كان عصر الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) من أزهى العصور الإسلامية وأروعها، فقد تميّز في نهضته العلمية وحضارته الفكرية، وقد ظلّ المسلمون وغيرهم أجيالاً وقروناً يعيشون على موائد الثروات الفكرية والعلمية التي أسّست في ذلك العصر.
ولابدّ لنا من الحديث - بإيجاز - عن معالم الحياة في عصر الإمام (عليه السلام) فقد أصبحت دراسة العصر من المباحث المنهجية التي لا غِنى للباحث عنها لأنّها تكشف عن أبعاد الشخصية، وتدلّل على مناحيها الفكرية، وسائر اتجاهاتها، وفيما يلي عرض لذلك:
الحياة الثقافية:
أما الحياة الثقافية في ذلك العصر فتعتبر من أبرز معالم الحياة في العصور الإسلامية على الإطلاق، فقد ازدهرت الحركات الثقافية، وانتشر العلم انتشاراً واسعاً، وتأسّست المعاهد الدراسية، وانتشرت المكاتب العامة، وأقبل الناس بلهفة على طلب العلم، يقول نيكلسون: (وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية، ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في خلق نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أنّ الناس جميعاً من الخليفة إلى أقل أفراد العامة شأناً غدوا فجأة طلاّباً للعلم أو على الأقل أنصاراً للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارّات سعياً إلى موارد العلم والعرفان ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهّفين، ثمّ يصنّفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنّفات التي هي أشبه شيء بدوائر المعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في ايصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعة من قبل)(1) ونُلمح إلى بعض المعالم الرئيسية من تلك الحياة الثقافية.
المراكز الثقافية:
أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فهي:
1 - يثرب:
وكانت يثرب من أهم المراكز العلمية في ذلك العصر، فقد تشكّلت فيها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقد ضمّت عيون الفقهاء والرواة من الذين سهروا على تدوين أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وقد عنوا بصورة موضوعية بتدوين أحاديثهم الخاصة في الفقه باعتباره روح الإسلام وجوهره، كما تشكّلت في يثرب مدرسة التابعين وهي مدرسة فقهية عنت بأخذ الفقه ممّا روي عن الصحابة، ويرجع بما لم يروا عنهم إلى ما يقتضيه الرأي والقياس حسب ما ذكروه.
2 - الكوفة:
وتأتي الكوفة بعد يثرب في الأهمية، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد، والمدارس الإسلامية، فقد انتشرت فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الإسلامية من الفقه والتفسير والحديث وغيرها.
وكانت الكوفة علوية الرأي، فقد عنت مدرستها بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) وقد حدّث الحسن بن علي الوشاء فقال: أدركت في هذا المسجد - يعني مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد(2) ومن أهم الأسر العلمية التي درست في ذلك الجامع هي آل حيّان التغلبي وآل أعين، وبنو عطيّة وبيت بني دارج وغيرهم(3).
ولم يكن الفقه وحده هو السائد في مدرسة الكوفة، وإنّما كان النحو سائداً أيضاً، فقد أنشأت في الكوفة مدرسة النحويين، وكان من أعلامها البارزين: الكسائي الذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنيه الأمين والمأمون، ومن الجدير بالذكر أنّ هذا العلم الذي يصون اللسان عن الخطأ قد اخترعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو الذي وضع قواعده وأصوله.
3 - البصرة:
أما البصرة فقد كانت مركزاً مهمّاً لعلم النحو، وكان أوّل من وضع أساس مدرسة البصرة أبو الأسود الدوئلي تلميذ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت هذه المؤسسة تنافس مدرسة الكوفة، وقد سُمّي نُحّاة البصرة (أهل المنطق) تمييزاً عن نُحّاة الكوفة وكان من أعلام هذه الصناعة سيبويه الفارسي، وهو صاحب كتاب سيبويه، الذي هو من أنضج الكتب العربية وأكثرها عمقاً وأصالة يقول دي بور: فلو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه عملاً ناضجاً، ومجهوداً عظيماً، حتى أنّ المتأخّرين قالوا: إنّه لابدّ أن يكون ثمرة جهود متضافرة لكثير من العلماء، مثل قانون ابن سيناء(4).
وكما كانت البصرة ميداناً لعلم النحو كذلك كانت مدرسة لعلم التفسير الذي كان من علمائه البارزين أبو عمرو بن العلاء، وكانت مدرسة أيضاً لعلم العروض الذي وضع أصوله الخليل بن أحمد صاحب كتاب (العين) الذي هو أول معجم وضع في اللغة العربية.
4 - بغداد:
أمّا بغداد فقد ازدهرت بالحركات العلمية والثقافية، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء أيسر ولا أبذل من العلم، ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز الإسلامية، وإنّما شملت جميع أنواع العلوم من العقلية والنقلية، وكذا سائر الفنون، وقد أصبحت أعظم حاضرة علمية في ذلك العصر، وقد توافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع أقطار الدنيا يقول لغوستان لوبون: كان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملِل والنِحل من يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا، قال أبو الفرج: عن المأمون انّه كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده هذه بعض المراكز الثقافية في ذلك العصر. (5)
العلوم السائدة:
وكان من العلوم السائدة التي أقبل الناس على تعلّمها، هي:
1 - علوم القرآن:أمّا علوم القرآن الكريم، فمن بينها ما يلي:
أ - علم القراءات:
ويعني هذا العلم بالبحث عن قراءة القرآن وقد وجدت سبع طُرق في القراءات، كل طريقة منها تُنسب إلى قارئ، ومن أشهرهم في العصر العباسي يحيى بن الحارث الذماري المتوفّى سنة (145 هـ) وحمزة بن حبيب الزيات المتوفّى سنة (156 هـ) وأبو عبد الرحمن المقري المتوفى سنة (213 هـ) وخلف بن هشام البزار المتوفى سنة (229 هـ).
ب - التفسير:
ويُراد به إيضاح الكتاب العزيز وبيان معناه، وقد اتجه المفسّرون في تفسيره إلى اتجاهين.
الأول: التفسير بالمأثور، ونعني به تفسير القرآن بما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمّة الهُدى وهذا ما سلكه أغلب مُفسّري الشيعة كتفسير القمّي، والعسكري والبرهان، وحجّتهم في ذلك إنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم المخصوصون بعلم القرآن على حقيقته وواقعه، وقد أدلى بذلك الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) بقوله: (ما يستطيع أحد أن يدّعي إنّ عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء(6) وقد تظافرت الأدلّة على وجوب الرجوع إليهم في تفسير القرآن يقول الشيخ الطوسي:
(إنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الأئمة الذين قولهم حجة كقول النبي صلى الله عليه وآله..).
الثاني: التفسير بالرأي، ويُراد به الأخذ بالاعتبارات العقلية الراجعة إلى الاستحسان وقد ذهب إلى ذلك المفسرون من المعتزلة، والباطنية فلم يعنوا بما أثر عن أئمّة الهدى في تفسير القرآن الكريم، وإنّما استندوا في تفسيره إلى ما يرونه من الاستحسانات العقلية(7).وعلى أي حال فإنّ أوّل مدرسة للتفسير بالمأثور كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو أوّل مفسّر للقرآن الكريم وعنه أخذ عبد الله بن عباس وغيره، من أعلام الصحابة، وكذلك اهتم به اهتماماً بالغاً الأئمة الطاهرون، فتناولت الكثير من محاضراتهم تفسير القرآن، وأسباب نزول آياته وفضل قراءته.
