ضافرت الروايات الصحاح على أنّ متعة الحجّ سنّة أبدية إلى يوم القيامة لا تتغيّـر ولا تتبدّل، بل تبقى بحالها إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها، ونذكر في ذلك ما رواه الشيخان ولا نتجاوز عنهما.
1. روى مسلم عن عمرة قالت: سمعت عائشة(رضي اللّه عنها) تقول: خرجنا مع رسول اللّه لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلاّ أنّه الحج حتّى إذا دنونا من مكة أمر رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل....
2. أخرج مسلم عن جابر (رضي اللّه عنه) انّه قال: أقبلنا مهلِّين مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بحجّ مفرد، وأقبلت عائشة(رضي اللّه عنها) بعمرة، حتّى إذا كنّا بسَرِف عركت حتّى إذا قدمنا طُفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أن يُحل منّا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حلُّ ماذا؟ قال: الحلّ كلّه، فواقعنا النساء وتطيّبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال، ثمّ أهللنا يوم التروية...(1)
3. أخرج مسلم عن جابر (رضي اللّه عنه) قال: خرجنا مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مهلّين بالحج معنا النساء والولدان، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لنا رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : من لم يكن معه هدي فليحلل، قال: قلنا: أيّ الحل؟ قال: الحلّ كلّه، قال: فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب، فلمّـا كان يوم التروية أهللنا بالحج.
4. أخرج مسلم عن عطاء، قال: حدّثني جابر بن عبد اللّه الأنصاري انّه حجّ مع رسول اللّه عامَ ساق الهدي معه، وقد أهلُّوا بالحجّ مفرداً، فقال رسول اللّه: «أحلُّوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت و بين الصفا والمروة وقصّروا وأقيموا حلالاً، حتّى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة» قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحج؟ قال: «افعلوا ما آمركم به فانّـي لولا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحلّ منّي حرام حتّى يبلغ الهدي محله، فافعلوا».
5.أخرج مسلم عن جابر بن عبداللّه قال: قدمنا مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مهلِّين بالحجّ، فأمرنا رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ أن نجعلها عمرة ونحل، قال: وكان معه الهدي فلم يستطع أن يجعلها عمرة.(2)
6. أخرج مسلم عن جابر بن عبد اللّه في حديث مفصّل انّه قال: لسنا ننوي إلاّ الحجّ، لسنا نعرف العمرة، حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ـ إلى أن يقول: ـ حتّى إذا كان آخر طوافه (النبي) على المروة، فقال: «لو انّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليُحلّ وليجعلها عمرة» فقام سراقة بن مالك بن جُعشم فقال: يا رسول اللّه، ألعامنا أم لأبد؟ فشبّك رسول اللّه أصابعه واحدة في الأُخرى، فقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين: لا، بل لأبد أبد».(3)
هذا بعض ما رواه مسلم، وتركنا البعض الآخر وربّما يأتي لمناسبة أُخرى.
وإليك ما رواه البخاري في صحيحه.
1. أخرج البخاري عن عائشة زوج النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، قالت: خرجنا مع النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة، قال النبي: من كان معه هدي فليهل بالحجّ مع العمرة، ثمّ لا يحلّ حتّى يحلّ منهما جميعاً.(4)
2. أخرج البخاري عن ابن عباس انّه سئل عن متعة الحجّ، فقال: أحلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبـي في حجّة الوداع وأهللنا فلمّـا قدمنا مكة، قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلاّ من قلّد الهدي، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب.(5)
هذا بعض ما رواه البخاري ويأتي بعضه الآخر، وما رواه الشيخان يدلّ على أُمور:
1. انّ حجّ التمتع فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
2. انّ التمتّع بين العمرة والحجّ سنّة فيها وليس لأحد أن يعترض على التمتع بين الأمرين .
3. انّ العرب في الجاهلية والإسلام كانوا يُحرمون بالحجّ في أشهر الحجّ لا للعمرة، ولذلك أحرم أصحاب النبي وأزواجه للحجّ تبعاً للسيرة السائدة بين العرب من اختصاص أشهر الحجّ بالحجّ فلمّـا دنوا من مكة أو قضوا أعمال العمرة أمرهم النبيّ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ بجعل الإحرام عمرة والعدول إليها، وقد كان ثقيلاً عليهم، كما ستوافيك الروايات في هذا الباب.
