حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام كلها دعوة إلى الله تعالى، وإعلاء لكلمته، وإشادة بأمره، فكانوا يتوسلون بكل السبل والوسائل لإرشاد الأمة وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وكانت رسائلهم الخاصة هي بعض هذه الرسائل التي يستخدمونها للإرشاد والتبليغ.
إن من يتصفح هذه الرسائل يجدها طافحة بالتعاليم الإسلامية،مملوءة بالمواعظ والحكم والأخلاق.
نذكر بعض ما ورد من كتب الإمام زين العابدين عليه السلام:
1- من كتاب له عليه السلام إلى عبد الملك بن مروان جواباً عن كتاب كتبه إليه:
أما بعد فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أمجد به في الصهر، واستنجبه في الولد، وأنه ليس فوق رسول الله صلى الله عليه وآله مرتقى في مجد، ولا مستزاداً في كرم، وإنما كانت ملك يميني خرجت مني بأمر أراده الله عز وجل التمست فيه ثوابه، ثم ارتجعها على سنته، ومن كان زكياً في دين الله فليس يخل به شيء من أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمم به القضية، وأذهب اللوم، فلا لوم على امرئ مسلم، إنما اللوم لوم الجاهلية والسلام.
فلما قرأ عبد الملك الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه ثم قال: يا أمير المؤمنين: لشد ما فخر عليك علي بن الحسين.
قال عبد الملك: لا تقل ذلك يا بني، فإنها ألسن بني هاشم، وإن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس.
ثم التفت عبد الملك لجلسائه فقال: أخبروني عن رجل إذا أتى منا يضع الناس لم يزده إلا شرفاً.
قالوا: ذاك أمير المؤمنين.
قال: لا والله.
قالوا: ما نعرف إلا أمير المؤمنين.
فقال عبد الملك: فلا والله، ما هو بأمير المؤمنين، ولكنه علي بن الحسين(1).
2- بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله صلى الله عليه وآله عند علي بن الحسين فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة، فأبى عليه، فكتب إليه عبد الملك يهدده، وأنه يقطع رزقه من بيت المال.
فأجابه عليه السلام: أما بعد: فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون. والرزق من حيث لا يحتسبون وقال جل ذكره: (إن الله لا يحب كل خوان فخور)، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية(2).
3- من كتاب له عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري يعظه به:
كفانا الله وإياك من الفتن، ورحمك من النار، نعم الله بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وعرّفك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله، فرض لك في كل نعمة أنعم بها عليك، وفي كل حجة أحتج بها عليك الفرض فما قضى إلى ابتلى شكرك في ذلك، وأبدى فيه فضله عليك فقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).
فانظر أيَّ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبن الله قابلاً منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير، هيهات هيهات ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه).
واعلم أن أدنى ما كتمت، أخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت، وأجابتك له حين دُعيت، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غداً مع الخونة، وأن تُسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك، ودنوت ممن لم يردَّ على أحد حقاً، ولم تردَّ باطلاً حين أدناك، وأحببت من حادَّ الله، أوليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمرو لك، فكيف ما خربوا عليك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول.
وانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً، فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه: (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا).
إنك لست في دار مقام، أنت في دار قد آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه، طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس لمن يموت وتبقى ذنوبه من بعده.
أحذر فقد نبئت، وبادر فقد أجلت، إنك تعامل من لا يجهل، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل، تجهز فقد دنا منك سفر بعيد وداوِ ذنبك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعبيرك، لكني أردت أن ينعش، الله ما فات من أريك، ويردَّ إليك ما عزب من دينك، وذكرت قول الله تعالى في كتابه: (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).
أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، انظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت، أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه، أم هل تراهم ذكرت خيراً علموه، وعلمت شيئاً جهلوه، بل حظيت بما حلَّ من حالك في صدور العامة وكلفهم بك، إذا صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بأمرك إن أحللت أحلوا، وإن حرمت حرموا وليس ذلك عندك ولكن أظهرهم عليك رغبتهم فيما لديك، ذهاب علمائهم وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحب الرئاسة، وطلب الدنيا منك منهم، أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة وما الناس فيه من البلاء والفتنة، قد ابتليتهم وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت، أو يدركوا به مثل الذين أدركت، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك وهو المستمعان.
أما بعد فاعرض عن كل ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في اسما لهم لاصقة بطونهم بظورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا ولا يفتنون بها، رغبوا فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا، فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ مع كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فكيف يسلم الحدث في سنة، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله، إنا لله وإنا إليه راجعون على من المعول، وعند من المستعتب؟ نشكو إلى الله بثّنا وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك.
فانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً، وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلاً، مالك لا تنتبه من نعستك، وتستقيل من عثرتك: (والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحييت له ديناً، أو أمت له فيه باطلاً) فهذا شكرك من استحملك وما أخوفني أن تكون كمن قال الله تعالى في كتابه: (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً) ما استحملك كتابه، واستودعك علمه فأضعتها، فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به والسلام(3).
1- زين العابدين لسيد الأهل ص 60.
2 - بحار الأنوار ج 11 ص 27 أعيان الشيعة ج 4 ص 481.
3 - تحف العقول ص 200.
source : irib