2 - الحديث:
ومن العلوم السائدة دراستها في ذلك العصر (الحديث) الذي هو من أهمّ مصادر التشريع الإسلامي، ونعني به ما أثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) أو عن أحد أوصيائه الأئمة الطاهرين، من قول أو فعل أو تقرير لشيء ويعبّر عن ذلك كلّه بالسنّة.
وقد سبق الشيعة إلى تدوين الأحاديث، فقد حثّ الأئمة الطيّبون أصحابهم على ذلك، فقد روى أبو بصير قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (ما يمنعكم من الكتابة، إنّكم لن تحفظوا حتى تكتبوا، أنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألوا عن أشياء فكتبوها) وقد انبرى جماعة من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى جميع الأحاديث الصحيحة في جوامع كبيرة، وهي الجوامع الأولى للإمامية والتي تعدّ الأساس لتدوين الجوامع الأربعة لمشايخ الإسلام الثلاثة(8).
3 - الفقه:
ومن أميز العلوم التي ساد انتشارها في ذلك العصر بل في جميع العصور الإسلامية هو علم الفقه الذي يناط به معرفة التكاليف اللازمة على المكلّفين وعليهم المسؤولية عند الله في امتثالها وتطبيقها على واقع حياتهم، ومن ثمّ كان الاهتمام بدراسة علم الفقه أكثر من سائر العلوم، وقد قام أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بدور فعال في إنشاء مدرستهم الفقهية التي تخرّج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال زرارة، ومحمد بن مسلم، وجابر بن يزيد الجعفي وأمثالهم من عيون العلماء، وقد دوّنوا ما سمعوه من الأئمة الطاهرين في أصولهم التي بلغت زهاء أربعمائة أصل، ثمّ هذّبت، وجمعت في الكتب الأربعة التي يرجع إليها فقهاء الإمامية في استنباطهم للأحكام الشرعية.
ولم يقتصر هذا النشاط في طلب علم الفقه والإقبال عليه على الشيعة، وإنّما شمل جميع الطوائف الإسلامية.
4 - علم الأصول:
وأسّس هذا العلم الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) حسبما حقّقناه عند البحث عن حياته، وهذا العلم ممّا يتوقّف عليه الاجتهاد والاستنباط، وكان موضع دراسة في ذلك العصر.
5 - علم النحو:
وهو من العلوم التي لعبت دوراً مهمّاً في العصر العبّاسي، فقد كانت بحوثه موضع جدل، وقد عقدت لها الأندية في قصور الخلفاء وجرى في بعض مسائله نزاع حادّ بين علماء هذا الفنّ، وقد تخصّص بهذا العلم جماعة من الأعلام في ذلك العصر في طليعتهم الكسائي والفراء وسيبويه، وقد أسس هذا العلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) رائد العلم والحكمة في الأرض.
6 - علم الكلام:من العلوم التي انتشرت في ذلك العصر علم الكلام، ويقصد به الدفاع عن المعتقدات الدينية بالأدلّة العلمية، وقد أسس هذا الفنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وتخصّص به جماعة من تلاميذهم، يعدّ في طليعتهم العالم الكبير هشام بن الحكم، ومن أشهر المتكلّمين عند أهل السنّة واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وأبو الحسن الأشعري والغزالي.
7 - علوم الطب:
وانتشر علم الطب في ذلك العصر، وقد شجّع ملوك بني العباس على دراسته، ومنحوا الجوائز والأموال الطائلة للمتخصّصين فيه أمثال جبريل بن بختشوع الطبيب النصراني.
8 - الكيمياء:
ومن العلوم التي نالت الاهتمام في ذلك العصر هو علم الكيمياء، وقد تخصّص فيه جابر بن حيان مفخرة الشرق العربي، وقد تلقّى بحوثه من الإمام الصادق الدماغ المفكّر في الإنسانية فهو الذي أسّس هذا العلم.
9 - الهندسة المعمارية والمدنية:
10 - الفلك:
هذه بعض العلوم المنتشرة والسائدة في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) وقد ألّفت فيها مئات الكتب ممّا فقد أو هو مخطوط في خزائن المكتبات في العالم.
ترجمة الكتب:
وكان من مظاهر تطور الحياة الثقافية في ذلك العصر الإقبال على ترجمة الكتب من اللغة الأجنبية إلى اللغة العربية، وقد تناولت كتب الطب، والرياضة، والفلك، وأصناف العلوم السياسية والفلسفة، ذكر أسماء كثير منها: ابن النديم في الفهرست، وكان يرأس ديوان الترجمة حنين بن إسحاق، وقد روى ابن النديم أنّ (المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة، المدّخرة ببلد الروم فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجّاج بن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا ممّا وجدوا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..)(9).وقد ساعدت تلك الكتب المترجمة على نمو الفكر العربي، وساهمت في تطور العلوم في البلاد الإسلامية فقد اشتغل الكثيرون من المسلمين في تفسيرها إلى الناشئة العلمية.
المعاهد والمكتبات
وأنشأت الحكومة العباسية في بغداد المدارس والمعاهد لتدريس العلوم الإسلامية وغيرها، فقد أنشئت فيها حوالي ثلاثون مدرسة، وما فيها من مدرسة إلاّ ويقصر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية(10).
كما أسّست فيها المكتبات العامة التي كان منها مكتبة بيت الحكمة، فقد نقل إليها الرشيد مكتبته الخاصة، وأضاف إليها من الكتب ما جمعه جدّه المنصور وأبوه المهدي، وفي عهد المأمون طلب من أمير صقلية بعض الكتب العلمية والفلسفية، فلمّا وصلت إليه نقلها إلى مكتبة بيت الحكمة، كما جلب إليها من خراسان الكثير من الكتب، وكان حيث ما سمع بكتاب جلبه لها، وظلّت هذه الخزانة التي هي من أثمن ما في العالم قائمة يرجع إليها البحّاث وأهل العلم فلمّا استولى السفّاك المغول على بغداد سنة (656 هـ) عمد إلى إتلافها، وبذلك فقد خسر العالم الإسلامي أعظم تراث له.
الخرائط والمراصد:
وكان من مظاهر ألوان التقدم الثقافي والحضاري في ذلك العصر أنّ المأمون أمر بوضع خريطة للعالم سُمّيت (الصورة المأمونية) وهي أول خريطة صُنعت للعالم في العصر العباسي، كما أمر بإنشاء مرصد فلكي فأنشأ بالشماسية وهي إحدى محلاّت بغداد(11).
ففي هذا الجو العلمي الزاهر كان الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) الرائد الأعلى للحركة الثقافية، فقد التفّ حوله العلماء أثناء إقامته في بغداد وهم ينتهلون من نمير علومه، وقد سألوه عن أدق المسائل الفلسفية والكلامية فأجابهم عنها حسب ما ذكرناه في البحوث المتقدمة.
الحياة السياسية:أمّا الحياة السياسية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد كانت بشعة وحرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت لعموم المسلمين وذلك لما فيها من الأحداث الجسام، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات، وقبل أن نتحدّث عنها نرى من اللازم ان نعرض لمنهج الحكم في العصر العباسي وغيره ممّا يتصل بالموضوع وفيما يلي ذلك:
منهج الحكم:
أمّا منهج الحكم في العصر العباسي فإنّه كان على غرار الحكم الأموي، لم يتغير ولم يتبدل، وقد وصفه (نكلسون) بأنّه نظام استبدادي، وانّ العباسيين حكموا البلد حكماً مطلقاً على النحو الذي كان يحكم به ملوك آل ساسان قبلهم(12).
