إنّ التناسخ المطلق يعاند المعاد معاندة تامة، والقائل به ليس له التفوّه بعود الأرواح إلى الأبدان في النشأة الأخرى، لأنّ المفروض ان الروح تنتقل الى الأبد من بدن إلى بدن، بلا توقف، فلا مجال للنفس لكي تبعث في النشأة الأُخرى. ولعل أصحاب هذه النظرية لقلّة تدبّرهم حسبوا هذا النوع من الانتقال للنفس معاداً لها، فالمعاد عندهم هوانتقال النفس من بدن الى بدن في هذه النشأة دون أن تكون هناك نشأة اخرى.
ويردّها ان النفس عند هؤلاء لا تخلومن إحدى حالتين: إما أن تكون منطبعة في البدن، انطباع الأعراض في الجواهر، والصور الجوهرية في المادة، فهي ممتنعة الانتقال، اذ الانطباع ينافي الانتقال، والجمع بينهما جمع بين النقيضين، فانه يستلزم أن تكون النفس في حال الانفصال موجودة بلا موضوع، ومتحققة بلا محل.
وتكون مجرّدة تجرداً تاماً، ومع ذلك تكون دائمة الانتقال في الاجسام من غير لحوق بعالم النور وهوباطل أيضاً اذ العناية الالهية، تقتضي ايصال كل ذي كمال الى كماله، وكمال النفس العلمي يتحقق بصيرورتها عقلاً مستفادا1ً، فيه صور جميع الموجودات، وكمال العقل العملي يتحقق بالتخلية عن رذائل الأخلاق، والتحلية بمكارمها. فلو كانت دائمة الإنتقال، كانت ممنوعة عن كمالها، أزلاًوأبداً، والعناية الأزلية تأبى ذلك2.
إنّ التناسخ المطلق يعاند المعاد معاندة تامة، والقائل به ليس له التفوّه بعود الأرواح إلى الأبدان في النشأة الأخرى، لأنّ المفروض ان الروح تنتقل الى الأبد من بدن إلى بدن، بلا توقف، فلا مجال للنفس لكي تبعث في النشأة الأُخرى.
وبعبارة أُخرى: إنّ النفس الانسانية مستعدة لافاضة الكمالات عليها، فحبسها في الصياصي البدنية في هذه النشأة، وايقافها عن الصعود إلى النشأة الأُخرى، يخالف الحكمة الالهية المتعلقة بابلاغ كل ممكن الى غايته الممكنة.
الحركة الرجعية والتناسخ النزولي
والّذي يُبطل هذا النوع الثاني من التناسخ، استلزامه الحركة الرجعية للنفس من الأشد إلى الأنقص، ومن الأقوى إلى الأضعف بحسب الذات، وهوأمر محال وتوضيحه:
إن حقيقة التناسخ النزولي تتحقق بتعلق روح الإنسان بعد مفارقة البدن بالموت، بجنين إنسان وحيوان وخلية نباتية، والكل دونها في الكمال. فأصحاب هذا القول يتصورون أن النفوس المتوسطة تنتقل بعد فناء أبدانها إلى أجنة الإنسان والحيوان، وتعود إلى الدنيا لمتابعة مسيرة الاستكمال، والإرتقاء إلى درجة النفوس الكاملة.
ولكنه خيال باطل، لأن تعلق تلك النفوس بأجنة الإنسان والحيوان لا يخلومن صورتين:
الأُولى: أنْ تتعلق النفس بالجنين الإنساني والحيواني بما لها من الكمال المناسب لمقامه. وهذا غير ممكن عقلاً، لأن النفس ما دامت في البدن تزداد في فعليتها شيئاً فشيئاً حتى تصير أقوى وجوداً وأشد تحصُلاً. ومثل هذا لا يمكنه أن يتعلق بالموجود الأدنى منه، الّذي لا يتحمل ذلك الكمال وتلك الفعليّة، لعدم تحقق التعاضد والانسجام بينهما.
وبعبارة أُخرى: إنّ واقعية النفس التّي عاشت مع البدن أربعين سنة مثلا، واقعية تفتّح القوى وبلوغها مقام الفعلية. وأما واقعية النفس التّي تتعلق بالأجنة، فهي فقدان كلّ فعلية، وانتسابها الى جميع الكمالات بالقوة، فحسب. فالقول بتعلق تلك الفعلية بالجنين، جمع بين النقيضين. لأنهاعلى الفرض بما أنّها نفس إنسان مرّت عليه أربعون سنة، مستجمعة لجميع الكمالات بالفعل. وبما أنها تعلقت بالجنين، مستجمعة لها بالقوة فحسب. فتكون الكمالات في محل واحد وزمان واحد، بالفعل وبالقوة معاً، وهذا محال.
إن حقيقة التناسخ النزولي تتحقق بتعلق روح الإنسان بعد مفارقة البدن بالموت، بجنين إنسان وحيوان وخلية نباتية، والكل دونها في الكمال.
الثانية: أن تتعلق تلك النفوس بالأجنّة، لكن بعد تنزّلها عن فعليّاتها، وانسلاخها عن كمالاتها. وهذا النحومن التعلّق، وإن كان يوجد بين البدن والنفس تعاضداً وانسجاماً، لكن ذاك الانسلاخ إما ناشيء من ذات النفس ونابع من صميمها، وإما قد حصل بقهر من اللّه سبحانه. والأول لا يتصور، لأن الحركة الذاتية من الكمال إلى النقص غير معقولة، والثاني ينافي الحكمة الإلهية التّي تقتضى بلوغ كل ممكن إلى كماله الممكن3.
وبما أن القائلين بهذا النوع من التناسخ يخصّونه بالمتوسطين في الكمال والناقصين فيه، دون الكاملين في مجالي العلم والعمل، فهوعلى طرف النقيض من المعاد في الصنفين الأوّلين، دون الصنف الثالث الذين لهم الحشر والانتقال الى النشأة الأُخرى دون التناسخ.
نعم، المتوسطون والناقصون بعد انتهاء دورة التناسخ وزمنها ينتقلون إلى عالم النور فيكون لهم من الحشر ما للكاملين من أفراد الإنسان.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
-----------------------------------------
الهوامش:
1- العقل المستفاد أحد مراتب العقل الأربعة المصطلح عليها في الحكمة النظرية: وهي عبارة عن: 1 ـ العقل الهيولاني، 2 ـ العقل بالملكة، 3 ـ العقل بالفعل، 4 ـ العقل المستفاد، راجع في توضيحها شرح المنظومة للحكيم السبزواري، قسم الطبيعيات، مباحث النفس، ص 306 ـ 307.
2- شرح حكمة الإشراق المقالة الخامسة، الفصل الأول، ص 476، والأسفار، ج 9 الباب الثامن، الفصل الثاني.
3- ما ذكرناه تقريراً واضح لما أفاده صدر المتألهين، في أسفاره. لاحظ الأسفار، ج 9، ص 16.