4. انّ التمتع بين العمرة والحجّ سنّة أبدية لا تختص بعام دون عام ولا بقوم دون قوم.
5. انّ من ساق الهدي معه ليس له أن يتحلّل ولا يخرج من الإحرام إلاّ إذا بلغ الهدي محلّه وكان النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ممّن ساق الهدي، ولذلك لم يخرج حتّى أبلغ هديه محله، وقد كان عمل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مظنة سؤال للصحابة حيث أمرهم بالتحلّل وبقي نفسه على إحرامه، فنبّههم النبي بأنّه ساق الهدي ولكنّه لو وُفّق للحجّ في المستقبل لما ساق الهدي، وإلى ذلك يشير قوله: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سُقت الهدي».
إنّ في هذا الموضوع روايات في السنن الأربع اقتصرنا بما ذكرنا، وللقارئ أن يرجع إلى السنن والمسانيد فانّه يجد أمثال ما ذكرناه بوفرة.
سيرة العرب قبل الإسلام في الحجّ
يظهر ممّا سردناه من الروايات وما سيوافيك انّ العرب لم تكن تعرف العمرة في أشهر الحجّ وإنّما تأتي بها في غيرها، ولذلك تعاظم عليهم إدخال العمرة في الحجّ، ولأجل إيقاف القارئ على تلك الحقيقة عن كثب، نذكر بعض ما ورد:
1. أخرج البخاري عن ابن عباس(رضي اللّه عنه) قال: كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور، ويجعلون محرم صفراً ويقولون: إذا برأ الدَّبرَ، وعفا الأثر، وانسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول اللّه أي الحل؟ قال: الحلّ كلّه.(6)
والحديث يدلّ بوضوح على أنّ إفراز العمرة عن الحجّ كان سنّة جاهلية سادت على الحج لأسباب غير معلومة وكانوا يصرون على أنّ العمرة بعد انقضاء صفر وفي الحقيقة بعد انقضاء محرّم، ولكن النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قام بوجه هذه البدعة مدة إقامته في المدينة، فقد اعتمر ثلاث عُمَر في ذي القعدة الحرام كما أتى بعمرة رابعة في حجّه في شهر ذي الحجّة في حجة الوداع، وإليك العُمر التي أحرم لها النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ طيلة حياته:
الأُولى: عمرة الحديبية، وهي أوّلهنّ سنة ست، فصدّه المشركون عن البيت، فنحر البُدْن وحلق هو وأصحابه رؤوسهم وحلُّوا من إحرامهم ورجعوا إلى المدينة.
الثانية: عمرة القضاء في العام المقبل في نفس ذلك الشهر.
الثالثة: عمرته من الجعرّانة لما خرج إلى حنين ثمّ رجع إلى مكة فاعتمر من الجعرانة داخلاً إليها.
الرابعة: عمرته التي قرنها مع حجته.
احتدام النزاع بين الصحابة
في حياة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قد عرفت أنّ العرب في العصر الجاهلي يفرزون العمرة عن الحجّ ويأتون بها في غير أشهر الحجّ، وقد كان الجمع بينهما من أفجر الفجور، وقد ترسخت تلك الفكرة عند العرب في العصر الجاهلي حتّى أضحت جزءاً من كيانهم، فالدعوة إلى إدخال العمرة في الحج كانت دعوة على خلاف ما شبّوا وشاخوا عليه، ولذلك لمّا أمرهم النبي بإدخال العمرة إلى الحجّ وجعل الإهلال للحجّ عمرة، تعاظم أمرهم وثارت ثورتهم، وقاموا بوجه النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ على نحو أثاروا غضبه ، وإليك بعض ما روي في المقام:
1. أخرج مسلم عن عطاء قال: سمعت جابر بن عبد اللّه (رضي اللّه عنه) في ناس معي قال: أهللنا أصحاب محمد بالحجّ خالصاً وحده، قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صبح رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نحل، قال عطاء: قال: حلّوا وأصيبوا النساء، قال عطاء: ولم يعزم عليهم ولكن أحلهنّ لهم، فقلنا: لما لم يكن بيننا و بين عرفة إلاّ خمس، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكرنا المني.