لقد كان الحكم خاضعاً لرغبات ملوك العباسيين وأمرائهم، ولم يكن له أي التقاء مع القانون الإسلامي، فقد شذّت تصرّفاتهم الإدارية والاقتصادية والسياسية عمّا قنّنه الإسلام في هذه المجالات.
لقد استبدّ ملوك بني العباس بشؤون المسلمين وأقاموا فيهم حكماً إرهابياً لا يعرف الرحمة والرأفة، وهو بعيد كلّ البعد عمّا شرّعه الإسلام من الأنظمة الخلاّقة الهادفة إلى بسط العدل، ونشر المساواة، والحق بين الناس.
الخلافة والوراثة:
ولم تخضع الخلافة الإسلامية حسب قيمها الأصيلة إلى أي قانون من قوانين الوراثة ولا لأي لون من ألوان المحاباة أو الاندفاع وراء الأهواء والعواطف، فقد حارب الإسلام جميع هذه المظاهر واعتبرها من ألوان الانحطاط والتأخر الفكري للمسلمين، وأناط الخلافة بالقيم الكريمة، والمُثل العُليا، والقدرة على إدارة شؤون الأمة، فمن يتصف بها فهو المرشّح لهذا المنصب الخطير الذي تدور عليه سلامة الأمّة وسعادتها.أما الشيعة فإنّما خصّت الخلافة بالأئمة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام) لا لقرابتهم من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وانّهم ألصق الناس به وأقربهم إليه، وإنّما لمواهبهم وعبقرياتهم، وما اتصفوا به من الفضائل التي لم يتصف بها أحد غيرهم.
وأمّا الذين طبّلوا بالوراثة فهم العباسيّون، فاعتبروها القاعدة الصلبة لاستحقاقهم للخلافة لأنّهم أبناء عم الرسول (صلى الله عليه وآله) وقد بذلوا الأموال الطائلة لأجهزة الإعلام لنشر ذلك وإذاعته بين الناس.
وقد هبّت إلى الأوساط العباسي المرتزقة تتقرّب بانتقاص العلويين وتشهد بأنّ ذئاب بني العباس هم أولى بالنبي (صلى الله عليه وآله) من السادة الأطهار من آل الرسول (صلى الله عليه وآله).
ويقول الرواة: إنّ أبان بن عبد الحميد كان مُبعداً عن العباسيين لولائه لأهل البيت (عليهم السلام) فخفّ إلى البرامكة وطلب منهم أن يوصلوه إلى الرشيد فأشاروا عليه انّه لا سبيل إلى ذلك إلاّ أن يعرض في شِعره أنّ بني العباس هم ورثة النبي (صلى الله عليه وآله) وأولى بالخلافة من العلويين فأجابهم إلى ذلك ونظم قصيدة جاء فيها:
نشدت بحقّ الله من كان مسلماً أعم بما قد قلته: العجم والعرب
أعمّ رسول الله أقرب زلفة لديه أم ابن العم في رتبة النسب
وأيّهما أولى به وبعهده ومن ذا له حق التراث بما وجب
فإن كان عباس أحق بنسلكم وكان على بعد ذاك على سبب
فأبناء عباس هم يرثونه كما العم لابن العم في الإرث حجب
ولمّا قرأ قصيدته على الرشيد ملئت نفسه إعجاباً فمنحه الرضا ومنحه الأموال الطائلة.
تصرّفات شاذّة:
ولمّا التزم العباسيّون بقانون الوراثة، قاموا بتصرفات شاذّة ونابية ومعادية لمصلحة الأمة وكان من بينها:
1 - إسناد الخلافة إلى الذين لم يبلغوا سن الرشد، فقد عهد الرشيد بالخلافة إلى ابنه الأمين، وكان له من العمر خمس سنين، وإلى ابنه المأمون وكان عمره ثلاث عشر سنة.
وقد انحرف بذلك عمّا قرّره الإسلام من أنّ منصب الخلافة إنّما يُسند إلى من كان يتمتع بالحكمة والتجارب، وممارسة الشؤون الاجتماعية والدراية التامة بما تحتاج إليه الأمّة في جميع مجالاتها، وليس من سبيل لإسنادها للأطفال والصبيان.
2 - إسناد ولاية العهد لأكثر من واحد فإنّ في ذلك تمزيقاً لشمل الأمّة وتصديعاً لوحدتها وقد شذّ الرشيد عن ذلك فقد أسند الخلافة من بعده إلى الأمين والمأمون، وقد ألقى الصراع بينهما، وعرّض الأمة إلى الأزمات الحادة، والفتن الخطيرة، وسنعرض لها في البحوث الآتية.
الوزارة:
من الأجهزة الحساسة في الدولة العباسية هي الوزارة، فكانت - على الأكثر - وزارة تفويض، فكان الخليفة يعهد إلى الوزير بالتصرف في جميع شؤون دولته ويتفرغ هو للّهو والعبث والمجون، فقد استوزر المهدي العباسي يعقوب بن داود، وفوّض إليه جميع شؤون رعيّته وانصرف إلى ملذّاته، وفيه يقول الشاعر:
بني أميّة هبّوا طال نومكم إنّ الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا خليفة الله بين الناي والعود
استوزر الرشيد يحيى بن خالد البرمكي ومنحه جميع الصلاحيات واتجه نحو ملاذّه وشهواته فكانت لياليه الحمراء في بغداد شاهدة على ذلك.
وتصرّف يحيى في شؤون الدولة الواسعة الأطراف حسب رغباته، فقد أنفق الأموال الطائلة على الشعراء المادحين له، واتخذ من العمارات والضِياع التي كانت وارادتها تدرّ عليه بالملايين،وهي التي سببت قيام هارون الرشيد باعتقاله، وقتل ابنه جعفر ومصادرة جميع أموالهم.وفي عهد المأمون أطلق يد وزيره الفضل بن سهل في أمور الدولة فتصرّف فيها حيثما شاء، وكان الوزير يكتسب الثراء الفاحش بما يقترفه من النهب والرشوات، وقد عانت الأمة من ضروب المحن والبلاء في عهدهم بما لا يوصف فكانوا الأداة الضاربة للشعب، فقد استخدمتهم الملوك لنهب ثروات الناس وإذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون.
وكان الوزراء معرّضين للسخط والانتقام وذلك لما يقترفونه من الظلم والجور، وقد نصح دعبل الخزاعي الفضل بن مروان أحد وزراء العباسيين فأوصاه بإسداء المعروف والإحسان إلى الناس، وقد ضرب له مثلاً بثلاثة وزراء ممّن شاركوه في الاسم وسبقوه إلى كرسي الحكم، وهم الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل، فإنّهم لمّا جاروا في الحكم تعرّضوا إلى النقمة والسخط، يقول دعبل:
ألاّ أنّ في الفضل بن سهل لعِبرة إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل
وفي ابن البيع الفضل للفضل زاجر إن ازدجر الفضل بن مروان بالفضل
وللفضل في الفضل بن يحيى مواعظ إن اتعظ الفضل بن مروان بالفضل
إذا ذكروا يوماً وقد صرت رابعاً ذكرت بقدر السعي منك إلى الفضل
فابق جميلاً من حديث تفز به ولا تدع الإحسان والأخذ بالفضل
ولم أرَ أبياتاً من الشعر قبلها جميع قوافيها على الفضل والفضل
وليس لها عيب إذا هي أنشدت سوى أنّ نصحي الفضل كان من الفضل
ومن غرائب ما اقترفه الوزراء من الخيانة أنّ الخاقاني وزير المقتدر بالله العباسي ولِّيَ في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كلّ واحدة رشوة(15) وكثير من أمثال هذه الفضائح والمنكرات عند بعض وزراء العباسيين.
