عربي
Sunday 24th of November 2024
0
نفر 0

لا لعملية الهدم السلبي

لا لعملية الهدم السلبي

قال رسول الله (ص) : ( المؤمن كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا وإن وضعت وضعت طيبا وإن وقفت على غصن لم تكسره )

الإنسان بفطرته ينزع الى البناء ضمن حركة الموجودات التي تتجه باتجاه البناء في هذا الوجود , والبناء هو فطرة كل الخلق , و لكن قد يحتاج الإنسان السوي الى الهدم في بعض الأحيان , لاباتجاه الهدم وإنما باتجاه البناء , فلا يسمى هدما إلا من باب التجوّز, ولذا فإن البناء والهدم حركتان متضادتان إلا في مورد الهدم من أجل البناء. فالإنسان السّـوي هو الذي يبني , كما جاء في موضع هذ ا التشبيه الرائع الذي شبـّه فيه رسول الله (ص) المؤمن بالنحلة في هذه الحركة البنـّاءة , حيث يتمثـل عقـد الشـّبه في عـدّة وجوه :

 

أولا

في الحركة النشطة الدؤوبة , حيث تنشط النحلة في بناء بيتها , وتدعيم حياتها بكل ما أتيح لها من إمكانات دونما ملل أو سأم, فكذلك يجب أن يكون المؤمن جادا دؤبا في ميدان العمل والإبداع , يستبق مواقع الخير في كافة مجالات الحياة , دونما ملل أو ضجر أو يأس ۰

 

ثانيا

النظام والدقة , والتحرك المدروس في عملية التنقل من موقع الى موقع , بإلهام فطريّ حكيم , لإختيار الموقع اللائق والمنسجم مع طبيعتها وتركيبها ونتاجها , فكذلك يجب أن يكون تحرّك الإنسان المؤمن تحركا مدروسا حكيما , على كافة المستويات والأبعاد , منسجما مع المقياس الحقيقي لصوابه وهو مرضاة الله عزوجل ۰

 

ثالثا

الإنتقال من طيّب الى طيّب , ومن اثر نافع الى أثر نافع , في مجال الأخذ والعطاء , فلا يتوقع من النحلة أن تأخذ سمّا أو تعطي سمّا أو تضع مرارة الحنظل فيما تفرزه , كذلك لايتوقع من الإنسان المؤمن أن يكسب سـيّـئا أو يعطي سـيـّئا

 

رابعا

التحرّك دائما باتجاه البناء لا التخريب والهدم , كما جاء في ذيل الحديث الشريف (وإن وقفت على غصن لم تكسره ) , وهكذا فإن الإنسان المؤمن يتجه باتجاه المسيرة الفطرية لمجموعة الأحياء ۰ ولكن تبقى هناك سلوكية هدامة , هي سلوكية يعاني صاحبها من حالة مرضية في أعماق نفسه يعبر عنها بعملية الهدم (الهدم السلبي ) القائم على اساس تصفية وتسقيط الغير, والقضاء على كل الوجودات الخيرة , والعبور على أكتاف الغير الى الأهداف والغايات الخاصة۰ فكم خسرت الأمة على امتداد تأريخها من مواقف ومشاريع , كان بالإمكان أن تؤدّي دورا كبيرا في حياتها , وتنشئ لها قاعدة كبرى على مسرح الحياة الدنيا والآخرة , لولا عملية الهدم والتخريب الأناني , ولولا الحسابات العمياء التي لاتبصر الحياة إلا من خلال الأنا العدواني , الذي يسعى لمصادرة الآخرين وإلغاء دورهم , وحرمان الأمّة من عطائهم وفكرهم , ومن جهودهم وقيمهم , وإن اكثر عوامل التخريب والهدم خطورة وأشـدّها سلبيـّة هي :

 

أولا: الجهل

وليس معنى الجهل هنا كون الإنسان أميّا لايقرأ ولايكتب , أو لايعرف طريقة العمل , لأن أثر مثـل هذا الجهل مرفوع من ناحية التكليف بحديث الرفع , وإنما المقصود من الجهل هنا , هو التمادي في ارتكاب الخطأ , وتجاهل أثر الفعل. إذ قد يكون الإنسان من اصحاب الشهادات والإختصاصات المرموقة , ولكنه يتجاهل خطورة فعله وسلبية تصرّفه , وذلك عندما يزيّن الشـيطان له سوء عمله فيراه حسنا , كما قال عزوجل : ( وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لايشعرون ) البقرة :۱۱ – ۱۲, وقال تعالى : ( قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) الكهف : ۱۰۳ – ۱۰۴ وجاء عن أبي الحسن الرضا (ع) , – جوابا على سؤال علي بن سويد له عن العجب – قال : (العجب درجات , منها أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا , ومنها ان يؤمن العبد بربّه فيمنّ على الله عزوجل ولله عليه فـيه المنــّة )۰

 

ثانيا : غياب الشعور بالمسؤولية

وذلك نتيجة لغياب الرقابة الذاتية عن واقع النفس , فلو وقف الإنسان بين يدي الله عزوجل وقفة تامل , وعرض نفسه للمحاسبة , لإكتشف الخطر الكبير الذي يكتنفه ليعـّد العـدّة لمواجهته , لذلك جاء في الحديث الشريف ( رأس الحكمة مخافة الله). فإذا غابت مخافة الله عزوجل غاب الشعور بالمسؤولية , وإذا غاب الشعور بالمسؤولية غاب عنصر المحاسبة والمتابعة للأخطاء الخطرة على النفس والمجتمع والرسالة , وبذلك يتحول الإنسان الى إنسان متطاول ومتعدي , وبالتالي مخرب حتى لبنائه وحصنه كما تحدث القرآن عن عاقبة هؤلاء فقال عزوجل : (وظنوا انهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بايديهم وأيدي المؤمين فاعتبروا يا أولي الأبصار ) الحشر :۲ ۰

