أحياناً يكون السؤال غير المباشر طريقاً للكشف عن الحقيقة.. وهو الأسلوب الذي تعارف عليه المناطقة ليس قديماً فقط، بل حتى في عصرنا الراهن، وعندما نكون بصدد التفكير في قضيّة أهل البيت (عليهم السلام) من شتى المناحي التي شعّت من خلالها أنوار هدايتهم، لا يكون السؤال عن مظلوميتهم ومحاصرتهم هو السؤال الوحيد الممكن في هذا الاتجاه، بل يمكن طرح السؤال من جهة أخرى، وهي: ماذا خسر المسلمون كافة من عزلهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن قيادة الأمة؟
فهذا السؤال ـ حتماً ـ يفضي بنا إلى ما سيربحه المسلمون بزعامة أهل البيت للأمة؟ وبالتالي يكون السؤال طريقاً لمعرفة دورهم الرباني.
لقد أسفرت الأحداث التاريخية الكبرى عن ذلك الاهتزاز الذي شلّ الأمة الإسلامية من أن تواصل انتصاراتها السماوية على قيم الشرك، وأسفرت أيضاً عن واقع النفاق الذي بات يختمر في جسد الأمة ويهدّد أركانها، طوراً بزرع الفتن وطوراً بتحريف المبدأ.
في ظل تلك الظروف القاسية والاضطرابات السياسية، تقلص دور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأعيقت حركته التنويرية في المجتمع، حيث انفتحت الآفاق أمام أشتات من الرجالات المصطنعة، وعليه يمكننا حصر ما آل إليه الوضع بالنسبة لآل البيت (عليهم السلام) ومجمل معاناتهم في هذا الاتجاه ضمن النقاط التالية:
أولاً: اعتزال سياسي فيما يخص إدارة الحكم ـ باستثناء خمس سنوات في حياة الإمام أمير المؤمنين.
ثانياً: صعوبة في أداء الدور التوعوي والتنويري في المجتمع.
ثالثاً: غياب مثالهم وإخفاء قداستهم الرمزية للأمة بفعل السلطات.
هذه باختصار أهم ما عاناه الأئمة من عناء، وأهم ما اعترضهم من مشاكل كبّلتهم عن السعي إلى نهاية أهدافهم وأعاقت حركتهم كمشروع يتجه إلى التقويم والإصلاح.
الاعتزال السياسي
لم يعتزل الأئمة العمل لسياسي في مفهومه الثوري.. بل لقد كانوا يشكلون طليعة المعارضة للنهج التحريضي، وفي مقدمة الدعوة التصحيح.، ولهذا اعتبرهم التاريخ ركيزة المعارضة الرئيسية في المجتمع، ولا تزال أدبياتهم تحمل معاني الرفض أحياناً، ومشاريع التصحيح أحياناً أخرى، ولكن ما نقصده هنا هو الاعتزال السياسي على مستوى ممارسة السلطة، ذلك الاعتزال الذي حدث كنتيجة لتآمر تاريخي لا داعي لذكره الآن، وما يهمنا هنا هو نتيجة عزلهم عن ممارسة السلطة، لقد أصبحت السلطة وإشكالية تنفيذ الحكم الإسلامي تعاني صعوبة كبيرة في عموم أوساط المجتمع الإسلامي الكبير، ولعل مرد ذلك إلى غياب نموذج تاريخي دقيق للحكم الإسلامي يصلح كأساس لنظرية إسلامية في الحكم، فما نتج عن هذا العزل، هو أن الأمة خسرت رؤية موحدة عن الحكم ونظرية دقيقة عن السياسة.
ولقد شهد التاريخ الإسلامي بعد استشهاد أمير المؤمنين اضطرابات عنيفة، حالت دون الاستقرار السياسي للأمة الإسلامية، وغني عن البيان أن أحد أهم أسباب تلك الاضطرابات العنيفة على مستوى السلطة، كانت بسبب غياب نموذج سياسي يمثل النظرية الإسلامية في السلطة والإدارة.