الفتنة بين الأمين والمأمون:لعلّ من أبرز الأحداث السياسية التي جرت في عصر الإمام محمد الجواد (عليه السلام) هي الفتنة الكبرى التي وقعت بين الأمين والمأمون، وأدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما، وقد كلّفت المسلمين ثمناً باهضاً وذلك بما بذلوه من الدماء وإزهاق الأنفُس في سبيل استقرار المُلك والسلطان لأحدهما وقبل أن نعرض إلى ذكر هذه الأحداث نُشير - بإيجاز - إلى بعض شؤون الأمين وأحواله:
صفات الأمين:
ولم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأية نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته.
1 - كراهته للعلم:
كان الأمين ينفر من العلم، ويحتقر العلماء، وكان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب(13) وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية.
2 - ضعف الرأي:
وكان الأمين ضعيف الرأي، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته، وقد وصفه المسعودي بقوله: (كان قبيح السيرة ضعيف الرأي يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه) ووصفه الكتبي بقوله: (وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب)(14).
وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.
3 - احتجابه عن الرعيّة:واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وامرأته وعمّاله واستخفّ بهم وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين انّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم، ومراجعة لآمالهم.
واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب الخراقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن، أمّا الخراقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر، وقد ركب معه أبو نؤاس وكان ينادمه فقال:
سخّر الله للأمين مطايا لم تسخّر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن بحراً سار في الماء راكباً ليث غاب
أسداً باسطاً ذراعيه يعدو أهرت الشدق كالخ الأنياب(ـ هرت الشدق: واسعه. كالخ الأنياب: كاشرها.)
لا يعانيه باللجام ولا السو ط ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رؤوك على صو رة ليث تمرّ مرّ السحاب
سبّحوا إذ رأوك سرت عليه كيف لو أبصروك فوق العقاب(العقاب: إحدى السفن التي كانت معدّة للأمين)
ذات زدون منسّر جناحين تشقّ العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما استعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمين وأبقا ه له رداء الشبابملك تقصر المدائح عنه هاشمي موفّق للصواب(15)
هذه بعض نزعات الأمين وصفاته، وهي تصوّر لنا إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولن يعن بأي شأن من شؤون الدولة الإسلامية.
خلعه للمأمون:
وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفى الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأمور خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه وكان ذلك - فيما يقول المؤرخون - برأي الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر.
وهذا ليس غريباً عليه فقد اقترف كل ما هو مجاف للأخلاق والأعراف.
الحروب الطاحنة:وبعدما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر ابن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته (كتبت إليك، ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.
محاصرة بغداد:
وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثرة العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد(16).وعلى أي حال فقد منيت بغداد بأفدح الخسائر من جرّاء تلك الفتنة الكبرى، وقد فقدت الكثير من أبنائها، وقد زحفت جيوش المأمون إلى تطويق قصر الأمين، وإلحاق الهزائم بجيشه فلم تتمكّن من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما يملكه من العتاد والسلاح.
قتل الأمين:
وكان الأمين في تلك المحنة الحازبة مشغولاً بلهوه وطربه، ويقول المؤرّخون: إنّه كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكانت توافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين، وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى: (اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء)(17) وقال فيه بعض الشعراء:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً فاحكم على ملكه بالويل والخرب
أما ترى الشمس في الميزان هابطة لما غدا وهو برج اللهو والطرب(18)
وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الخلاف بين الأمين والمأمون، وهو من أعظم الأحداث السياسية في ذلك العصر.
خلافة إبراهيم الخليع:
من الأحداث السياسية في ذلك العصر خلافة إبراهيم الخليع الذي لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العباسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم...)(27).وقد سخر به دعبل في أبيات له، فقد وصفه بأبشع الصفات وجعل مصحفه البربط، ووصفه رسترستين بقوله: (لم تكن له مواهب الحاكم، ولكنّه كان رجلاً سليم الذوق، يهتمّ بالموسيقى والغناء)(19).
هربه:
وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من كان يعتمد على نصرته، وقال في هجائهم:
فلا جزيت بنو العباس خيراً على رغمي ولا اغتبطت بري
أتوني مهطعين وقد أتاهم بواد الدهر بالخبر الجلي
وقد ذهل الحواضن عن بنيها وسد الثدي عن فمه الصبي
وحلّ عصائب الأملاك منها فشدّت في رقابي بني علي
فضجّت أن تشدّ على رؤوس تطالبها بميراث النبي(20)
وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.
ثورة أبي السرايا:من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) هي ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)) الذين هم الأمل الباسم للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العباسية، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في مهدها، فقد جلب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على جميع صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة كما ألمحنا إلى ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.
هذه بعض الثورات التي حدثت في عصر الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وهي تحكي عن عدم استقرار الوضع السياسي في ذلك العصر.
مبايعة العباسيين للعلويين:
ولم يشك أحد من المسلمين أن أهل البيت أولى بالخلافة وأحقّ بها من العباسيين، كما أن العباسيين كانوا لا يرون أنهم أهل للخلافة مع وجود العلويّين وقد بايعوا بالإجماع الزعيم العلوي الكبير محمد ذا النفس الزكية، فقد اجتمعوا بالأبواء مع العلويين، فانبرى صالح بن عليّ فقال لهم:(إنّكم القوم الذين تمتدّ إليهم أعين الناس فقد جمعكم الله في هذا الموضع فاجتمعوا على بيعة أحدكم، وتفرّقوا في الآفاق، فادعوا الله لعلّه أن يفتح عليكم وينصركم..).
وبادر المنصور الدوانيقي فدعاهم إلى بيعة محمد الذي تؤيّده جميع القوى الإسلامية في ذلك العصر، فقال:
(لأي شيء تخدعون أنفسكم، والله لقد علمتم ما الناس أصور - أي أميل - أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى - وأشار إلى محمد بن عبد الله -..).
وصدقوا جميعاً مقالته قائلين بلسان واحد:
(والله صدقت إنّا نعلم هذا..).
وبادر العلويّون والعباسيون إلى بيعة محمد، وكان ممّن بايعه السفاح والمنصور وكان أشدهم اندفاعاً في خدمته والتملّق إليه المنصور الدوانيقي فكان يأخذ بركابه، ويسوّي عليه ثيابه، ويقول:إنه مهدينا أهل البيت.
وكانت بيعة المنصور لمحمد موضع وفاق، فقد جيئ بعثمان بن محمد الزبيري أسيراً إلى المنصور بعد فشل ثورة محمد، فصاح به المنصور.
(يا عثمان أنت الخارج عليَّ مع محمد..).
فأجابه عثمان بمنطق الأحرار، وهو ساخر من الحياة، وهازئ بالموت قائلاً: (بايعته أنا وأنت بمكّة فوفيت ببيعتي، وغدرت ببيعتك..).
وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس الطاغية فشتمه إلاّ أن عثمان لم يعن به وأجابه بالمثل، فأمر السفاك بقتله، فقتل ويذكر أبو فراس الحمداني في شافيّته نكث العباسيين لبيعتهم للعلويين بقوله:
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن أباهم العلم الهادي وأمّهم
لا بيعة ردعتكم عن دمائهم ولا يمين ولا قربى ولا ذمم
لقد بايع العباسيون بالإجماع العلوي الثائر محمد ذا النفس الزكية إلاّ أنهم نكثوا بيعتهم، وخاسوا بعدهم فقتلوه وقتلوا كلّ من كان متّصلاً به من العلويّين وغيرهم.