قال: يقول جابر بيده كأنّي أنظر إلى قوله «بيده» يحركها، قال: فقام النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فينا فقال: قد علمتم انّي أتقاكم للّه وأصدقكم وأبرّكم ولولا هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلّوا، فحللنا وسمعنا وأطعنا.
قال عطاء: قال جابر: فقدم عليّ من سعايته فقال: بم أهللت؟ قال: بما أهلّ به النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فقال له رسول اللّه: فأهد، وامكث حراماً، قال: وأهدى له علي هدياً، فقال سراقة بن مالك بن جُعشم: يا رسول اللّه: ألعامناهذا أم لأبد، فقال: لأبد.
2. روى مسلم عن جابر بن عبد اللّه(رض) قال: أهللنا مع رسول اللّه بالحجّ، فلمّـا قدمنا مكة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء من قبل الناس، فقال:أيّها الناس أحلّوا فلولا الهدي الذي معي، فعلتُ كما فعلتم، قال: فأحللنا حتّى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتّى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر، أهللنا بالحج.(7)
3. أخرج مسلم عن عائشة انّها قالت: قدم رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لأربع مضين من ذي الحجّة أو خمس فدخل عليَّ وهو غضبان ، فقلت: من أغضبك يا رسول اللّه، أدخله اللّه النار؟ قال: أو ما شعرت انّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو اني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتّى اشتريه ثمّ أحلّ كما حلّوا.(8)
هذا غيض من فيض ممّا يحكي عن حالة عصيان بين الصحابة في ذلك الموضوع وانّهم لم يستجيبوا بادئ بدء لأمر الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حتّى أغضبوه، فأين عملهم هذا من قوله سبحانه: (وَما كانَ لِمَؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(9) وقوله سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَليم).(10)
أي لا تتقدّموا على اللّه ورسوله، ولا تقدّموا قولكم على قولهما.
عودة التقاليد الجاهلية
حجّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ مع أصحابه وعلّمهم مناسك الحجّ ومواقفه وسننه وطقوسه فأعاد كلّ ما حُرّف إلى محله، ولكن للأسف انّ عمر بن الخطاب، قدم الاجتهاد على النص ومنع من متعة الحج وشدد النكير عليه وتبعه عثمان ودام الأمر عليه إلى العهود التالية، وكفى في ذلك ما رواه الشيخان وغيره.
1. روى مسلم عن أبي موسى قال: قدمت على رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، قال: فقد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحلّ قال: فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثمّ أتيت امرأة من بني قيس فَفَلَتْ رأسي ثمّ أهللت بالحج، قـال: فكنت أفتـي به النـاس حتّى كان في خلافة عمر.
فقال له رجل: يا أبا موسى أو يا عبد اللّه بن قيس، رويدك بعض فُتياك فانّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدك، فقال: يا أيّها الناس ما كنّا أفتيناه فتيا فليتَّئد(فليتأنّ.) فانّ أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتَمُّوا.
قال: فقدم عمر فذكرت ذلك له، فقال: إن نأخذ بكتاب اللّه فانّ كتاب اللّه يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنّـة رسـول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ فـانّ رسـول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ لـم يحلّ حتّى بلـغ الهدي محله.
والعجب من أبي موسى مع أنّه كان يفتي الناس بما جرت عليه سيرة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ولكنّه في خلافة عمر عدل عن هدي الرسول وأمر الناس بالتأنّـي مع أنّه سمع من السائل بأنّه حدث جديد في النسك.
نعم استدلّ عمر على إخراج العمرة عن الحجّ بأمرين:
الأوّل: ما في كتاب اللّه حيث أمر سبحانه: (وَأَتِمُّوا الحجّ والعُمرة).
الثاني: سيرة رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ حيث لم يحل حتّى بلغ الهدي محله.
وكلا الاستدلالين من الوهن بمكان.
أمّا الاستدلال بالكتاب فقد عرفت أنّ معنى إتمام الحجّ والعمرة إكمالهما في مقابل المحصر الذي لا يستطيع الإكمال، وأين هو من إخراج العمرة عن الحجّ بإنشاء السفر المستقل لكلّ منهما؟!
وأمّا سيرة النبي فقد كشف قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ النقاب عن عدم إحلاله، لأنّه ساق الهدي وكلّ من ساق الهدي لا يحلّ إلاّ أن يبلغ الهدي محله.
2. أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد اللّه، فقال: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول اللّه، فلمّـا قام عمر قال: إنّ اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وانّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة للّه كما أمركم اللّه وابتّوا نكاح هذه النساء.
3. وروى أيضاً بالاسناد السابق انّ عمر قال: فافصلوا حجّكم من عمرتكم فانّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم.
ويدلّ الحديث على أنّ فصل الحج عن العمرة ظهر في عصر عمر، وقد عرفت أنّ استدلاله بقوله سبحانه(وَأَتِمُّوا الحجّ والعمرة للّه) لا يمتّ إلى هذا الباب بصلة، و قوله في ذيل الحديث الثاني (فافصلوا حجكم من عمرتكم) صريح في فصل الحجّ من العمرة والإتيان بها في غير أشهر الحجّ، و قد مرّ انّ العرب في العصر الجاهلي ترى الجمع بينهما من أفجر الفجور فكأنّ الرجل تأثر مما رسب في ذهنه فحرّم متعة الحج.
4. أخرج مسلم عن أبي موسى انّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رويدك ببعض فُتياك فانّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدُ حتى لقيه بعدُ فسأله، فقال عمر: قد علمت أنّ النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك(الأراك موضع بعرفة قرب نمرة.) ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم.(11)
الحديث يكشف عن أنّه اجتهد أمام النص، لأنّه يكره أن يذهب الحاج إلى عرفة ورأسه يقطر ماءً. وصار ذلك سبباً للمنع عن السنّة القطعية.
وقد استنكر الخليفة متعة الحجّ إلى حدّ كان الأعاظم من الصحابة على خوف من أن يتفوّهوا بجوازه وكانوا يوصون أن لا ينقل عنهم ماداموا على قيد الحياة، وهذا هو عِمْران بن حصين يوصي بعدم إفشاء كلامه مادام حيّاً.
أخرج مسلم عن قتادة، عن مطرِّف قال: بعث إلي عِمْران بن حُصين في مرضه الذي توفّي فيه، فقال: إنّي محدِّثك بأحاديث لعل اللّه ينفعك بها بعدي، فإن عشتُ فأكتُم عني وإن مُتُّ فحدِّث بها إن شئت، انّه قد سُلِّم عليَّ وأعلم انّ نبي اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قد جمع بين حج وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب اللّه ولم ينه عنها نبيّ اللّه قال رجل فيها برأيه ما شاء.
وأخرج أيضاً عن مطرِّف بن عبد اللّه بن الشّخّير، عن عِمران بن حُصَين قال: اعلم أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول اللّه، قال فيها رجل برأيه ما شاء.
وأخرج أيضاً عن مطرِّف، قال: قال لي عمران بن حصين انّي لأُحدّثك بالحديث اليوم ينفعك اللّه به بعد اليوم، وأعلم أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتّى مضى لوجهه، ارتأى كلّ امرئ بعد ما شاء أن يرتئي.(12)
وأخرج البخاري عن قتادة، قال: حدّثني مطرف عن عمران قال: تمتّعنا على عهد رسول اللّه فنزل القرآن، قال رجل برأيه ما شاء.(13)فانّ قول عمران بن حصين فإن عشت فاكتم عنّي وإن مُت فحدث بها إن شئت، أو قوله: «قال رجل فيها برأيه ما شاء» يعرب عن وجود ضغط وكبت من جانب الخليفة في المسألة.
ثمّ إنّ السبب لنهي الخليفة عن متعة الحجّ أحد أمرين:
الأوّل: كراهته أن يكون الحجّاج معرسين بهن في الأراك ثمّ يروحون إلى الحج ورؤوسهم تقطر ماء.