 

ثالثا: الأنانية

وهي رؤية الإنسان نفسه ومصالحه فوق كل الإعتبارات , وإيثار مصلحة الذات على مصلحة الأمة , فقد يمنح الإنسان العلم والثقافة والقدرة على تسنم هرم الحياة , فيصبح عضوا في جمعية أو ناد أو مؤسسة أو حركة إجتماعية او سياسية , فيتحول جهده وذكاؤه وعلمه وثقافته وقدرته على التخطيط والإبداع , الى سلوك أناني وهو خدمة الذات. وإن من اخطر عوامل الهدم والتخريب هو (الأنا ) , إذ ينتهي بالإنسان الى ثلاثة أنماط من السلوك والتعامل مع الغير هي :

 

أ – الإستبداد بالرأي

وتجاهل آراء الآخرين بعيدا عن الحكمة القائلة : ( من شاور الناس شاركها في عقولها ) , والإستبداد بالرأي نابع عن إيثار النفس على الغير بعيدا عن الأخلاقية الإسلامية العالية , التي تنص على إيثارالآخرين ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) والخصاصة هي الحاجة, فكما أن خصاصة الإنسان وحاجته الى الطعام واستفحال نهمة الجوع , تتصاغرأمام هذه الأخلاقية العالية , فيقدم الإنسان ما لديه لضيفه , فإن نفس الإنسان المؤمن وذاته ورأيه على مافيه من القوّة والجودة , يتصاغرأمام الآخرين وآرائهم. وإن بحكم سيادة هذا الخلق الإسلامي العالي , ستنتهي الأمة الى الراي الأصوب والأجدى في هذا أو في ذاك , أما إذا فقد عنصر الإيثار للآخرين واستبد كل برأيه , فسوف تنحدر الأمة أي انحدار , وتنهار مصالحها كما ينهار البناء إذا جرفته السيول العشوائية۰

 

ب- النهم السلطوية

والدكتاتورية السياسية أو الإقتصادية , فكما أن الأنانية تتجسد في سلوك الإنسان الأناني بإحتكار الطعام والدواء والسلع, ومصادرة مصالح الأمة في المجال الإقتصادي , فكذلك تتجسد الأنانية على المستوى السياسي , في الإستئثار بالسلطة والمنصب , وعدم فسح المجال أمام الطاقات والإمكانات التي يمتلكها الغير, بل الأكثر من ذلك، ما يفرزه النهم السلطوي من قمع الآخرين , ومصادرة حريّاتهم , والإستحواذ على مقدّراتهم , وعدم الإهتمام بهم , قال رسول الله (ص) : (مـن لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهـم). فالسياسة في منطق الدين , هي الرعاية والحب للآخرين , وتوفيرالسلام والحرص على الصالح العام , أما في منطق الذات والأنا , فالسياسة هي احتكار المنصب واحتلال مركز الصدارة لخدمة المصلحة الشخصية , وهذا هو الفرق في كون السياسة والمنصب وسيلة أو غاية, حيث رفضها الإمام أمير المؤمنين (ع) في مضمون قوله: (ما إمرتكم عندي إلا كشع هذا النعل ما لم أقم حقا أو أبطل باطلا ) ۰ كما قدم لنا رسول الله (ص) حكومة الإنقاذ من واقع الذات والضمير الإنساني قبل أن يفكر الناس في حكومة الإنقاذ الوطنية , وقدم لنا (ص) مثالا لخدمة الجماعة والدفاع حتى وإن كلف ذلك الحياة , إنطلاقا من قول الله عزوجل : ( وما لكم لاتقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) , فـقال۵: (من رد عـن قـوم عادية ماء أو نار وجبت له الجنة ) ۰

 

ج- الحسد

وهومن مظاهر السلوك الأناني , فإن الحسود هو الذي لايستطيع أن يرى أحدا ينعـم بالخير, ولايحب لغيره التفوق الفكري أوالإجتماعي أو السياسي ۰ فهو بدلا من أن يقوم بإسلوب المنافسة المشروعة , تراه يدخل في عملية تخريب وهدم لكيان الآخرين , وإسقاط لكل الإعتبارات التي تمت الى بناء شأنهم ۰ بل قد تصل الحالة الى إلغاء الذوات الخيرة من هذا الوجود نهائيا , بهدف الإعاقـة لكل مشروع يصب بإتجاه صالح الأمة , كما أشار القرآن الكريم الى أول جريمة قتل في التأريخ , كان دافعها الحسـد الأناني فقال عزوجل : ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قـربا قربانا فتقبل مـن أحدهـما ولـم يتقـبل مـن الآخر قال لأقـتلنك قال إنـّما يتقـبل الله مـن المتقـين * لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسـط يدي إلـيك لأقـتلك إني أخاف الله ربّ العالمين * إنّي أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكـون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمـين * فطـوّعت له نفسه قـتل أخـيه فقتله فأصبح من الخاسرين ) المائدة : ۲۷-۳۰ ۰ وهكذا يمكن للذات الإنسانية أن تنتكس في الحضيض البهيمي المذموم , كما يمكن لها أن ترتفع الى قمة الخلود الممجّد على مرّالتأريخ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحثّ على الجهاد
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية
بعض اقوال علماء اهل السنة والجماعة في يزيد ابن ...
الله سبحانه وتعالى احيا الموتى لعزير
کيف نشأة القاديانية و ماهي عقيدتها
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ ...
العلاقة بين رجل الدين والمجتمع
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
ما تفسیر آیة "ما یَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ ...

 
user comment