اختلاس العباسيين للسلطة:واختلس العباسيون السلطة من العلويين، فقد أوعزوا إلى دعاتهم في بداية الثورة برفع شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأن يموهوا بكلّ حذر على الجماهير بأنّ الخلافة بأنّ الخلافة لأهل البيت (عليهم السلام)، ولا نصيب فيها لغيرهم، وفي سبيل هذه الدعوى الغالية ضحّى المسلمون بأفلاذ أكبادهم، فقد أيقن المسلمون وآمنوا أنّ لا منقذ لهم، ولا محرّر لهم من جور الأمويّين وظلمهم سوى أهل البيت حماة العدل، ودعاة الحقّ في الإسلام، يقول السيد مير علي: (وكانت كلمة أهل البيت هي السحر الذي يؤلّف بين قلوب مختلف طبقات الشعب، ويجمعهم حول الراية السوداء..)(21).
وتستّر العباسيون تحت هذا الظلال الوارف الذي جمع ما بين العواطف والمشاعر وأخذوا يردّدون الشعارات التي تردّدها الجماهير وهي أن لا حاكم للمسلمين سوى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وانطلقت الأمة في مسارها وهي تدكّ حصون الظالمين وتبيد دعاتهم وجيوشهم، ولمّا تمّ النصر وإذا بالعبّاسيين قد زحفوا إلى دست الحكم واحتلّوا منصب أهل البيت (عليهم السلام) وسرقوا جهود الجماهير.
خيبة آمال المسلمين:
وخابت آمال المسلمين حينما تسلم العباسيون قيادة الأمة، فلم تتغير أيّة جهة من معالم السياسة الأمويّة، فقد عاد الجور، وانفتح باب الظلم على مصراعيه يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: (ولكن ذلك المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمر الثقفي، وعمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح عبد الله المعروف بالسفاح، وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء على نحو لم يعرف من قبل)(22) وقد صوّر شعراء ذلك العصر مدى خيبة المسلمين وضياع آمالهم في الحكم العباسي، يقول أبو عطاء السندي:يا ليت جور بني مروان عاد لنا يا ليت عدل بني العباس في النار
وقال عطاء يذكر ارتفاع الأسعار:
بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم فقد قام سعر التمر صاعاً بدرهم
وقال أحمد بن أبي نعيم:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأ مّة والٍ من آل عبّاس
وقال أبو دلامة في المنصور:
وكنّا نرجي من أمير زيادة فزاد لنا فيها بطول القلانس
وقال سليم العدوي:
حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ولا نرى لولاة الحقّ أعوانا
مستمسكين بحقّ قائمين به إذا تلوّن أهل الجور ألوانا
ياللرجال لداء لا دواء له وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
ويقول دعبل الخزاعي:
ألم تر للأيام ما جر جورها على الناس من نقض وطول شتات
ومن دول المستهترين ومن غدا بهم طالباً للنور من الظلمات
وقال سديف:
إنّا لنأمل أن ترتد الفتنا بعد التباعد والشحناء والإحن
وتنقضي دولة أحكام قادتها فينا كأحكام قوم عابدي وثن
ولمّا سمع الطاغية المنصور بهذين البيتين كتب إلى عامله عبد الصمد أن يدفنه حيّاً ففعل(23).
لقد انهارت الأماني التي كانت تأمل بها الشعوب الإسلامية، وتبدّدت أحلامهم إلى سراب، فقد كان الحكم العبّاسي قائماً على الجبروت والطغيان، ومتعطّشاً إلى سفك الدماء، وربّما كانت معالم الحياة السياسية في العهد الأموي خيراً منها بكثير في العهد العباسي الأوّل فقد كانت لبني أمية من الفواضل ما لم تكن للمنصور الدوانيقي السفاك على حدّ تعبير الإمام الصادق (عليه السلام).
اضطهاد العلويّين:واضطهدت أكثر الحكومات العباسية رسمياً العلويين، وقابلتهم بمنتهى القسوة والشدّة، وقد رأوا من العذاب ما لم يروه في العهد الأموي وأوّل من فتح باب الشر والتنكيل بهم الطاغية فرعون هذه الأمة المنصور الدوانيقيوهو القائل: (قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن محمد) وهو صاحب خزانة رؤوس العلويّين التي تركها لابنه المهدي تثبيتاً لملكه وسلطانه وقد ضمّت تلك الخزانة رؤوس الأطفال والشباب والشيوخ من العلويّين(24). وقد ادّخرها الفاجر لآخرته ليقدّمها هدية إلى جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالويل له يوم حشره ونشره.. وقد قال أبو القاسم الرسي العلوي حينما هرب من سجنه:
لم يروه ما أراق البغي من دمنا في كلّ أرض فلمى قصر من الطلب
وليس يشفي غليلاً في حشاه سوى أن لا يرى فوقها ابن بنت نبيّ(25)
وهو الذي وضع أعلام العلويين في سجونه الرهيبة حتى قتلتهم الروائح الكريهة وردم على بعضهم السجون حتى توفّوا، لقد اقترف هذا الطاغية السفَاك جميع ألوان التصفية الجسدية مع العلويين، وعانوا في ظلال حكمه من صنوف الإرهاب والتنكيل ما لا يوصف لفضاعته وقسوته.
أما موسى الهادي فقد زاد على سلفه المنصور، وهو صاحب واقعة فخ التي لا تقل في مشاهدها الحزينة عن واقعة كربلاء، وقد ارتكب فيها هذا السفاك من الجرائم ما لم يُشاهد مثله، فقد أوعز بقتل الأطفال وأعدام الأسرى، وظلّ يطارد العلويين، ويلحّ في طلبهم فمن ظفر به قتله، ولكن لم تطل أيام هذا الجلاّد حتى قصم الله ظهره.أما هارون الرشيد فهو لم يقلّ عن سلفه في عدائه لأهل البيت (عليهم السلام) والتنكيل بهم وهو القائل: (حتام أصبر على آل بني أبي طالب، والله لأقتلنّهم ولأقتلنّ شيعتهم، ولأفعلنّ وأفعلنّ)(26) وهو الذي سجن الإمام الأعظم موسى بن جعفر (عليه السلام) حفنة من السنين، ودسّ إليه السمّ حتى توفي في سجونه، لقد جهد الرشيد في ظلم العلويين وإرهاقهم، فعانوا في عهده جوّاً من الإرهاب لا يقلّ فضاعة عمّا عانوه في أيام المنصور.
ولما آلت الخلافة إلى المأمون رفع عنهم المراقبة، وأجرى لهم الأرزاق وشملهم برعايته وعنايته، ولكن لم يدم ذلك طويلاً فإنّه بعد ما اغتال الإمام الرضا (عليه السلام) بالسمّ، أخذ في مطاردة العلويين، والتنكيل بهم كما فعل معهم أسلافه.
وعلى أيّ حال فإن من أعظم المشاكل السياسية التي أُمتحن بها المسلمون امتحاناً عسيراً هي التنكيل بعترة النبي (صلى الله عليه وآله) وذرّيته وتقطيع أوصالهم بيد الزمرة العباسية الخائنة التي لا تقلّ في قسوتها وشرورها عن بني أمية، فقد انتهى الأمر بأبناء النبي (صلى الله عليه وآله) أنهم كانوا يتضوعون جوعاً حتى بلغ الحال بالقاسم بن إبراهيم أنّه كان يطبخ الميتة ويأكلها لفقره وسوء حاله(27). إلى غير ذلك من المآسي التي حلّت بهم، ومن الطبيعي أنّها قد كوت قلب الإمام أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، وأخلدت له الأسى والحزن.