قال أبو حنيفة عن حمّاد، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد قال: بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة، فإذا هو برجل مرجّل شعره، يفوح منه ريح الطيب، فقال له عمر: أمحرم أنت؟ قال: نعم، فقال عمر: ما هيأتك بهيئة محرم، إنّما المحرم، الأشعث، الأغبر، الأذفر، قال: إنّي قدمت متمتّعاً وكان معي أهلي وإنّما أحرمت اليوم، فقال عمر عند ذلك: لا تتمتعوا في هذه الأيام، فإنّي لو رخصت في المتعة لعرسوا بهنّ في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجاً.(14)
روى سعيد بن المسيب: انّ عمر بن الخطاب نهى أنّ المتعة في أشهر الحجّ، وقال: فعلتها مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وأنا أنهى عنها، وذلك أنّ أحدكم يأتي من أُفق من الآفاق شعثاً نَصَباً معتمراً في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبّي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوماً، والحجّ أفضل من العمرة، لو خلّينا بينهم و بين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع، وإنّما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم.(15)
الثاني: خوف تسرب الفقر إلى سكان البيت حيث ليس لهم ضرع ولا زرع فمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ حتّى يتقاطر الحاج في عامة الشهور إلى البلد الأمين، ولأجل هذه الغاية منع عن الجمع حتّى يكون الحجّ في عام والعمرة في عام آخر بإنشاء سفر مستقل لكلّ واحد.
روى أبو نعيم في «حلية الأولياء»: انّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ، وقال: فعلتها مع رسول اللّه وأنا أنهى عنها وذلك: انّ أحدكم يأتي من أُفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوماً، والحجّ أفضل من العمرة، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك وإنّ أهل هذا البيت (أي أهل مكة) ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم.(16) و قد مرّ ما يؤيّده من رواية سعيد بن المسيب.
هذا وانّه سبحانه نقل دعاء الخليل حيث سأله سبحانه أن يرزق سكنة مكة من الثمرات وقال: (رَبّنا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيتي بِواد غَيْر ذِي زَرع عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّم ليُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَل أَفْئدةً مِنَ النّاسِ تَهوِي إِلَيْهِمْ وَارزُقْهُمْ مِنَ الثَّمراتِ لَعَلَّهُمْ يشكُرُون).(17)
وقد استجاب سبحانه لدعاء أبيهم إبراهيم، يقول سبحانه: (وَقالُوا إِنْ نَتَّبع الهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْء رِزْقاً مِنْ لَدُنّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).(18) وعندئذ فلا حاجة للمنع عن السنّة النبوية بُغية توفير أرزاقهم.
ولعمر الحقّ انّ هذه الأعذار لا تبرّر تغيّـر الشريعة وتبديلها والمنع من المناسك التي شرعها سبحانه وبلغها نبيه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ ، وصاحب الشريعة أعرف بمصالح المسلمين ومصالح سدنة مكة وسكنتها .
وقد بلغ منع الخليفة عن متعة الحجّ حتّى قال في بعض خطبه: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما: متعة الحجّ ومتعة النساء» و في لفظ الجصاص: لو تقدمت فيها لرجمت. وفي رواية أُخرى : أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحجّ.(19)
حجّ التمتع على عهد عثمان
وقد اتّبع عثمان سلفه فيما أبدع وأحدث في المناسك فقد منع من الجمع بين العمرة والحجّ.
روى ابن حزم انّ عثمان بن عفان سمع رجلاً يُحلّ بعمرة وحجّ فقال: عليَّ بالمهلّ، فضربه وحلقه.(20)
المصادر :
1- صحيح مسلم:4/32، 35
2- صحيح مسلم:4/36، 37 ،38
3- صحيح مسلم:4/40، باب حجة النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ .
4- صحيح البخاري:2/140، باب كيف تحل الحائض والنفساء.
5- صحيح البخاري:2/144
6- صحيح البخاري:2/142 ، باب التمتع والاقران والافراد بالحجّ.
7- صحيح مسلم:3/36، 37
8- صحيح مسلم:3/33، باب بيان وجوه الإحرام.
9- الأحزاب:36.
10- الحجرات:1.
11- صحيح مسلم:4/44، 48 ، 45
12- صحيح مسلم:4/48، 47.
13- صحيح البخاري:2/144باب التمتع.
14- زاد المعاد:1/214، ط مصر
15- كنز العمال:5/164 رقم 12477.
16- حلية الأولياء:5/205.
17- إبراهيم:37.
18- القصص:57.
19- البيان والتبيين:2/193; أحكام القرآن:1/290 ـ293; الجامع لأحكام القرآن:2/261; زاد المعاد:2/184، ط مصر.
20- المحلى:7/107، ط منشورات دارالآفاق الجديدة، بيروت
source : rasekhoon