الفن ومدى احتشادهما بالعناصر الجمالية التي اعتمدها (عليه السلام) لتوصيل هدفه الفكري... فالفقرات الاخيرة - من الرسالة على سبيل المثال- قد اعتمدت عنصر (التمثيل) و(الاستعارة) بنحو يتناسب تماماً مع السياق الموضوعي الذي استخدم فيه هذا العنصر الصوري،... قال (عليه السلام): «جعلوك قطباً، اداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك الى بلاياهم، وسلماً الى ضلالتهم»... هذه الصور الفنية الثلاث تتوكأ على عنصري... التمثيل والاستعارة وقد استخدمها الامام (عليه السلام) في صورة كلية موحدة تتألف من صور جزئية هي (قطب الرحى، والجسر، والسلم)... وأهمية مثل هذا التركيب الصوري تتمثل في كونه (عليه السلام) قد انتخب ظواهر مألوفة واضحة في خبرات الناس جميعاً مثل الرحى والجسر والسلم حيث يواجه الانسان يومياً أمثلة هذه الخبرات. وهذه خصيصة واحدة.... اما الخصيصة الفنية الثانية: فقد استخدم الامام (عليه السلام) ثلاث ظواهر متجانسة من حيث كونها تتماثل في دلالاتها، «فالجسر» مثلاً هو خاص لعملية العبور، و«السلم» خاص لعملية الصعود، أي ان كليهما وسيلة لحركة الانتقال من مكان لآخر، وعندما يستخدمهما الامام (عليه السلام) في توضيح هدف خاص، انما يكون ذلك قد انتخب ظواهر خاصة قد التقطت بمهارة ودقة، وكذلك «الرحى» حيث انها تستخدم لطحن الأشياء من خلال الاعتماد على القطب منها، والمهم ان هذه الظواهر الثلاث بالرغم من الفوارق بينها الا انها تستخدم لأهداف متماثلة فالقطب تدار عليه الرحى من اجل عملية طحن، والجسر من اجل عملية عبور، والسلم من اجل عملية صعود،... وحين يستخدمها الامام (عليه السلام) في قضية التعاون مع الظالم، يكون بذلك قد انتخب ادق الظواهر لهذا الغرض، بل ان استخدامه للصورة (التمثيلية) بدلاً من التشبيه مثلاً يدلنا على أنه (عليه السلام) قد انتخب عنصر (الصورة التمثيلية) لأن الجسر والسلم والقطب هي (تمثيل) للتعاون مع الظالم... واما الخصيصة الثالثة، فهي ان الامام انتخب (قطب الروحى) للمظالم، وانتخب (الجسر) للبلايا، وانتخب (السلم) للضلالة،... ولهذا الانتخاب دلالاته الفنية، فالمظالم هي شدائد تدور على الانسان، ولذلك كان من المناسب ان يختار ظاهرة ذات (دوران) وهي: الرحى وجعل الشخص (قطباً) تدور عليه هذه الرحى..... واما (الضلال) فهو عملية تدن وهبوط، الا ان الامام (عليه السلام) استخدم مفهوم (الضد) وهو: الصعود، لكي يوضح بأن المتعاون مع الظالم قد اتخذ (سلماً) للصعود بالضلال الذي هو تدن وهبوط في الواقع. وهذا النمط من التركيب الصوري يجسد خصيصة فنية رابعة حيث يستخدم (التضاد) من خلال (التماثل)... وأما «الجسر» فبما انه وسيلة عبور حينئذ فان البلايا - وهي المصائب- طالما تقترن بكونها مما يمر عليها ويعبر عليها لتثبيت مواقع الظالمين، من حيث ان مواقعهم وسلطانهم يمر من خلال مصائب الآخرين، كما هو واضح... اذن: امكننا ان نتبين جملة من الخصائص الفنية المثيرة في هذا الانتخاب لعنصر (الصورة)، فيما تجانست - فنياً- مع طبيعة الافكار التي استهدف الامام (عليه السلام) توصيلها الى الناس. والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في (الخطبة) التي وقفنا عندها، حيث حشدها (عليه السلام) بعنصر صوري ملحوظ من نحو: (حطامها الهامد، وهشيمها البائد)، وحشدها بعنصر ايقاعي محلوظ ايضاً من نحو: (فكرر الفكر، واتعظ بالعبر، وازدجر) حيث استخدم عنصر (التجانس الصوتي) بمستوياته المختلفة (فكرر الفكر) - وهو تجانس في اكثر من صوت - (العبر، ازدجر، الفكر)- وهو تجانس في اكثر من فاصلة... الخ. هذا فضلاً عن حشد الخطبة بعنصر لفظي قائم على التكرار، والتضاد، والتتابع، و... الخ. ******* (۱) تحف العقول: ص ۲٥۷، ۲٦۰. (۲) نفس المصدر ص ۲۸۱،۲۸٤. - See more at:
source : irib