مشكلة خلق القرآن:
لعلّ من أعقد المشاكل السياسية التي أُبتلي بها المسلمون في ذلك العصر هي محنة خلق القرآن فقد أشاعت الفتن والخطوب في البلاد، فقد أظهر المأمون هذه المسألة في سنة (212 هـ).
وقد أمتحن بها العلماء امتحاناً شديداً، وأرهقوا إلى حدّ بعيد فمن لا يقول بمقالة المأمون سجنه أو نفاه أو قتله وقد حمل الناس على ما يذهب إليه بالقوّة والقهر.إنّ هذه المسألة تعتبر من أهمّ الأحداث الخطيرة التي حدثت في ذلك العصر، وقد تعرّض الفلاسفة والمتكلّمون إلى بسطها وإيضاح غوامضها ولولا خوف الإطالة والخروج عن الموضوع لتحدّثنا عنها بالتفصيل.. إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن الحياة السياسية في عصر الإمام الجواد (عليه السلام).
الحياة الاقتصادية:
وجهد الإسلام على تطوير الحياة الاقتصادية وازدهارها، واعتبر الفقر كارثة مدمّرة يجب القضاء عليه بكافة الطرق والوسائل، وألزم ولاة الأمور والمسؤولين أن يعملوا جاهدين على تنمية الاقتصاد العام، وزيادة دخل الفرد، وبسط الرخاء والرفاهية بين الناس ليسلم المسلمون من الشذوذ والانحراف الذي هو - على الأكثر - وليد الفقر والحرمان، وكان من بين ما عنى به أنّه حرّم على ولاة الأمور إنفاق أموال الدولة في غير صالح المسلمين، ومنعهم أن يصطفوا منها لأنفسهم وأقربائهم، ومن يمتّ إليهم، ولكن ملوك بني العباس قد جافوا ما أمر به الإسلام في هذا المجال فاتّخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً، وأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم وملاذهم من دون أن يتحرّجوا في ذلك، وقد أدّت هذه السياسية الملتوية إلى أزمات حادّة في الاقتصاد العام، فقد انقسم المجتمع إلى طبقتين: الأولى الطبقة الراقية في الثراء التي لا عمل لها إلاّ التبطّل واللهو، والأخرى الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض، وتعمل في الصناعة، وتشقى في سبيل أولئك السادة من أجل الحصول على فتات موائدهم، وترتّب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء(28) ونحدّث - بإيجاز - عن شؤون الحياة الاقتصادية في ذلك العصر:
واردات الدولة:أما واردات الدولة الإسلامية في العصر العباسي الذي عاش فيه الإمام أبو جعفر الجواد (عليه السلام) فقد كانت ضخمة للغاية، فقد أحصى ابن خلدون الخراج في عهد المأمون فكان مجموعه ما يزيد على 400 مليون درهم(29)، وقد بلغ من سعة المال ووفرته أنّه كان لا يُعدّ، وإنما كان يوزن، فكانوا يقولون: إنه بلغ ستة أو سبعة آلاف قنطار من الذهب، وقد حسب عامل المعتصم على الروم خراجها فكان أقلّ من ثلاثة آلاف ألف، فكتب إليه المعتصم يعاتبه، وممّا جاء في عتابه: (إنّ أخسّ ناحية عليها أخس عبيدي خراجها أكثر من خراج أرضك)(30). ومن المؤسف أنّ هذه الأموال الوفيرة لم تنفق على تقدم المسلمين وتطوير حياتهم، وإنما كان الكثير منها يصرف على الشهوات والملذّات، وقد عكست تلك الأموال الهائلة ترف بغداد في ذلك العصر ذلك الترف الذي تحكيه قصص (ألف ليلة وليلة) التي مثّلت حياة اللهو في ذلك العصر.
التهالك على جمع المال:
وتهالك الناس في ذلك العصر على جمع المال بكلّ وسيلة سواءً كانت مشروعة أم غير مشروعة، فقد أصبح المال هو المقياس في قيم الرجال، وأخذ يتردّد في الأمثلة الجارية في بغداد (المال مال، وما سواه محال) وتوسّل الناس إلى جمعه بكلّ طريق لا يعفون عن محرم، ولا يتورّعون عن خبيث، وأصبح الخداع والغشّ هو الوسيلة في جمعه.
تضخّم الثروات:
وتضخّمت الثروات الهائلة عند بعض الناس خصوصاً في بغداد التي هي عاصمة العالم الإسلامي، فقد وجدت فيها طبقة رأسمالية كانت تملك الملايين، وكذلك البصرة فقد ضمّت طبقة كبيرة من أهل الثراء العريض فقد كانت البصرة ثغر العراق والمركز التجاري الخطير الذي يصل بين الشرق والغرب، وتستقبل متاجر الهند، وجزر البحار الشرقية، ومن أجل ذلك سمّيت البصرة أرض الهند وأمّ العراق(31).
نفقات المأمون في زواجه:وكان من ألوان ذلك الإسراف والبذخ في أموال المسلمين هو ما أنفقه المأمون من الأموال الطائلة المذهلة في زواجه بالسيدة بوران فقد أمهرها ألف ألف دينار، وشرط عليه أبوها الحسن بن سهل أن يبني بها في قريته الواقعة (بفم الصلح) فأجابه إلى ذلك، ولما أراد الزواج سافر إلى (فم الصلح) ونثر على العسكر الذي كان معه بألف ألف دينار وكان معه في سفره ثلاثون ألفاً من الغلمان الصغار والخدم الصغار والكبار وسبعة آلاف جارية... وعرض العسكر الذي كان معه فكان أربع مائة ألف فارس، وثلاثمائة ألف راجل.. وكان الحسن بن سهل يذبح لضيوفه ثلاثين ألف رأس من الغنم، ومثليها من الدجاج، وأربع مائة بقرة، وأربعمائة جمل وسمّى الناس هذه الدعوة (دعوة الإسلام) ولكن هذا ليس من الإسلام في شيء، فإنّ الإسلام قد احتاط كأشدّ ما يكون الاحتياط في بيت مال المسلمين فحرم إنفاق أي شيء في غير صالحهم.
وحينما بنى المأمون ببوران نثروا من سطح دار الحسن بن سهل بنادق عنبر فاستخفّ بها الناس، وزهدوا فيها، ونادى شخص من السطح قائلاً: كلّ من وقعت بيده بندقة فليكسرها فإنّه يجد فيها رقعة، وما فيها له وكسر الناس البنادق فوجدوا فيها رقاعاً في بعضها تحويل بألف دينار وفي أخرى خمسمائة دينار إلى أن تصل إلى المائة دينار، وفي بعضها فرس وفي بعضها عشرة أثواب من الديباج، وفي بعضها خمسة أثواب، وفي بعضها غلام، وفي بعضها جارية، وحمل كلّ من وقعت بيده رقعة إلى الديوان واستلم ما فيها كما أنفق على قادة الجيش فقط خمسين ألف ألف درهم(32) ويقول الباهلي مهنّئاً للحسن وابنته وللمأمون: بارك الله للحسن ولبوران في الختن
يا بن هارون قد ظفرت ولكن بنت من(33)ولمّا كانت ساعة الزفاف أجلست بوران على حصير منسوج من الذهب ودخل عليها المأمون ومعه عمّاته وجمهرة من العبّاسيّات فنثر الحسن بن سهل على المأمون وزوجته ثلاثمائة لؤلؤة وزن كلّ واحدة مثقال، وما مدّ أحد يده لالتقاطها، وأمر المأمون عمّاته بالتقاطها، ومدّ يده فأخذ واحدة منها (فالتقطتها العباسيات) وقال المأمون: قاتل الله أبا نواس كأنّه حضر مجلسنا هذا حيث قال في وصف الخمرة:
كان صغرى وكبرى من فواقعها حصباء در على أرض من الذهب
لقد أنفق الحسن والمأمون هذه الأموال الطائلة على زواجه، وهي من بيت مال المسلمين، وقد أمر الله بإنفاقه على مكافحة الفقر ومطاردة البؤس والحرمان.