صعوبة أداء الدور الرسالي المطلوب
بفعل الحصار الشديد على أشخاص أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، اضطر هؤلاء إلى سلوك نوع من السرية في عملية التأهيل الاجتماعي، وكلما تصاعدت حدة الحصار، ازداد التخفي إلى أن بات الصوت العلوي يعاني اختناقاً بليغاً وأعيق دورهم في ممارسة التنوير والإشعاع الروحي والتربوي في المجتمع، ومعلوم أن أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يمثلون حصناً منيعاً ضد الفوضى والفتن التي كادت تعصف بالكيان الإسلامي، وقد كان الإمام الرضا (عليه السلام) مثالاً عالياً لذلك الحصن الذي منع بفيض التوحيد، غزو الأفكار الرافدة من بقايا الشرك، تلك الأفكار التي انبهر بها المتكلون يومها، وجعلوها أساساً لفهم العقيدة، وآلية في توكيد الإسلام.
وعلى الرغم من الحصار المفروض قام الإمام (عليه السلام) بمحاولة زرع التوحيد في صورته القرآنية، منطلقاً من حديث السلسلة الذهبية (لا إله إلا الله حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي) ولقد كان جده الإمام الصادق (عليه السلام) عقلاً متفجراً في دنيا العلم والفقاهة، وقد أسس جامع من كبرى الجامعات الإسلامية، تخرج منها علماء أفذاذ. منهم أئمة المذاهب الأربعة، أبو حنيفة، مالك، ابن حنبل، الشافعي، ولكن مع ارتفاع درجة الحصار، أصبح من الصعب ممارسة الدور التوعوي بشكل شامل، فكانت تلك بحق أكبر خسارة للمسلمين، تلك الخسارة التي تتجلّى في بعدين:
الأول: خسارة العلم الحقيقي، وهو الذي يتصل بالقرآن الكريم، لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله): (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً.. كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض). وهم الراسخون في العلم، فحل محلهم الغث والسمين، ممن خلطوا ومالوا، وعقّدوا العلم وخلطوه بالجهل، حتى انطبق عليهم قول الإمام:(العلم قطرة كبرها العلماء).. فتحولت الأمة إلى أشتات، وسادت فيها مذاهب مختلفة وطرائق قدداً كل واحدة منها تجذب الحبل لنفسها.
أما البعد الثاني: فهو خسارة المرجعية وشرائطها في ميدان العلم، فأصبح العلم وظيفة يتحكم بها البلاط ويحدّدها.
غياب المثال والرمز
تتضارب الرموز والمثالات في التراث الإسلامي وتلف محددات الرمز ضبابية كبيرة، فبعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبق هناك رمز في فكر غالبية العوام، ليترجم تلك المكانة الرسالية في شخصه، وبتعبير آخر لم يعد من يمثل الامتداد الطبيعي لتلك الشخصية.
لقد بدأ أهل البيت (عليهم السلام) يواجهون الحصار وبطش السلطات، حتى ضاعت رمزيتهم في أذهان كثيرة، واضطروا بعدها إلى تعويضها برموز لا ترقى إليهم، وعاشت الأمة بعد ذلك أزمة رموز حيث التفّت على نماذج كانت سبباً في انهيار الصرح الحضاري للأمة، وآل بوضعها إلى الدمار، لقد جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قول الرسول (صلّى الله عليه وآله): لا تقدموهم فتهلكوا ولا تؤخروهم فتظلوا. وكان ذلك هو حال الأمة. فماذا كنا إذن سنربح بتقديم أهل البيت والاستجابة لأوامرهم (عليهم السلام)؟
أجل، كنا سنربح استقراراً سياسياً ناجماً عن حسن الإدارة، وسنربح نظرية متقدمة وثابتة في مفهوم السلطة وممارستها، وكنا سنربح بالتالي وحدة في الاتجاه والرؤية نتيجة وحدة علوم الأئمة (عليهم السلام)، وسنربح جميعاً رموزاً عبقرية نباهي بها الأمم ونستظل بها في طريق التقدم والرقي.
قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجى ومن رغب عنها هلك).
source : tebyan