ومن الجدير بالذكر أنّ هارون الرشيد لمّا تزوّج بالسيّدة زبيدة صنع وليمة لم يسبق مثلها في الإسلام، فقد جعل الهبات غير محصورة، فكانت أواني الذهب مملوءة بالفضّة، وأواني الفضّة مملوءة بالذهب ونوافج المسك وقِطع العنبروكان هذا هو الإسراف والتبذير الذي حرّمه الإسلام حفظاً على الاقتصاد العامّ في البلاد.
هبات وعطايا:
ووهب ملوك بني العباس أموال المسلمين بسخاء إلى المغنّين والمغنّيات والخدم والعملاء، فقد غنّى إبراهيم بن المهدي العباسي محمد الأمين صوتاً فأعطاه ثلاثمائة ألف ألف درهم فاستكثرها إبراهيم، وقال له: يا سيدي لو قد أمرت لي بعشرين ألف ألف درهم فقال له الخليفة: هي هي إلاّ خراج بعض الكور، وغنّى ابن محرز عند الرشيد بأبيات مطلعها (واذكر أيام الحمى ثمّ انثن) فاستخفّ به الطرب فأمر له بمائة ألف درهم، وأعطى مثل ذلك للمغني دحمان الأشقر ولمّا تقلّد المهدي العباسي الخلافة وزّع محتويات إحدى خزانات بيت المال بين مواليه وخدمه(34) إلى غير ذلك من الهبات والهدايا التي كانت من الخزينة المركزية التي ألزم الإسلام بإنفاقها على المشاريع الحيوية التي تزدهر بها البلاد.
اقتناء الجواري:وبدل أن يتّجه ملوك بني العباس إلى إصلاح البلاد وتنميتها الاقتصادية فقد اتّجهوا بنهم وجشع إلى اقتناء الجواري، والمغالاة في شرائها، فقد جلبت إلى بغداد الجواري الملاح من جميع أطراف الدنيا، فكان فيهنّ الحبشيات، والروميّات، والجرجيات، والشركسيات، والعربيات من مولدات المدينة والطائف واليمامة ومصر ذوات الألسنة العذبة، والجواب الحاضر، وكان بينهنّ الغانيات اللاتي يعزفن بما عليهن من اللباس الفاخر وما يتّخذن من العصائب التي ينظمنها بالدرّ والجواهر، ويكتبن عليهنّ بصفائح الذهبوقد كان عند الرشيد زهاء ألفي جارية، وعند المتوكل أربعة آلاف جاريةوقد زار الرشيد في يوم فراغه البرامكة فلمّا أراد الانصراف خرجت جواريهم فاصطففن مثل العساكر صفّين صفّين، وغنين وضربن بالعود ونقرن على الدفوف إلى أن طلع مقاصير القصر وكان عند والدة جعفر البرمكي مائة وصيفة لباس كلّ واحدة منهنّ وحليّها غير لبوس الأخرى وحليّها(35) لقد كان اقتناء الجواري بهذه الكثرة من نتائج وفرة المال وكثرته عند هذه الطبقة الرأسمالية التي حارت في كيفيّة صرف ما عندها من الأموال.
التفنّن في البناء:
وتفنّن ملوك بني العباس في بناء قصورهم، فأشادوا أضخم القصور التي لم يشيّد مثلها في البلاد وقد بنوا في بغداد قصر الخلد تشبيهاً له بجنّة الخلد التي وعد الله فيها المتقين، وكان من أعظم الأبنية الإيوان الذي بناه الأمين، وقد وصفه المؤرخون بأنّه جعله كالبيضة بياضاً ثمّ ذهب بالإبريز المخالف بينه باللازورد، وكان ذا أبواب عظام ومصاريع غلاظ تتلألأ فيه مسامير الذهب التي قمعت رؤوسها بالجوهر النفيس وقد فرش بفرش كأنّه صبغ بالدم وقد نقش بتصاوير من الذهب، وتماثيل العقيان، ونضّد فيه العنبر الأشهب والكافور المصعدوقد أنفق جعفر البرمكي على بناء داره نحواً من عشرين مليون درهم(36)، وقد تفنّن الناس في بناء القصور وقد وصفها ابن الجهم بقوله:صحون تسافر فيها العيون وتحسر عن بعد أقطارها
وقبّة ملك كأنّ النجو م تصغي إليها بأسرارها
فوارة ثأرها في السماء فليست تقصر عن ثأرها
إذا أوقدت نارها بالعراق أضاء الحجاز سنا نارها
ترد على المزن ما أنزلت على الأرض من صوب أقطارها
لها شرفات كأنّ الربيع كساها الرياض بأنوارها(37)
وبلغ البذخ والترف في ذلك العصر أنّ كثيراً من أبواب الدور في بغداد كانت من الذهب في حين أنّ الأكثرية الساحقة كانت تشكو الجوع والحرمان.
أثاث البيوت:
وحفلت قصور العباسيين بأنواع الأثاث وأفخرها في العالم، ويقول المؤرخون: إنّ السيدة زبيدة قد اصطفت بساطاً من الديباج جمع صورة كلّ حيوان من جميع الأجناس، وصورة كلّ طائر من الذهب، وأعينها اليواقيت والجواهر يقال إنها أنفقت على صنعه مليون دينار(38)، كما اتّخذت الآلة من الذهب المرصّع بالجوهر، والأبنوس، والصندل عليها الكلاليب من الذهب الملبّس بالوشي والديباج، والسمور، وأنواع الحرير، كمثل اتّخاذها شمع العنبر، واصطناعتها الخفّ مرصّعاً بالجوهر واتّخاذها الشاكرية.
أما مجالس البرامكة فكانت مذهلة، فكان الرشيد إذا حضر مجالس البرامكة وهو بين الآنية المرصّعة والخزائن المجزعة، والمطارح من الوشي والديباج والجواري يرفلن في الحرير والجوهر، ويستقبلنه بالروائح التي لا يدري لطيبها ما هي، خيّل إليه أنّه في الجنة بين الجمال والجوهر والطيب(39).
الثياب:
وكان من نتائج بذخ العباسيين وترفهم ما ذكره ابن خلدون أنه كانت دور في قصورهم لنسج الثياب تسمّى دور الطراز، وكان القائم عليها ينظر في أمور الصنّاع وتسهيل آلاتهم وإجراء أرزاقهم(40).
ألوان الطعام:وتعدّدت ألوان الطعام بسبب تقدّم الحضارة فقد روى طيفور عن جعفر بن محمد الأنماطي أنّه تغذّى عند المأمون فوضع على المائدة ثلاث مائة لون من الطعام(41) ونظراً لتعدّد ألوان الطعام فقد فسدت أسنانهم ممّا اضطرّهم إلى شدّها بالذهب للعلاج(42).
مخلفات العباسيين من الأموال:
وخلّف ملوك بني العباس ووزرائهم من الأموال ما لا يحصى، وفيما يلي بعض ما تركوه:
1 - مخلفات المنصور:
وترك الطاغية البخيل المنصور الدوانيقي من الأموال التي سرقها من المسلمين ما يقرب من (600 ستمائة مليون درهم) و (14 أربعة عشر مليون دينار)(43) وقد كدّس هذه الأموال الهائلة في خزائنه وترك الفقر والبؤس يهيمنان على جميع أنحاء البلاد الإسلامية.
2 - مخلّفات الرشيد:
من المال ما يقدّر بنحو (900 تسعمائة مليون درهم).
3 - مخلفات الخيزران:
وتوفيت الخيزران أمّ الرشيد، فكانت غلّتها ألف ألف وستّين ألف درهم.
4 - مخلّفات عمرو بن سعدة:
وترك عمرو بن سعدة أحد وزراء المأمون ما يقرب من ثمانية ملايين دينار فأخبروا المأمون بذلك في رقعة فكتب عليها (هذا قليل لمن اتّصل بنا، وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيه)(44).
ومعظم هذه الأموال قد اختلست من المسلمين، ونهبت من الخزينة المركزية.
وقد خالفوا بذلك ما أمر به الإسلام من الاحتياط الشديد في أموال المسلمين وعدم صرفها وإنفاقها إلاّ في صالحهم.. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الحياة الاقتصادية في عصر الإمام (عليه السلام).
حياة اللهو والطرب:
وعاش أكثر خلفاء بني العباس عيشة لهو وطرب ومجون، ليس فيها ذكر لله ولا لليوم الآخر، لقد قضوا أيامهم في هذه الحياة التافهة التي تمثّل السقوط والانحطاط، يقول الشاعر في بعض خلفائهم: خليفة في قفص بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغاوقد روى أحمد بن صدقة قال: دخلت على المأمون في يوم السعانين(يوم السعانين: عيد للنصارى) وبين يديه عشرون وصيفة جلباً روميات مزنرات قد تزيّنّ بالديباج الرومي وعلّقن في أعناقهنّ صلبان الذهب، وفي أيديهنّ الخوص والزيتون، فقال المأمون: ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتاً فغنّي فيها ثمّ أنشده:
ظباء كالدنانير ملاح في المقاصير
جلاهنّ السعانين علينا في الزنانير
وقد رزقن أصداغاً كأذناب الزرازير
وأقبلن بأوساط كأوساط الزنابير
فغنّاه بها فلم يزل يشرب، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص(45). وقد حفلت كتب التاريخ والأدب بالشيء الكثير من مجونهم وطربهم وانشغالهم عن النظر في أمور المسلمين بالدعارة والفجور.
وكان من مظاهر الحياة اللاهية لعبهم بالنرد والشطرنج، والعناية بتربية الحمام والمغالاة في أثمانه كما تهارشوا بالديوك والكلاب ولعبوا بالميسر وقد انتشر ذلك حتى في حانات الفقراء(46).
ومن المؤسف أنّ الطرب والمجون قد سرى إلى بعض المحدّثين الذين يجب أن يتّصفوا بالإيمان والاستقامة فقد ذكر الخطيب البغدادي عن المحدث محمد بن الضوء إنّه ليس بمحلّ لأن يؤخذ عنه العلم؛ لأنه كان من المتهتّكين بشرب الخمر والمجاهرة بالفجور، وكان أبو نواس يزوره في الكوفة في بيت خمّار يقال له جابر(47).
التقشّف والزهد:
وبجانب حياة اللهو والطرب التي عاشها الناس في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد كانت هناك طائفة من الناس قد اتّجهت إلى الزهد والتقشّف ونظرت إلى مباهج الحياة نظرة زهد واحتقار، فكان من بينهم إبراهيم بن الأدهم وهو ممّن ترك الحياة الناعمة وأقبل على طاعة الله وكان يردّد هذا البيت:
اتّخذ الله صاحباً ودع الناس جانباوكان يلبس في الشتاء فرواً ليس تحته قميص(48) مبالغة منه في الزهد وكان ممّن عُرِف بالتقشّف معروف الكرخي فكان يبكي وينشد في السحر:
أي شيء تريد منّي الذنوب شغفت بي فليس عنّي تغيب
ما يضرّ الذنوب لو اعتقتني رحمةً بي فقد علاني المشيب(49)
وكان من زهّاد ذلك العصر بشر بن الحارث وهو القائل:
قطع الليالي مع الأيام في خلق والقوم تحت رواق الهمّ والقلق
أحرى وأعذر لي من أن يقال غداً إنّي التمست الغنى من كفّ مختلق
قالوا: قنعت بذا؟ قلت: القنوع غنى ليس الغنى كثرة الأموال والورق
رضيت بالله في عسري وفي يسري فلست أسلك إلاّ أوضح الطرق(50)
ومن الطبيعي أنّ هذه الدعوة إلى الزهد إنّما جاءت من إفراط ملوك العباسيين والطبقة الرأسمالية في الدعارة والمجون وعدم عفافهم عمّا حرّمه الله من الملاهي. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عصر الإمام الجواد (عليه السلام).
المصادر :
1- تاريخ الإسلام: ج 2 ص 322.
2- حياة الإمام موسى بن جعفر: ج 1 ص 82.
3- تاريخ الإسلام: ج 2 ص 338.
4- تاريخ الفلسفة في الإسلام: ص 39.
5- حضارة العرب: ص 218.
6- التبيان: ج1 ص4.
7- حياة الإمام محمد الباقر: ج 1 ص 181.
8- مقدمة المقنع والهداية: ص 10.
9- الفهرست: ص 339.
10- رحلة ابن جبير: ص 208.
11- عصر المأمون: ج 1 ص 375.
12- اتّجاهات الشعر العربي: ص 49.
13- تاريخ التمدّن الإسلامي: ج 4 ص 182.
14- السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: ج 1 ص 16.
15- عيون التواريخ: ج 3 ورقة 212.
16- أبو نؤاس لابن منظور: ص 103 - 104.
17- اتّجاهات الشعر العربي: ص 73.
18- عيون التواريخ: ج 3 ورقة 211.
19- حياة الحيوان للدميري: ج 1 ص 78.
20- الأغاني.
21- دائرة المعارف الإسلامية البريطانية: ج 1 ص 140.
22- التنبيه والأشراف: ص 303. الولاة والقضاة: ص 168.
23- رواح الإسلام: ص 308.
24- نظرية الإمامة: ص 381.
25- العمدة لابن رشيق: ج 1 ص 75 - 76.
26- تاريخ الطبري: ج 10 ص 446.
27- النزاع والتخاصم للمقريزي: ص 51.
28- حياة الإمام موسى بن جعفر: ج 2 ص 47.
29- الحدائق الوردية: ج 2 ص 220.
30- الإدارة الإسلامية في عزّ العرب: ص 82.
31- ـ المقدمة: ص 179 - 180.
32- أحسن التقاسيم للمقدسي: ص 64 (طبع ليدن).
33- مقدمة البخلاء: ص 24.
34- تزيين الأسواق للأنطاكي: ج 3 ص 117.
35- الحدائق الوردية: ج 2 ص 220.
36- تاريخ بغداد: ج 5 ص 393.
37- الجهشياري: ص 246.
38- ضحى الإسلام: ج 1 ص 127.
39- حضارة الإسلام: ص 95، نقلاً عن المستطرف: ص 96.
40- حضارة الإسلام: ص 96. ص 95.
41- تاريخ بغداد لطيفور: ص 36.
42- التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية لصالح أحمد: ص 177.
43- أمراء الشعر العربي: ص 45.
44- الإسلام والحضارة العربية: ج 2 ص 231. ص 230.
45- الأغاني: ج 19 ص 138.
46- حياة الحيوان: ج 5 ص 115.
47- الأوراق: ص 61.
48- حلية الأولياء: ج 7 ص 367 - 373.
49- حلية الأولياء: ج 2 ص 181.
50- صفة الصفوة: ج 2 ص 189
source : rasekhoon